لا توجد على الخريطة خطوط طول ودوائر عرض تحدد بدقة أماكن الفساد أو تكشف الذين يعيشون عليه ويتربحون منه، ولا توجد أيضًا سمات شخصية ظاهرة يمكن من خلالها فرز الفاسدين عن غيرهم، فالحيلة والخداع وارتداء أقنعة الشرف وثياب الفضيلة والعمل الصالح من القواعد الأساسية لممارسة الفساد، ولكن القضايا التى تكشفها الأجهزة الرقابية، تؤكد أن الأماكن المحتملة لتواجد بؤر الفساد والبيئات الحاضنة له، هى تلك الأماكن التى تزداد فيها عوامل الإغراء لممارسة تلك العمليات، ويرتفع مؤشر هذا التواجد كلما اتسعت دائرة سلطة الفرد وقدرته على اتخاذ القرار أو المشاركة فيه.
وتؤكد لنا تلك القضايا أيضًا أن الفساد دوائر مغلقة وشبكات منظمة وسلاسل متشابكة، وسقوط شبكة فساد بوزارة التموين مؤخرًا وكان من بينهم مستشار الوزير للرقابة والتوزيع خير مثال على ذلك، ولن نجد صعوبة فى سرد وقائع مشابهة كشفت عنها الأجهزة الرقابية من قضايا رشوة واختلاس واستغلال نفوذ واستيلاء على المال العام أو تسهيله.
الخطير فى الأمر، هو ذلك «الفتور» الذى يصيب البعض بعد سماع خبر سقوط إحدى تلك الشبكات فى قبضة الأمن، فهل تسرب إلينا هذا الإحساس وتلك «اللامبالاة »، بعد أن أمسى شعار «كرمش إيدك وانجز نفسك واكسب وقتك» من البديهيات، وأصبح الجشع والاحتكار«لقمة عيش حلوة»، وأضحت أساليب الفهلوة «شطارة» ، فصار لدينا فساد «مُتًّفَقٌ عَلَيْه» تعايشنا معه وارتضينا به طوعًا وكرهًا؟!.
هل انتقلت إلينا تلك الحالة مع عمليات الترحال اليومية تحت رحمة سائق «ميكروباص» قرر أن يرفع التعريفة «الأجرة» على الركاب و«اللى مش عاجبه ينزل»! أو اتخذ قرارًا «بتقَطِيع» الطريق وتقسيمه إلى محطات حسب الهوى لمضاعفة المكاسب من مسافة واحدة، دون أن يشعر أحدهم بالخجل من اعتصار نساء ورجال وأطفال فى طوابير الانتظار و«المحايلة»!
هل سيطر علينا هذا «الفتور» بعد تكرار مشاهد دفع الأموال وتوزيع الوجبات و«الكراتين» أمام بعض اللجان الانتخابية، ثم ألِفنا مشاهد شحن البعض وتفريغهم أمام تلك اللجان، ولم يعد غريبًا على أسماعنا تداول أسعار بورصة «الصوت وصل عندك كام؟»، فاعتدنا تلاعب الصغار، ولم يعد يدهشنا سقوط الحيتان؟!
على كل حال، لا توجد دولة خالية من الفساد، ولا توجد أزمنة خلت منه، ليكون الفارق الوحيد فى كل زمان ومكان، هو قدرة المجتمع على التخلص من هذا الوباء والقضاء عليه، لأنه أصل الشرور والانهيار والسقوط.
فى كتاب «سنغافورة من العالم الثالث إلى العالم الأول»، يحكى «لى كوان يو، 1923- 2015»، رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، كيف تمت مواجهة عمليات الفساد المنظمة فى البلاد، يقول: آلمنا طمع وفساد وانحلال العديد من الزعماء الآسيويين، لقد تحول المقاتلون فى سبيل الحرية والمناضلون لإنقاذ شعوبهم المضطهدة إلى زمر من الفاسدين الذين يبذرون ويبددون ثرواتها، فتخلفت مجتمعاتهم وتدهورت أحوالها.
يقول: كان لدينا إحساس عميق بضرورة تأسيس حكومة نظيفة اليد ذات كفاءة، وتأكدنا منذ اليوم الذى استلمنا فيه الحكم فى يونيو 1959 أن كل دولار من العائدات سوف يسجل ويصل كله إلى المحتاجين على مستوى القاعدة الشعبية، دون أن يقتطع منه شىء فى الطريق إليهم، وهكذا ومنذ البداية ركزنا انتباهنا بصورة خاصة على المجالات التى كانت فيها السلطات القادرة على اتخاذ القرارات الصائبة عرضة للاستغلال من أجل المكاسب الشخصية، وعملنا على صقل الأدوات والوسائل التى يمكنها منع واكتشاف أو ردع مثل هذه الممارسات.
ويؤكد «لى كوان يو» أنه من السهولة البدء نظريًا بمعايير أخلاقية سامية، وقناعات قوية راسخة، وتصميم أكيد على القضاء على الفساد، لكن من الصعب البقاء على مستوى هذه النوايا الصافية إلا إذا امتلك الزعماء ما يكفى من القوة والتصميم على التعامل مع المخالفين ومنتهكى القانون دون أية استثناءات.
ويرى «لى كوان يو» أن الشرط الضرورى المسبق للحكومة المخلصة النظيفة، ألا يحتاج المرشحون إلى مبالغ مالية كبيرة للفوز فى الانتخابات، وإلا سوف يطلق ذلك الحلقة المفرغة من الفساد، فبعد أن ينفق الفائزون مبالغ كبيرة للفوز فى الانتخابات يحاولون استعادة ما دفعوه وجمع الأموال اللازمة للانتخابات القادمة، النظام يؤبد - أى يفقرـ ذاته بذاته.
فى النهاية.. إذا أردنا الصمود وسط عالم يزداد توحشًا ويتكالب على تقطيع والتهام الجثث الهامدة، علينا كمجتمع وأفراد بجانب تلك الجهود المكثفة من الأجهزة الرقابية، محاربة جميع دوائر الفساد ومحوها صغيرها قبل كبيرها، نحن فى حاجة إلى التخلص من ذلك الفساد «المتفق عليه» وإزالة آثاره من حياتنا لنبقى على قيد الحياة.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: فساد م ت ف ق ع ل ي ه بوزارة التموين
إقرأ أيضاً:
بعد تسببه فى وفاة 18 فتاة وسائق.. تعرف على العقوبة التى يواجهها سائق الطريق الإقليمى
تنظر محكمة جنايات المنوفية، الثلاثاء القادم، أولى جلسات محاكمة سائق ومالك السيارة المتسببة في حادث الطريق الإقليمي بمحافظة المنوفية، والذى راح ضحيته 18 فتاة وسائق الميكروباص الذى كان يقلهم أثناء توجههم للعمل وإصابة 3 آخرين، و يوضح اليوم السابع فى النقاط التالية عقوبة القيادة تحت تأثير المخدر فى قانون المرور.
تصدى قانون المرور بحسم لكل الحالات التى قد تتسبب فى حوادث الطرق، وفى مقدمتها قيادة السيارات فى حالة سكر أو تحت تأثير المخدر بعقوبات تصل إلى سحب الرخصة والحبس.
وفى هذا الصدد، جاءت المادة (76) لتقضى بمعاقبة كل من قاد مركبة وهو تحت تأثير مخدر أو مسكر أو السير عكس الاتجاه فى الطريق العام داخل المدن أو خارجها بالحبس مدة لا تقل عن سنة.
ووفقا للمادة القانونية، فإنه إذا ترتب على القيادة تحت تأثير مخدر أو المسكر أو السير عكس الاتجاه إصابة شخص أو أكثر يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه.
وأفادت المادة بأنه حال ترتب على ذلك وفاه شخص أو أكثر أو إصابته بعجز كلى يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 3 سنوات ولا تزيد على 7 سنوات وغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه.
وتقضى المادة القانونية، بأنه فى جميع الأحوال يقضى بإلغاء رخصة القيادة، مع عدم جواز منح رخصة جديدة إلا بعد مرور مدة مساوية لمدة الحبس المقضى بها عليه.
وقالت النيابة العامة فى بيان لها يوم 1 يوليو الجاري، إنه إلحاقًا ببيانيها بشأن التحقيقات التي تجريها في الحادث المروري الذي وقع أعلى الطريق الإقليمي بدائرة مركز أشمون بمحافظة المنوفية، أمرت النيابة العامة بإحالة سائق ومالك السيارة المتسببة في الحادث محبوسَين إلى محكمة الجنايات المنعقدة بجلسة يوم الثلاثاء 8 يوليو.
أولا: التهم المنسوبة للمتهم الأول
- اتهام السائق بتعاطي جوهري الحشيش والميثامفيتامين المخدرين
- ارتكاب جريمتي القتل والإصابة الخطأ، حال قيادته السيارة عكس اتجاه الطريق العام، وبرخصة لا تجيز له قيادتها، وتحت تأثير المواد المخدرة، وبحالة ينجم عنها الخطر
- فضلًا عن إحداث تلفيات بالأعمال الصناعية الكائنة بالطريق العام، وإتلاف مركبة مملوكة للغير بإهماله.
ثانيا: التهم المنسوبة للمتهم الثاني
- أسندت النيابة العامة إلى مالك السيارة جنحة السماح للسائق بقيادتها حال علمه بعدم حصوله على رخصة تجيز له ذلك، مما أدى إلى وقوع الحادث الذي أسفر عن وفاة تسعة عشر مواطنًا، وإصابة ثلاثة آخرين، وإلحاق تلفيات بممتلكات الغير.
وأقامت النيابة العامة الدليل على المتهمَين مما أسفرت عنه التحقيقات، من ثبوت خطأ السائق بمفرده، وتسببه في وقوع الحادث دون وجود أي عوامل خارجية ساهمت في حدوثه، حيث حاول تجاوز السيارة التي أمامه، بأن تعمد السير في الاتجاه المعاكس للطريق العام، متخطيًا الحاجز الفاصل بين الاتجاهين، حال كونه واقعًا تحت تأثير المواد المخدرة، مما أدى إلى اصطدامه بسيارة نقل ركاب ووقوع الحادث.
وقد مكنه مالك السيارة من قيادتها رغم علمه بعدم حصوله على رخصة تجيز له قيادة تلك المركبة.