ماريان جرجس تكتب: الهُوية الصحية
تاريخ النشر: 1st, April 2024 GMT
مجهودات حثيثة تبذلها الدولة المصرية في مجال التحول الرقمي وهي مهمة ليست باليسيرة على الإطلاق، فهو ليس استحداثا لقواعد بيانات، ولكن هو إنشاء بنية تحتية رقمية كاملة لكافة المجالات، وتأتى الصحة في الصدارة وعلى رأس الأولويات في التحول الرقمي.
فمنذ أيام قليلة أكدت وزارة الصحة على الانتهاء من ميكنة تسجيل المواليد والوفيات بمكاتب الصحة والوحدات الصحية على مستوى جميع محافظات الجمهورية فيما يقرب من 5000 مكتب ووحدة صحية من خلال إنشاء قاعدة بيانات متكاملة وربطها بالرقم القومي للمواليد والوفيات، فميكنة الرعاية الأولية ليس فقط مرتبطا بالقطاع الصحي ولكن المواليد والوفيات مرتبط ارتباط وثيق بالقطاع الأمني والتضامني من أجل المعاشات والميراث .
مما لا شك فيه أن الرعاية الأساسية هي الأولي بالأهمية والأحق بالتحول الرقمي ولكن لأن الدولة المصرية تستهدف التأمين الصحي الشامل في مصر ، فالتحول الرقمي في الطب الوقائي والعلاجي والعلاج الحر والقطاع الحكومي والصيدلة الإكلينيكية وقطاع الأدوية يظل من أهم الأمور التي لا بد أن توضع على طاولة التحول الرقمي الصحي .
وهُنا ، يمكننا أن نحلم بهُوية صحية لكل مواطن مصري شأنها شأن الرقم القومي الذي لا يستطيع الشخص أن يسير بدونه ، فالرقم القومي هو تعريف أساسي لهوية أي مواطن يحيا على أرض مصر، هكذا من حق كل مواطن أن يكون تاريخه المرضي منذ يوم ولادته مسجل على تلك الهُوية الصحية ولذلك مكاسب عدة ، فكما تخدم تلك الهُوية المواطن ، تخدم الدولة وتحفظ مواردها الطبية والدوائية كما تقلل من نسب الأخطاء المهنية غير المقصودة و تخدم منظومة التأمين الصحي الشامل.
فبتسجيل كل البيانات الصحية على تلك الهُوية من فصيلة الدم ، لبصمة جينية ، لتاريخ العمليات الجراحية ، لتاريخ الأدوية التي تم صرفها ، هو تفادي لكثير من الملفات التي يحملها المريض المصري والتي تتبعثر المعلومات الطبية المهمة خلال تلك الأوراق ، ما بين فحوصات قديمة وروشتات مختلفة من أطباء مختلفين ثم يصل المريض إلى المحطة العلاجية الأخيرة تائهًا بين هذا وذاك وكأن على الطبيب المعالج أن يعمل أكثر من عملية بحثية معقدة للوصول إلى التشخيص بأثر رجعي ، مع الإسراف في تناول الأدوية عوضًا أن تلك الهُوية تحمى المريض من تناول عقار بالخطأ قد يكون متحسسًا منه فُيصاب بصدمة تحسسيه قد تؤدى إلى الوفاة لمجرد غياب المعلومة ، أنه قد يكون متحسسًا من مادة دوائية معينة ، بالإضافة لزواج الأقارب والعيوب الخلقية التي تؤدى إلي زيادة عدد المواليد بإصابات خلقية وزيادة عدد ذوى الاحتياجات الخاصة.
فبالهوية الصحية ، يستطيع المواطن أن يحصل على نصيحة طبية إذا كان حاملا لمرض ما وبزواج الأقارب يُصاب الأطفال بأمراض وراثية أو ذهنية أو أنواع معين من السرطانات.
على الرغم من كُلفة الأمر ولكن في المقابل تحفظ الدولة مواردها وتقلل من فواتير استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية كما توفر مواردها البشرية أيضًا وتوجيه مهارة الطبيب المصري في موضعها الصحيح.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
د. منال إمام تكتب: الإنسان المصري.. حالة فريدة عبر الزمن
وأنا أراجع كتابي "الدبلوماسية المصرية عبر العصور" استعدادًا لإصدار الطبعة الثانية، استوقفني الإنسان المصري في مختلف العصور: قديمًا ووسيطًا (العصر الإسلامي) وحديثًا، بشخصيته المتفردة في رقيها وبساطتها وروحه المرحة في أصعب الظروف، والأهم حبه لوطنه الذي لا يدانيه أحد. يظلّ الإنسان المصري، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، لغزًا جميلًا يأسر القلوب قبل العقول، ويمضي عبر العصور بملامح ثابتة من الطيبة والصلابة والكرامة وحب الوطن. هو إنسان لم ينقطع عنه دفء الروح ولا نقاء القلب، مهما تبدّلت الظروف وتغيّرت الأزمنة وتباينت الحقب. وكأن نهر النيل، وهو يمنح الحياة لأرضه، منح أبناءه أيضًا سكينة خاصة، ورُقيًا أصيلًا، وإيمانًا عميقًا بالإنسانية.
لقد وقف المؤرخون مندهشين أمام هذا الإنسان منذ الدولة القديمة. كيف يمكن لشعبٍ أن يجمع بين القوة والرقة؟ بين الحكمة والعمل؟ بين حب الأرض والتفاني من أجلها؟ كتب عنه هيرودوت منذ آلاف السنين مشيدًا بصفاته، متسائلًا بإعجاب عن هذا الشعب الذي يتمسّك بالخير ويتقن بناء الحضارة كما لو كان ينسج من الحجارة قصائد خالدة.
وحين دخل المسلمون مصر، سُحر القادة العرب بأخلاق المصريين، ببساطتهم وكرمهم، وبقدرتهم العجيبة على احتواء الآخر. بلغت دهشتهم حدّ الإعجاب الذي سجله التاريخ، حتى إن الخليفة عمر بن الخطاب لم يتردد في طلب المساعدات لأهل الجزيرة وقت القحط، واثقًا أن المصريين لن يبخلوا بأخوّة ولا بعطاء، فهذه طبيعتهم التي لا يعرفون غيرها، وكان المصريون عند حسن ظنه فأرسلوا القوافل، أولها في جزيرة العرب وآخرها في مصر.
وجاءت الحملة الفرنسية، يحمل علماؤها أدواتهم وفضولهم، فكتبوا في "وصف مصر" الكثير عن الآثار، لكن الجزء الأجمل كان ذاك الذي تحدّثوا فيه عن الإنسان المصري ذاته: عن صبره، ونبله، وخفة ظله، وميله الفطري إلى الحكمة. لقد رأوه ليس مجرد فرد من شعب عريق، بل مرآة لروح حضارة كاملة.
حتى في زمن الاحتلال الإنجليزي، حين كتب اللورد كرومر وملنر وغيرهم مذكّراتهم، لم يستطيعوا تجاوز حقيقة هذا الإنسان، سواء كان بسيطًا يعمل في الحقل أو مثقفًا يدوّن أفكاره. وجدوا فيه شخصية تجمع بين الوقار والصبر، بين العناد النبيل والروح المتسامحة، بين الرغبة في الحرية والإصرار على الكرامة.
وفي العصر الحديث، حين بدأت مصر تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة قبيل حرب أكتوبر، كان الانطباع ذاته يتكرر. فالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لم يُخفِ انبهاره بشخصيات مصرية لامعة مثل حافظ إسماعيل أو إسماعيل فهمي، تلك الشخصيات التي حملت الوقار المصري الأصيل، وتحدثت بحكمة وهدوء وثقة، فأدهشت العالم كما أدهشت من قبلهم شعوبًا كثيرة.
نعم… الإنسان المصري، غنيًا كان أو فقيرًا، متعلمًا أو بسيطًا، يظل حالة فريدة في هذا العالم. حالة تستحق التأمل، وتستحق الحب، وتستحق التقدير. فهو يجمع في ملامحه تاريخًا طويلًا من النبل، وفي صوته صدى حضارة لا تنطفئ، وفي قلبه محبة تتسع للجميع.
هو المصري… ابن النيل، وابن الحضارة، وابن الإنسانية كلها.