لوموند تنقل شهادات جديدة حول مجزرة الطحين في غزة
تاريخ النشر: 10th, March 2024 GMT
نقلت صحيفة لوموند شهادات جديدة حول "مجزرة الطحين" في غزة، حيث استشهد في 29 فبراير/شباط، 118 فلسطينيا وأصيب 760 أثناء انتظار قافلة مساعدات إنسانية، وقال بعض الناجين إنهم كانوا أهدافا للنيران الإسرائيلية.
وأوضحت الصحيفة الفرنسية -في تقرير بقلم كلوتيلد مرافكو- أن شائعات انتشرت في مدينة غزة وقتها تفيد أن توزيع المساعدات قد استؤنف عند البوابات الجنوبية للمدينة، وجاء البعض فعلا بأكياس الطحين للمرة الأولى منذ أسابيع، وذلك في وقت حل فيه الجوع محل الخوف من القنابل في الضواحي المدمرة في شمال القطاع.
وفي 28 فبراير/شباط، سمع صالح (37 عاما) عن إحدى هذه التوزيعات على الساحل، وتردد في الذهاب إليه لأنه "في كل مرة يتعرض الناس لإطلاق النار" أثناء انتظار القوافل، خاصة أن حوالي 10 فلسطينيين قُتل قبل ذلك بـ3 أيام في دوار النابلسي، وأن الأمم المتحدة وثقت حوالي 15 واقعة تم فيها استهداف سكان غزة أثناء التوزيع، وهو ما أوقع قتلى.
يقول صالح: "لم أر الدقيق الأبيض منذ شهرين. الكيس من وزن 25 كيلوغراما يُباع بحوالي ألف دولار. قررت الذهاب إلى هناك مع الأصدقاء. خرجنا مبكرا، أشعلنا النار لأن الجو كان باردا"، وقال الصحفي محمد قريقع، الذي ذهب إلى هناك ثم غادر: "كان الناس على الشاطئ، والبعض الآخر على الطريق الإسفلتي، ولجأ البعض إلى المباني المدمرة المحيطة".
ويؤكد مكتب "كوغات" التابع للجيش الإسرائيلي والمسؤول عن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، أن هذه المساعدات جاءت من دول ومنظمات دولية. وأوضح شيمون فريدمان، المتحدث باسم مكتب تنسيق أعمال الحكومة لوسائل الإعلام الدولية، لصحيفة لوموند أن الإسرائيليين "ساعدوا في تنسيق القوافل مع مقدمي الخدمات من القطاع الخاص". وبحسب السيد قريقع، فإن الشاحنات مملوكة لعدد من العائلات الغزية البارزة التي كانت تعمل في مجال النقل قبل الحرب.
مات بين ذراعي
وبحسب كوغات، فإن القافلة وصلت حوالي الساعة 4 صباحا إلى نقطة التفتيش على طريق الرشيد الساحلي، وكانت تتكون من 33 شاحنة، ولكن وسام الشمالي، الذي كان شاهدا على ما حصل، لم يحصِ إلا "11 أو 12″ شاحنة.
وبعد نصف ساعة سمح للشاحنات بمواصلة رحلتها برفقة الدبابات، و"عندما وصلت المساعدة إلى السد، ركض الناس للاستيلاء عليها -كما يقول هذا الغزاني ذو 27 عاما، وبدأت الدبابات الإسرائيلية من نقطة التفتيش، بإطلاق النار على الجميع".
وبحسب وزارة الصحة في غزة، قُتل 118 شخصا وأصيب 760 فيما أطلق عليه الفلسطينيون "مجزرة الطحين"، ولكن الجيش الإسرائيلي الذي قدر أن 12 ألفا من سكان غزة كانوا حاضرين في عملية التوزيع، يقول إن معظم الضحايا لقوا حتفهم نتيجة التدافع أو سحقتهم شاحنات المساعدات.
لكن العديد من الشهود يقولون إن إطلاق النار استمر أكثر من ساعة -حسب ما نقلته الصحيفة- التي نقلت كذلك اعتراف الجنود الإسرائيليين بإطلاق النار في الساعة 4:30 فجرا ثم في الساعة 4:45 فجرا، وزعمهم أنهم انسحبوا في الساعة 5 صباحا.
واستهدف الجيش بعض الفلسطينيين بشكل مباشر، وكتب في بيان له: "لم تطلق قواتنا النار على القافلة الإنسانية، لكنها أطلقت النار على عدد من المشتبه بهم كانوا يقتربون من القوات المجاورة ويشكلون تهديدا".
لكن صلاح يفند ذلك ويقول: "أطلقوا النار بشكل عشوائي على كل من كان حاضرا"، وبمجرد أن بدأ إطلاق النار، وقد قتل 7 أشخاص بجواره مباشرة وأصيب هو نفسه بشظية تحت عينه، قرر الابتعاد واختبأ تحت الدرج: "لم يكن لدي خيار آخر، لم أتمكن من العودة إلى جانب الميناء، كنت محاصرا. إذا نزلت إلى الشاطئ، كان القناصة يطلقون النار على من كانوا هناك. وعلى الطريق الرئيسي أطلقت الدبابات أيضا النار".
بعد فترة، نزل صالح من الدرج وبدأ بالجري، وسمع صبيا صغيرا (13 أو 14 عاما) يردد "لا أريد أن أموت، خذني إلى المستشفى". ويضيف: "حاولت أن أحمله وأنا أهرب وطلبت المساعدة. مات بين ذراعي. واستمر إطلاق النار في المنطقة، وكان الأمر لا يوصف".
وأفاد محمد قريقع أن الضحايا توافدوا على غرفة الطوارئ بمستشفى الشفاء حوالي الساعة 5:30 صباحا، و"كان 3 أرباعهم مصابين بطلقات نارية في الصدر والقلب والدماغ والكتفين". ولم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشال جميع الجثث، لأن القوات الإسرائيلية كانت لا تزال في الموقع.
وفي الأول من مارس/آذار، قال مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إن من المعتقد أن الفلسطينيين قُتلوا "بنيران القوات الإسرائيلية، ولكن أيضا أثناء التدافع والسحق بواسطة المركبات المتحركة"، ودعا إلى إجراء تحقيق "سريع ومستقل ومحايد". ويقول الجيش: "سيستمر التحقيق في الحادث".
وقد حضر بلال العيسي مع شقيقيه في 29 فبراير/شباط، وعندما أدرك أن الحشد يندفع نحو القافلة، خاف وعاد أدراجه، ثم "فجأة سقط ولم يكن باتجاه الشاحنات ومع ذلك تم استهدافه. كان من أوائل المتوفين شمال الدوار"، بحسب عمه الذي كان ينتظرهم على مسافة بعيدة. ويؤكد أن الرصاصة أصابت العيسي من الخلف، وتوفي الشاب قبل وصوله إلى المستشفى.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الغرب يُسلّح “إسرائيل” ويُرسل الطحين ببطاقات عبور
في عالم باتت فيه الكلمة تُصاغ بمداد القوة، لا بالحقيقة، تتحول الكارثة الإنسانية في غزة إلى مشهد رمزي يكشف زيف النظام الدولي، وانهيار القيم التي طالما تباهى بها الغرب: حقوق الإنسان، القانون الدولي، العدالة. إذ بينما تمطر الطائرات «الإسرائيلية»، بدعم عسكري أميركي وأوروبي سافر، أحياء غزة بالصواريخ، تُرسل بعض الدول الغربية -بمنتهى النفاق- شاحنات طحين عبر مؤسسات دولية، محكومة ببطاقات عبور، إلى أولئك الذين نجوا من المجازر إلى حين.
إنّ المعضلة هنا ليست فقط في التواطؤ، بل في التأسيس لمنظومة إبادة جديدة، لا تتجلى فقط في أدوات القتل، بل في أدوات «المساعدة». لقد تحوّل الطحين إلى أداة سياسية بامتياز، يُوزّع بحذر شديد، ويُقرَّر من يستحقه ومن يُترك للجوع، كل ذلك تحت شعارات «العمل الإنساني»، في الوقت الذي تتكدّس فيه مخازن الأسلحة الأميركية في قلب فلسطين المحتلة، ويُمرَّر الدعم العسكري تحت بند «الدفاع المشروع عن النفس».
التجويع.. من الإبادة الصامتة إلى أداة الضبط الجيوسياسي
منذ بداية الحرب على غزة، كان من الواضح أنّ «إسرائيل» لا تستهدف المقاومة الفلسطينية فحسب، بل تخوض حربًا شاملة على المجتمع الفلسطيني، بكل مكوّناته. والغرب، بدلاً من أن يلجم هذا السعار الدموي، يزوده بكل ما يحتاجه للاستمرار: الغطاء السياسي، الدعم المالي، والمعدّات العسكرية.
لكنّ أخطر ما في هذا المشهد، هو «إدارة التجويع» بوصفها شكلاً متقدماً من الحرب النفسية والاجتماعية. لم تعد المجازر وحدها كافية لتروي عطش «المؤسسة الأمنية الإسرائيلية»، بل بات المطلوب تفكيك بنية المجتمع الفلسطيني بالكامل، عبر إيصاله إلى حافة الانهيار البيولوجي، ثم تقديم فتات المعونة بوصفه منّة دولية مشروطة.
في هذا السياق، لم تعد المساعدات تُرسل لرفع المجاعة، بل لضبطها. يُراد للموت ألا يكون شاملًا، بل انتقائيًا، منظّمًا، يمكن التحكم بإيقاعه ومساحته، بحيث يُبقي على غزة على قيد الحياة، بالكاد.
الطحين المشروط.. »الهولوكوست المدني« بنسخة ناعمة
حين يُمنح الفلسطيني في غزة كيس طحين فقط بعد أن يتعرض لإذلال مرير، ويُطلب منه السير لكيلومترات ما بين الركام، وتحت تهديد القنص، للوصول إلى مركز توزيع تسيطر عليه «إسرائيل» أمنياً، فهذا ليس «إغاثة»، بل نموذج دقيق لـ»الهولوكوست المدني» بنسخته الحديثة: لا غرف غاز، بل حفر رملية (الجورة) يُنتظر فيها «إذن الحياة».
هذا النموذج يُدار تحت شعار الإنسانية. ولكن أيّ إنسانية تلك التي تُرشد طائرات الاستطلاع الغربية، والطائرات «الإسرائيلية»، جموع الجياع نحو مركز الإعدام؟ وأي عدالة حين يُستشهد العشرات أثناء انتظارهم للغذاء، بينما لا يُحاسب أحد؟
إنّ ما يُسمّى بـ»الإنزال الجوي للمساعدات» ليس سوى صورة فاقعة من صور التواطؤ بين آلة القتل «الإسرائيلية» والهيئات الدولية التي ارتضت أن تتحوّل من أدوات إنقاذ إلى أدوات تلميع. فالاحتلال، الذي أغلق المعابر، ودمّر البنية التحتية الصحية، وجرّد مليونَي إنسان من شروط الحياة الأساسية، يدّعي فجأةً أن له دورًا «إنسانيًا» في إسقاط عُلب غذاء من السماء. هذا الفعل، بحد ذاته، يُعيد إنتاج منطق الاستعمار الخيري: الجلّاد يلبس قناع المُنقذ، في الوقت الذي يُمسك فيه بخنجر الحصار في يده الأخرى. لا يكفي أن نُدين محدودية المساعدات أو انعدام فعاليتها، بل علينا أن نُفكك بنيتها السياسية، لأنها لم تأتِ خارج سياق الإبادة، بل كجزء منها. فهي لا تعالج الجوع، بل تُديره. لا تنهي الحصار، بل تُعطيه شكلاً مقبولًا في أعين المتفرجين. إنها ليست خطّة طوارئ، بل سياسة ممنهجة لإبقاء القطاع تحت السقف الأدنى للحياة، بما يسمح باستمرار المشروع الاستيطاني دون حرج أخلاقي أمام الكاميرات.
الغرب الرسمي.. ديمقراطيات تموّل المجازر وتكتب بيانات إنسانية
الدول الغربية تعرف، بكل تفاصيلها، ما يجري في غزة. ليس لأنّ الفلسطينيين أو الإعلام المستقل يبلّغونهم، بل لأنّ طائراتهم وجنرالاتهم وخبراء أمنهم موجودون في الميدان. هم لا يجهلون الإبادة، بل يديرونها.
وحين تصدر بيانات من الاتحاد الأوروبي تدعو إلى «تحسين الوضع الإنساني» في غزة، أو تُفرض عقوبات شكلية على وزراء من أمثال بن غفير وسموتريتش، فإنّ الغرض ليس وقف الجريمة، بل التخفيف من ثقلها الأخلاقي على الرأي العام الغربي، الذي قد يستفيق للحظة. لكنّ هذه العقوبات، كما في العراق سابقًا، لا تُفرض على الدولة المعتدية، بل على هوامشها، ولا تمسّ جوهر المشروع: التجويع المُمنهج كسلاح شرعي.
وفي المحصلة، يُعاد تعريف القانون الدولي ليخدم بنية الهيمنة: ما يُعدّ «جريمة حرب» في أوكرانيا، يُصبح «تكتيكًا عسكريًا مشروعًا» في غزة. أما محكمة العدل الدولية، فتبقى أداة انتقائية لا تصمد أمام «الفيتو الأخلاقي» الأميركي.
الغذاء كسلاح استعماري.. التاريخ يعيد إنتاج نفسه
ليس ما يجري في غزة استثناءً، بل استمرارٌ لنمطٍ إمبريالي مألوف، حيث يُستبدل القصف بالتجويع، وتُغلف الإبادة بورقٍ إنساني مصقول. لقد فعلها الغرب والأمريكيون من قبل في العراق، حين أُخضِعَ شعبٌ بأكمله لحصارٍ دمّر البنية التحتية الصحية والتعليمية، وقُدّرت آثاره بمقتل نصف مليون طفل، وهو رقمٌ وصفته وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت آنذاك بأنه «ثمنٌ مستحق». وفي السودان، جُعل الغذاء مشروطًا بالولاء السياسي، وغُذّيت الانقسامات الداخلية عبر تجويف المجتمعات من الداخل. في كل مرة، يظهر الغرب كمن «يحاول المساعدة»، بينما يُبقي يده على صمّام الحياة، يفتحه ويُغلقه حسب مصالحه الجيوسياسية. فالتجويع ليس خللًا طارئًا، بل أداة متعمدة لإخضاع الشعوب وتفكيك قدرتها على الصمود والمقاومة.
الصمت العربي.. تواطؤ يشرعن الجريمة
وفي مواجهة هذا المشروع، تبدو الأنظمة العربية -خصوصًا الدول ذات الوزن الجغرافي كالسعودية ومصر والأردن- عاجزة أو متواطئة. القرارات الصادرة عن القمم الإسلامية والعربية بقيت حبرًا على ورق. لماذا؟ لأنّ المعضلة ليست في عدم القدرة على إرسال المساعدات، بل في الخوف من كسر التوازنات التي تُبقي هذه الأنظمة آمنة تحت المظلة الأميركية.
إنّ المساعدات تكدّست على الجانب المصري من الحدود، لا لأنّ مصر غير قادرة على إدخالها، بل لأنها لا تملك الإرادة السياسية لمواجهة ما يُعتبر «الخط الأحمر الإسرائيلي-الأميركي». وهذا الصمت، أخطر من القصف، فهو يمنح الإبادة شرعية عربية، يُوظّفها الغرب في خطاباته ليقول: «حتى العرب لا يعارضون ما يحدث».
بين الطحين والسلاح.. الغرب يُعرّي ذاته
لقد بات واضحًا أنّ الغرب، في صيغته الحالية، لا يمثل نموذجًا أخلاقيًا ولا مرجعية قانونية. إنه تحالف سلطوي، يُعيد إنتاج الهيمنة بأشكال متجددة. يُسلّح «إسرائيل» بأحدث أدوات القتل، ثم يُرسل الطحين على دفعات، محكومًا ببطاقات عبور، كي يبقي على الفلسطينيين في مستوى الصراع الأدنى: صراع البقاء لا التحرير.
لكنّ التاريخ لا يُكتب فقط من غرف مجلس الأمن، بل من الساحات. وإذا كان الغرب قد نجح في تحويل غزة إلى مختبر للإبادة، فإنّ ما بعد غزة، سيكون اختبارًا حقيقيًا للشعوب، لا للحكومات.
فما لا تستطيع الدول قوله، يجب أن تقوله الشعوب. وما لا تجرؤ الأنظمة على فعله، يجب أن يفعله الناس. وإلا فإنّ الطحين سيظل يُرسل ببطاقات عبور، فيما السلاح يُمنح بلا حساب، وتُكتب النكبة مجددًا باسم الإنسانية.
كاتب صحفي فلسطيني