مقامرة على شرف الليدي ميتسي.. مباراة في مطاردة الأمل
تاريخ النشر: 6th, February 2024 GMT
ترى ما الذي يجمع ولدًا بدويًّا، وسيدةً إنجليزية، وضابطًا متقاعدًا مع سمسارٍ للخيول في مكانٍ واحد؟
تختصر إجابة هذا السؤال سطور رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" (2023)، وتعطي للقارئ لمحة عن شخصياتها الرئيسة التي رسمها الكاتب الشاب أحمد المرسي منذ البداية وعلى مدار الفصول برشاقة وبساطة غير موغلة في التفاصيل لكنها كاشفة عن ثقوب غائرة في النفوس، منطلقا من تلك العلاقات الإنسانية الخفية؛ البسيطة منها والمعقدة.
"إن هؤلاء الذين لم يصلوا لأمانيهم يعيشون طوال حياتهم وهم يجرُّونها وراءهم، كمن رُبِطَت فيه جثة".
منطلقا من الموت، بدأ المرسي روايته، من جثة فوزان الطحاوي؛ الذي ودّع الحياة وحيدا ليبقى رحيله خفيا لساعات طويلة، من مشهد موت فوزان نتعرف على ابن عمه، الذي جاء مسرعا لا لحبه للفقيد بل بحثا عن ميراث ضاع وتاريخ طويل من الانتظار لتلك اللحظة التي يسترد فيها الإرث المنهوب.
يأخذنا معه في رحلة بحثه عن أوراق تثبت أملاكه إلى صورة تجمع فوزان طفلا يمتطي "شمعة" (الفرسة العربية الأصيلة) إلى جانب سيدة إنجليزية تدعى "ميتسي"، وسمسار الخيول مرعي، والضابط المصري سليم حقي المقال من الخدمة.
وهكذا تنقلنا الصورة إلى عشرينيات القرن الماضي بين أحداث وأفكار، لم تعد مألوفة لنا اليوم من سباقات للخيل في تلك الحلبة التي جمعتهم معا، وأفكار تتأرجح بين الثورة التي كان الزعيم الوطني سعد زغلول (1858م – 1927م) قد أججها في نفوس المصريين، والإحباط الذي نال الضابط سليم حقي بعضا منه حينما أخذته الفورة الوطنية ليرفض ضرب رجل مصري عندما كان على رأس عمله البوليسي ليفقد عمله لاحقا ويعيش بائسا في عالم الفقر والعوز.
بين ضفاف التعلق والأمل"هل تستحق الأمنيات البعيدة كل تلك المخاطرة؟ هل تفعل الهشاشة كل ذلك؟ هل يمكن أن تخرب أمنية حياة إنسان؟".
كثيرة هي الأسئلة التي طرحها الكاتب في عمله، فنجده يجعل أبطاله يتحدثون مع أنفسهم ومع الآخرين بصيغة استفهامية عن مفاهيم كبرى في النفس، محاولا ربط الماضي بالحاضر.
وإذا أردنا أن نجد خيطا يجمع كل شخصيات تلك الرواية غير مآسي أبطالها المرتبطة بالوحدة والخوف والتعلق بالماضي فهو الأمل، ذلك الخيط الرفيع الذي لو أجدنا التعلق به يمكن أن تستمر الحياة وبالتخلي عنه يموت الشخص حتى لو كان حيا يرزق.
يرمينا الكاتب بين ضفاف التعلق والأمل، من السيدة الإنجليزية التي تركت بلدها وسافرت بعيدا لتواصل مطاردة حلم الفوز بأحد سباقات الخيل، إلى الضابط المحبط الذي فقد كل شيء في لحظة ثورة، إلى مسافة غير مرئية يعيشها مرعي المصري بين حياة باذخة "للبكاوات والباشاوات" وواقع مرير بين حواري القاهرة وأزقتها ليبقى معلقا بين عالمين متناقضين وخيال حبيبة قادتها أفعاله إلى مصير مؤلم.
رواية تاريخية أم نفسية؟رغم كون الأحداث في زمن ماض وتحمل بين طياتها قراءات تاريخية مهمة، فإن القارئ سيجد بعضا من مآسي عالمنا هناك مرسومة بدقة في الرواية، ربما اختار الكاتب أن يكون زمن أحداث الرواية في الماضي لكن المشاعر والحالة النفسية والإنسانية التي عاشها أبطاله تشبه ما يؤرق القراء المعاصرين، لذا فالرواية نفسية أكثر منها تاريخية وإن عرجت على أفكار عدة مثل الوجود الأجنبي في مصر والثورة، ولكنها بالأساس رواية إنسانية عميقة.
حافظ المرسي على وتيرة هادئة لسرده وانتقال ممتع بين فصوله من دون أن يغرق في فخ الملل الذي ربما يرافق الروايات التاريخية، ففي الوقت الذي اهتم فيه برسم الشخصيات على مراحل متباعدة جعلنا نغرق مع أبطاله، ونعيش لحظات الهزيمة ونتجرع طعمها بهدوء وروية تليق برواية تأملية؛ نراجع معها خيباتنا ونرى سليم أفندي عاجزا، وفوزان مقهورا وحيدا، ونشفق فيها على مرعي عندما يقع في الحب ونود لو نستطيع الطبطبة على كتف "الليدي" ميتسي عندما تفقد الأمل.
خداع الأمل"إن المنحة الوحيدة التي يمكن أن يمنحها العقل لكل من فقدوا الأمل هي المقدرة على خداع أنفسهم بأمل جديد".
كما اجتمع الخمسة في صورة، تعكس تنوعهم؛ جمعهم واقع وجودهم في محيط لا يشبههم، غرباء، يتجاذبون الأماني؛ ليستند كل منهم على الآخر، رغم وهنه في محاولة للهروب من واقع يؤرقهم، لكن لكل منهم طريقته فمرة يغرقون في براثن الماضي، ومرة يحسنون التشبث بطوق النجاة، لتطرح الرواية سؤالا مهما، هل الأمل وحده كاف للوصول أم يجب أن نقطع كل أوصال التعلق قبل أن تختار معركة التمني؟
جاءت اللغة في الرواية بسيطة رغم وجود كلمات ومصطلحات لم تعد دارجة في مصر حاليا بل كانت رائجة منذ قرن مضى، وهذه نقطة أخرى تضاف إلى قوة الرواية فرغم كونها صادرة في عام 2023، فإن الكاتب بدا كباحث نهم ليس عن مصطلحات اندثرت قبل عشرات السنين فقط، بل عن التركيبات اللغوية المنتشرة وقت حدوثها.
إضافة إلى نقل هوية ذلك الزمن من المقامرات التي كانت تميزه كسباقات الخيول وعراك الديوك، وعرج منها إلى تصميم المباني، ورائحة البيوت، لكن وحدها الأفكار التي رافقته من هناك إلى عالمنا.
عند الانتهاء من القراءة ستشعر برغبة قوية في اكتشاف قصر البارون والمشي في شوارع مصر الجديدة التي لم تعد كذلك ولكنها ما زالت تحتفظ بالاسم ذاته، وربما يقودك فضولك إلى اكتشاف جزيرة الطحاوية لتفتش بنفسك عن خيلهم الأصيل. وستبحث حتما عن مصارعة الديوك وسترى قصر الاتحادية بشكل مختلف عندما تتخيله مقرا لسباقات الخيول.
بعد أن تصل إلى الصفحة الأخيرة "تمت"، ستعود مجددا للصفحات الأولى باحثا عن بداية الفكرة، التي ربما غابت عنك في ظل تغلغل ذاتك مع شخوصها؛ لتكتشف أنك عرفت النهاية مبكرا لكنك لا تريد تصديقها بل تود لو كانت أكثر بهجة، وتتمنى لو تم إطلاع أبطال الرواية على مصائرهم ليغيروها ولو بقدر قليل.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
هذه هي خلاصة 43 سنة... الآتي أفضل من الماضي
في بدايات عملي الصحافي انتدبتني إدارة جريدة "العمل"، حيث كنت أعمل، لتغطية المسار التفاوضي المباشر بين لبنان وإسرائيل في كريات وشمونة ونتانيا وخلده، ولاحقًا في الضبية. يومها قاد رئيس الوفد اللبناني السفير أنطوان فتال معركة شرسة مع الإسرائيليين، الذين كانوا قد وصلوا في احتلالهم إلى بيروت، أول عاصمة عربية تُحتل من قبل الجيش الإسرائيلي. وهذه المعركة الشرسة، التي قادها لبنان أفضت إلى اتفاق سُمّي بـ "اتفاق 17 أيار"، وهو في الحقيقة التاريخية كان اتفاقًا لجلاء الجيش الإسرائيلي عن كل شبر من الأراضي اللبنانية. إلاّ أن الظروف القاسية، التي كان يعيشها لبنان في ظل احتلاليين لأراضيه، الجيش الإسرائيلي من جهة والجيش السوري من جهة أخرى، أملت على الرئيس الشيخ أمين الجميل عدم التوقيع النهائي على هذا الاتفاق على رغم موافقة مجلسي النواب والحكومة برئاستي الرئيسين كامل الأسعد وشفيق الوزان. فظروف الأمس هي غير ظروف اليوم، مع أن المشكلة الأساسية هي ذاتها لم تتغيّر وقائعها منذ 43 سنة، وهي أن إسرائيل هي هي اليوم وأمس وغدا. ففي تاريخ المواجهة الطويلة بين لبنان وإسرائيل، شكّلت محطات التفاوض الكبرى علامات فارقة عكست في كل مرة ميزان القوى في لحظتها، والاصطفافات الإقليمية والدولية التي كانت تتحكّم بمسار الحرب والسلم. واليوم، مع انطلاق عمل لجنة “الميكانيزم” برئاسة السفير سيمون كرم لبنانيًا، يعود النقاش إلى الواجهة، ونسأل: هل يمكن للبنان أن يبني على تجارب الماضي، من اتفاق 17 أيار إلى تفاهم نيسان، مرورًا بالقرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار الأخير، ليشقّ طريقه نحو تثبيت حدٍّ أدنى من الاستقرار، أم أن الظروف الجديدة مختلفة جذريًا ولا تسمح بإسقاط مقاربات الأمس على مشهد اليوم؟لم يكن اتفاق 17 أيار أكثر من محاولة لفرض واقع سياسي مختلف على رغم الضغط الاحتلالي. فإسرائيل كانت في قلب لبنان، من بيروت إلى الجنوب، فيما كانت السلطة الشرعية الخارجة من عمق الحروب الخارجية والداخلية ضعيفة وممزقة. أمّا اليوم فالوضع مختلف، شكلًا ومضمونًا. وهذا ما يسمح للسلطة بالإمساك بالقرار التفاوضي، ولو جزئيًا، بوضع المسار التفاوضي "الميكانيزمي" في موقع مختلف تمامًا. وما واجهه لبنان في اتفاق 17 أيار لم تكن ظروفه مختلفة حين توصّل إلى "تفاهم نيسان" على إثر حرب "عناقيد الغضب"، في لحظة تقاطعت فيها المصالح الإقليمية بين واشنطن وباريس ودمشق وتل أبيب. لم يكن هذا التفاهم، في نظر الخبراء، لتثبيت سلام، بقدر ما كان تفاهمًا لتنظيم الحرب وضبط حدودها تحت عنوان واحد: "المدنيون خارج اللعبة العسكرية". وهذا ما يعيدنا إلى معادلة "قواعد الاشتباك". فبعد حرب تموز، فرض القرار 1701 توازنًا جديدًا، قضى بتعزيز الجيش جنوب الليطاني للمرة الأولى منذ عقود، وتعزيز دور قوات "اليونيفيل"، ووقف العمليات الحربية. هذا القرار كان حصيلة حرب واضحة، وكرّس نوعًا من الردع المتبادل الذي صمد لسنوات طويلة، إلى أن جاء قرار "توحيد الساحات" ومساندة فلسطيني قطاع غزة، والحرب الشاملة التي أدّت في نهاية المطاف على موافقة "حزب الله" على اتفاق لوقف النار، الذي لم يكن كنتيجة لحسابات لبنانية – إسرائيلية فقط، بل جاء نتيجة مسار الحرب في غزة. وهو لم يؤدِ سوى إلى هدنة هشة، بلا ضمانات واضحة، وهي مرتبطة بمجريات الميدان الفلسطيني أكثر مما هي مرتبطة بواقع الجنوب اللبناني. إلاّ أن هذا الواقع، على رغم مرارته، فرض على لبنان خيار التفاوض مع إسرائيل بثلاثة شروط، فيما تربط إسرائيل أي خطوة في هذا الاتجاه بملف السلاح جنوب الليطاني.
فعلى خلاف كل المحطات السابقة، لا تحمل لجنة "الميكانيزم" صفة اتفاق سلام، ولا تشبه تفاهم نيسان، ولا تتمتع بثقل 1701. إنها أقرب إلى منصة تقنية – سياسية لإدارة النزاع وتدويل الخروق ومحاولة ضبط الهدنة الهشة، أكثر مما هي مسار حل نهائي. وللمرة الأولى منذ عقود، يدخل لبنان هذا المسار بوفد رسمي واضح، تقوده الدولة لا القوى العسكرية ولا الوسطاء الإقليميون. وفي هذا التحوّل تكمن أهمية هذه الخطوة. لكن الرهان يبقى محاطًا بأسئلة كثيرة، ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر: هل يمكن لهذه اللجنة أن تُنتج قواعد اشتباك جديدة، وهل يمكن أن تُشكل ضغطًا دوليًا على إسرائيل لوقف خروقها اليومية، وهل يتحمّل الداخل اللبناني تبعات التفاوض وسط الانقسام الحاد حول خطوة تعيين السفير كرم رئيسًا للوفد اللبناني، وهل تملك واشنطن، التي تمسك بمفاتيح التهدئة، إرادة الذهاب بعيدًا في تسوية جنوبية مستقلة عن مصير غزة؟ ينظر البعض إلى لجنة "الميكانيزم" كنافذة ضيقة في جدار الأزمة. وينظر إليها آخرون كمرحلة جديدة من مراحل إدارة النزاع لا حله. لكن المؤكد أن لبنان يدخل هذه التجربة بوعي أكبر لمخاطر الماضي، وبإصرار على أن يكون شريكًا في القرار لا مجرد ساحة تتلقى نتائج صراع الآخرين. المصدر: خاص "لبنان 24" مواضيع ذات صلة سلام عن العلاقة مع سوريا: طوينا صفحة من الماضي ونسعى لتطوير هذه العلاقة في مختلف المجالات Lebanon 24 سلام عن العلاقة مع سوريا: طوينا صفحة من الماضي ونسعى لتطوير هذه العلاقة في مختلف المجالات