أحد المخلع... ذكرى خالدة يُحييها الصوم المقدس
تاريخ النشر: 13th, April 2024 GMT
تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية، اليوم الأحد الموافق 6 برمودة وفق التقويم القبطى، بإحياء ذكرى «المخلع» هو الأسبوع الخامس من فترة الصوم الكبير المقدس الذى بدأ فى مارس الماضى لمدة 55 يومًا ويستمر حتى احتفالات عيد القيامة المجيد فى مايو المقبل.
وعلى مدار فترة الصوم تقيم الكنيسة القداسات والنهضة الروحية التى تتضمن دروس الكتاب المقدس والعظة الروحية، وتُعيد بعض التعاليم والمبادئ التى أوصى بها الكتاب المقدس بالتزامن مع قصص آحاد الصوم المقدس، والتى تزداد خصوصية روحية فى وجدان الأقباط، لما تحمله من عِبر عاشها أتباع السيد المسيح فى العصور الأولى والذين تأثروا به قبل واقعة الصلب التى تحمل بها عناء البشر ومر بها من أجل خلاص الأمة من الشرور والظلم والاضهاد، وصولًا لقيامته من بين الأموات.
أعاد الأقباط خلال مدة الصوم قصصًا خصصتها الكنيسة لكل يوم أحد فى مطلع الأسبوع وعرفت بـ«آحاد الصوم المقدس»، ويستهل بـ«أحد الرفاع» خلال أسبوع الاستعداد، ثم «أحد الكنوز» يعتبره المسيحيون هدية روحية إلى الملكوت، أى هدية المخلص للمؤمنين، ويأتى كبداية الأسبوع الثانى من الصوم وعرف بهذا الاسم نسبة لوصية المسيح بأهمية النظر إلى الجانب الروحى والسعى لتحقيق الثراء الروحى وليس المال، كما ورد فى «مت (19:6 )، «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض بل اكنزوا لكم كنوزًا فى السماء».
ثم يأتى «أحد التجربة والنصرة» وخلاله ترسيخ أهمية التجربة التى جعلت النفس تواجه الشيطان، تستمد فى هذه المعانى ما قام به المسيح الذى جاء حتى يجعل الجميع يربح الغلبة وينتصر أمام هذه التجربة، ثم يأتى الأحد الثالث «أحد الابن الضال»، وتركز الكنيسة خلاله على قصة الأب الحنون فى مواجهة ضلال ابنه وخطاياه، فتلك القصة تحكى مدى ثبات الأب أمام ظلام قلب ابنه العالق فى الخطايا والذنوب، يليه «أحد السامرية» ويعرف فى الكتاب المقدس بـ«الارتواء» وهو ذكرى حوار يسوع المسيح مع المرأة السامرية، ويعتبر من أكثر الأحداث التاريخية التى عكست بعض المعانى والتعاليم الروحية وازداد ترسيخًا عبر الأعوام، جاء هذا العام مع عيد البشارة المجيد وهو عيد ذكرى ظهور الملاك جبرائيل للسيدة العذراء مريم ليخبرها بحملها فى المسيح وأنها تحمل فى أحشائها مخلص الأمة، يليه «أحد المخلع» ثم «أحد التناصير» أو يعرف بـ«المولود أعمي»، يعقبه «أحد الشعانين، أو السعف» والذى يعد ناقوس بدء أسبوع الآلام آخر أيام المسيح على الأرض قبل صلبه وقيامته.
وتفتح الكنيسة هذا الأسبوع صفحة جديدة من كتاب قصص وعبر خالدة وتروى قصة «المخلع»، وفى سطور بسيطة ترويها للأطفال والكبار بصورة منتظمة سنويًا لترسخ المعنى المستهدف بها ما جرى خلال الواقعة الشهيرة لمريض بيت حسدا.
يذكر الكتاب المقدس هذا الأحد فى العهد الجديد وتحديدًا فى إنجيل المعلم يوحنا بالإصحاح الخامس والقصة تبدأ وسط احتفالات اليهود بأد أعيادهم، وحينها ذهب السيد المسيح لمدينة القدس الفلسطينية الوارد ذكرها فى الإنجيل بـ«أورشليم» ووقف تحديدًا فى منطقة بقرب سور المدينة وكان حينها يعرف بـ«باب اسمه الضأن» أى بداية المدينة.
كانت تقبع فيها بِركة مشهورة باسم «بيت حسدا» وهى كلمة عبرانية تعنى بيت الرحمة، وكمان كان ليها خمس أروقة أى سقفية يجلس فى ظلالها عدد كبير من المرضى، وكانت دائمًا ممتلئة بأعداد غفيرة من البشر ويجلس بينهم أحد المرضى بالشلل لم يستطع تحريك أنامله وظل يشاهد من حوله يسعى للشفاء لمدة 38 عامًا.
كانت هذه الجموع تأمل بالشفاء فى هذه البِركة وحسب ما ورد فى الكتب المسيحية كان ينزل ملاكًا من السماء يُحرك المياه، ويشفى منها أى مريض، ولم ينل من خير هذه البركة هذا المريض الوحيد وظل نائمًا دون جدوى على سريره طوال أعوام ولهذا سميت هذه الذكرى بـ«المخلع»، يروى الكتاب التاريخى أن المسيح حين رآه تحنن عليه وذهب إليه ليسأله «أتريد أن تبرأ» رد المريض وقال له «يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِى إنسان يُلْقِينِى فِى الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ». ثم قال له المسيح: «قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ» وهو ما ورد فى إنجيل يوحنا.
كانت هذه الواقعة هى المعجزة التى أدهشت الحاضرين وصادفت «يوم السبت» المخصص للاحتفالات بعيد اليهود، بهرت هذه المعجزة الجموع حين شاهدوا هذا غير القادر وهو يتحرك ويحمل سريره وينصرف بعد مرض أعوام.
استشاط اليهود من هذا الأمر غضبًا من قدرة المسيح وحركة الإنسان المشلول يوم السبت المخصص للعبادة وغير مسموح لقيام أى إنسان بفعل غير الصلاة والعبادة وفق معتقدهم، وكان المخلع لا يعلم طبيعة من شفاه، وبعد فترة من الزمن دخل المخلع فى مكان حيث يقبع الهيكل وكان حينها يمكث يسوع المسيح، وحينها علم صاحب الفضل عليه ودار بينهم حوار آخر، ورد فى (يو 5: 14) «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أيضاً لِئَلَّا يَكُونَ لَكَ أَشَرّ»، وبعد ذلك ذهب المخلع لليهود ليخبرهم عن المسيح ويوشى به وكانوا حينها يخططون لقتل المسيح.
البابا شنودة عن أحد المخلع
يقول مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث، بطريرك الكرازة المرقسية ومعلم الأجيال، عن أحد المخلع فى إحدى العظات الروحية باجتماع الأسبوعى أثناء الصوم الكبير والتى فاضت من علمه وقدرته على سرد القصص المسيحية بطريقة مؤثرة استطاع أن يحفر فى وجدان الأقباط عقيدة قوية وعلمهم التعاليم المستهدفة من جميع الأحداث الواردة فى تاريخ السيد المسيح والتى تهدف إلى قوامة الإنسان.
يعبر البابا شنودة أن الله يفرح بالخاطئ الذى يتوب ويبحث عنهم ليقودهم للتوبة، ويذكر أن الكنيسة المصرية فى أحد السامرية وأحد المفلوج تؤكد هذا المعنى، وأن يبحث عن الخطاة مهما كانت حالتهم، وأن المفلوج بعد أن قام من مرضه أخذ سريره وذهب كما قاله له المسيح، ويروى الكتاب أن الله يقبل التوبة مهما كانت الخطيئة ومهما كانت المدة طويلة، وأن مرض المخلع يرمز إلى الخطية وأن الله قادر أن يعطيه القوة من أجل البداية الجديدة.
وهذا أيضاً يعنى مفهوم «الرجاء» وأن هناك نوعين من التائبين، هناك من يدافع عن المسيح، أما النوع الآخر فهم من ضلوا طريقهم وعملوا ضد المسيح كما فعل المخلع الذى شفاه المسيح وذهب يوشى به إلى اليهود وانضم لأعدائه.
ويسرد مثلث الرحمات أن الكنيسة تنبه أبناءها إلى خطورة «النكسة بعد التوبة» أى العودة إلى طريق الضلال والرجوع عن الصواب مرة أخرى، لذلك قال المسيح للمخلع لا تعود للخطيئة مرة أخرى حتى لا تشقى.
البابا شنودة: المسيحية لا تعرف اليأس إطلاقًا
يؤكد البابا شنودة فى عظته عن الأسبوع الخامس من الصوم، أن المسيح يأتى لكل إنسان وحيد أو يحمل فى قلبه اليأس ولعل قصة المخلع الذى جاء له المسيح بعد 38 عامًا من الوحدة دليل أنه لا يوجد يأس فى المسيحية إطلاقًا واليأس هو عمل الشيطان وحروبه الدائمة على الإنسان الذى يريد أن يهلكه، المسيحية لا تعرف اليأس ومنحت الكثير من الأمثلة التى تؤكد أنه مهما تعددت الخطيئة وكثرت سنوات الخطيئة هناك دائمًا فرصة يمنحها الله للجميع حتى يبدأ من جديد ويسطر سطور حياتة فى توبة ويعدل وجهته إلى المسار الصحيح مرة أخرى.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
في ذكرى رحيله.. أول من حمل لقب الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت
تحل في الثالث عشر من ديسمبر ذكرى وفاة أحد أعلام الفكر الإسلامي والتجديد الديني في العصر الحديث، الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الشريف الأسبق، وأول من حمل لقب الإمام الأكبر، والذي ترك بصمة فكرية عميقة في مسيرة الأزهر، وأسهم إسهامات غير مسبوقة في تطوير الخطاب الديني، وترسيخ منهج الوسطية، والتقريب بين المذاهب الإسلامية.
وُلد الشيخ محمود شلتوت بمحافظة البحيرة عام 1893م، في زمن شهد ميلاد عدد كبير من رواد الإصلاح الديني والفكري، ونشأ في بيئة علمية جعلته يتجه مبكرًا إلى طلب العلم الشرعي، حتى أصبح أحد أبرز علماء الأزهر الشريف في القرن العشرين.
رحل الشيخ شلتوت عن عالمنا عام 1963م عن عمر ناهز السبعين عامًا، بعد رحلة علمية وفكرية حافلة بالعطاء، شغل خلالها مناصب علمية رفيعة، أبرزها مشيخة الأزهر الشريف، وكان نموذجًا للعالم المجدد الذي جمع بين أصالة التراث ووعي العصر.
لم يقتصر دور الشيخ محمود شلتوت على الساحة المحلية، بل امتد إلى المحافل العلمية الدولية، حيث اختير عضوًا في الوفد الذي شارك في مؤتمر “لاهاي” للقانون الدولي المقارن عام 1937م، وقدم خلاله بحثًا علميًا مهمًا بعنوان: «المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية».
نال البحث استحسان المشاركين في المؤتمر، وأكدوا من خلاله صلاحية الشريعة الإسلامية للتطور ومواكبة العصر، واعتبارها مصدرًا أصيلًا من مصادر التشريع الحديث، لا تابعًا ولا مقتبسًا من القوانين الوضعية، وهو ما مثّل آنذاك شهادة دولية مهمة في زمن كانت تعاني فيه الأمة الإسلامية من الاستعمار والتشكيك في تراثها التشريعي.
يُنسب إلى الشيخ محمود شلتوت عدد من الأفكار التنويرية الجريئة، حيث كان من أوائل من نادوا بضرورة إنشاء مكتب علمي متخصص للرد على الشبهات المثارة حول الإسلام، وتنقية كتب التراث من البدع والخلط، وهي الدعوة التي مهدت لاحقًا لإنشاء مجمع البحوث الإسلامية.
كما دعا إلى تجديد الفقه الإسلامي من داخل أصوله، دون قطيعة مع التراث، مؤكدًا أن التجديد لا يعني الهدم، وإنما الفهم العميق للنصوص في ضوء مقاصد الشريعة ومتغيرات الواقع.
في عام 1958م، صدر قرار تعيين الشيخ محمود شلتوت شيخًا للأزهر الشريف، ليصبح أول من حمل رسميًا لقب الإمام الأكبر. وخلال فترة توليه المشيخة، بذل جهودًا كبيرة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان مؤمنًا بأن الخلاف المذهبي لا ينبغي أن يكون سببًا للفرقة أو الصراع.
كما أدخل لأول مرة دراسة المذاهب الإسلامية المختلفة في مناهج الأزهر، سعيًا لترسيخ ثقافة التعدد وقبول الآخر، والعمل على وحدة الصف الإسلامي.
شهد عهد الشيخ شلتوت صدور قانون إصلاح الأزهر الشريف عام 1961م، وهو من أهم القوانين المنظمة للأزهر في العصر الحديث، حيث توسعت الدراسة الأزهرية لتشمل العلوم الحديثة إلى جانب العلوم الشرعية، ولم تعد مقتصرة على التعليم الديني فقط.
كما أُنشئت في عهده كليات جديدة، وارتفعت مكانة الأزهر العلمية عالميًا، وتعزز دور شيخ الأزهر كرمز ديني وفكري له ثقله في العالم الإسلامي.
خلّف الإمام الأكبر محمود شلتوت تراثًا علميًا غنيًا، من أبرز مؤلفاته:
فقه القرآن والسنة
مقارنة المذاهب
القرآن والقتال
يسألونك (مجموعة فتاوى)
منهج القرآن في بناء المجتمع
القرآن والمرأة
تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام
وقد تُرجمت العديد من مؤلفاته إلى لغات مختلفة، ما أسهم في نقل صورة الإسلام المعتدل إلى العالم.