التفكير الوطني في توالي الأنواء المناخية على بلادنا
تاريخ النشر: 21st, April 2024 GMT
د. عبدالله باحجاج
بعد منخفض المطير الاستثنائي، وخسائره البشرية والمادية الحكومية والخاصة والاجتماعية، وترقبنا خلال الساعات المقبلة لمنخفض جوي جديد، يترسخُ مفهوم توالي أو تتابع الأنواء المناخية ليس سنويًا وحسب؛ بل داخل كل سنة.
ومنذ عام 2007، وبلادنا تتعرض للأنواء بمختلف صورها، من منخفضات وعواصف وأعاصير، ومن الأوزان التي تُدمِّر المُكتسبات الوطنية والمُمتلكات الفردية.
لسنا في حاجة للاستدلال على ظاهرة الأنواء المناخية في بلادنا أكثر من موقعها الجغرافي التي تطل سواحلها الشرقية الجنوبية على بحر العرب وبحر عُمان المتصلين بالمحيط الهندي، والذي هو منشأ الأنواء المناخية، وكفى بهذه الخصوصية الجغرافية لتطوير تجربة البلاد في إدارة الأنواء المناخية قبل وبعد حدوثها، إلى مستوى مفهوم التوالي المُقلق داخل السنة الواحدة. وغالبًا ما تقع خلال فترتين في السنة؛ الأولى ما بين مايو ويونيو، والثانية ما بين سبتمبر وأكتوبر. وهذا ما يستدعي التسليم بالمفهوم نفسه، واعتبار بلادنا منطقة أنواء مناخية من الوزن الثقيل.
وقد يتساءل البعض عن الأثر المترتب على هذا التسليم؟ لذا نحصرها في النقاط التالية:
أولًا: تغيير بوصلة الفكر التنموي، وجعل الأنواء المناخية مرجعية للتنمية الحديثة، بمعنى أن أي مشروع أو تخطيط سكني واقتصادي واجتماعي جديد ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المواصفات التي تتلاءم مع الأنواء المناخية.
ثانيًا: مراجعة التخطيط العمراني القائم للمنشآت الحكومية والخاصة والمساكن الاجتماعية والعمل على حمايتها من فيضانات مياه السدود والأدوية.
ثالثًا: تخزين المياه ومن ثم الاستفادة منها في التنمية الشاملة على أن تكون هناك رؤية واضحة لهذه الاستفادة مُسبقًا.
رابعًا: الانتقال من المركزية مع عدم التمركز، إلى اللامركزية مع المرجعية المركزية، فهذه قد أصبحت صيرورة وفق مفهوم التوالي، تجعل من كل محافظة من محافظات البلاد تتحمل مسؤولية تخطيط وتنظيم وإدارة الأنواء المناخية لا مركزيًا. وسياق المفهوم نفسه يعد زمن الانتقال حدثًا عاجلًا للتغييرات المناخية المُتسارعة والمُتعاقبة. لذلك هناك حاجة لأن تضع كل محافظة خارطة عاجلة لمخاطر السدود والأودية، والعمل وفق خطة زمنية قصيرة ومتوسطة الأجل على توسعة الأودية والتأكد من سلامة السدود التي بُنِيَت منذ عقود من الزمن، ونقل المساكن والمنشآت التي تقع في قلب المخاطر الدائمة.
إلى جانب إيلاء الاهتمام بالجهات اللامركزية وتأهيلها لكل الاحتمالات، وهذا من الحتميات التي نرى أنه ينبغي الانفتاح عليها كأكبر الدروس التي نخرج بها من تجربتنا مع الأنواء المناخية قديمها وحديثها وآفاق مستقبلها، وذلك استفادةً من تجربة البلاد الناجحة مع الأنواء المناخية منذ "جونو 2007"، ومرورًا بأعاصير "فيت 2010"، و"مكونو 2018"، و"شاهين 2021"؛ فتصبح البلاد معها ذات خبرة احترافية عميقة بمؤسسات دائمة عُرفت بالتطور المتعاقب منذ عام 1977 أثناء إعصار مصيرة وبعض قرى محافظة ظفار؛ مثل اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة ولجانها الفرعية في المحافظات، والمركز الوطني لإدارة الحالات الطارئة، وغيرها من مؤسسات، وهي دائمًا ما تكون في قلب الحدث، وأدوارها في الأعاصير والمنخفضات محط الإشادة على الدوام.
لكنَّ الهاجس الوطني الآن وفق تحديات التوالي ومساواة تأثير المنخفضات بتأثير الأعاصير- منخفض المطير نموذجًا- يُعلي من شأن اللامركزية في تحمُّل مسؤولية صناعة الفعل في مختلف مراحله على المستويات التالية: التفكير والتخطيط وتهيئة نطاقها الترابي المشرف عليه إداريًا؛ لجعل الأنواء المناخية حدثًا اعتياديًا أو على الأقل بأقل الخسائر المادية. أما البشرية- فدون شك- فإن سقوط الضحايا في نسخة المطير يُعد الاستثناء في إدارة البلاد الناجحة في التعامل مع الأعاصير للأسباب المعروفة للكل، رغم أن سقوط الضحايا لم تسلم منه الأنواء المناخية السابقة.
غير أنَّ الفارق، أن منخفض المطير طال أرواحًا بريئة؛ نتيجة عدم تعطيل الدراسة، رغم التحذير من المنخفض الخطير. وفي غيره، راحت أرواحٌ استهزأ أصحابها بالأنواء، ولم ينصاعوا للتحذيرات؛ لذلك ينبغي وضع خطة إعلامية لمخاطبة الوعي الاجتماعي، وجعلها ضمن المقررات الدراسية لضمان ترجمتها في السلوك والأفعال الاجتماعية، إذا ما اعتبرنا الأنواء المناخية ظاهرةً متتالية في السنة مرتين أو أكثر. هنا تظهر اللامركزية باعتبارها الخيار الأنسب الذي يُراهَن عليه في صيرورة التوالي، وهذه المسؤولية تدخل في صلب تحوُّل البلاد الى نظام المحافظات الذي يمنح كل محافظة صلاحيات في إدارة شؤونها؛ اعتدادًا بالخصوصيات الجهوية والترابية وحاجياتها التنموية.
إننا نُجدِّد اقتراحنا القديم بإقامة مركز تخطيط إقليمي في كل محافظة، يتبع المحافظ مباشرة، ويتولى مسؤوليات التخطيط ودراسة احتياجات المحافظات التنموية والاستثمارية عامةً وفق المرجعيات الوطنية، وظاهرة توالي الأنواء المناخية، وجعل الأنواء المناخية حدثًا اعتياديًا أو بأقل التداعيات في كل القطاعات، ففي القطاع التعليمي مثلًا، ظهر عدم جاهزية كل المدارس الحكومية والخاصة للتعلم عن بعد، كما ظهرت الحاجة إلى تمكين كل محافظة من الأجهزة التي تتنبأ بحالة الطقس في كل نطاقها الترابي... والقائمة طويلة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
لِمَ نخاصم التفكير الاستراتيجي؟
التفكير أساس المخلوق الآدمي:الآدمي مكرم ومخلوق كنموذج مفكر عاقل، نجاحه في مسيرة الحياة هو نجاح منظومته العقلية وليس أي شيء آخر، فليس هو ناجح إن أشبع غريزته كحب السيادة والتملك والنوع ما لم يك بطريق صائبة، وليس هو ناجح إن وفر أسباب الرفاهية، بل النجاح هو في رضا الله من خلال تحقيق فاعلية المنظومة الإصلاحية أو في مسار الحياة، فحسن التفكير وسلامته هو معيار للمنظومة العقلية ودليل عليها ولها.
التفكير الاستراتيجي والتاريخ:
في الحديث عن التفكير الاستراتيجي لا نتحدث عن استراتيجية الحروب، فالحرب لها معاملها في الإدارة للمعارك والتحضير لها، ويمكن أن تنجح فتنتصر أو تخسر فلا استخلاص منها بشكل مباشر وإنما يرتبط مع عدة معاملات لتقيَّم، إننا نتحدث عن أمر أعم من استراتيجية الجيوش، نتحدث عن تفكير محكم شامل، وفي التاريخ والحاضر أمثلة نستلّ منها ما يفيد كعبرة ونموذج.
هنالك حسم في تقديم أولوية التفكير، وتأخير الأساليب العنيفة، وهذا يعني ضبط رد الفعل والتوجه لتقوية الأدوات
في التفكير الاستراتيجي هنالك حسم في تقديم أولوية التفكير، وتأخير الأساليب العنيفة، وهذا يعني ضبط رد الفعل والتوجه لتقوية الأدوات، ليس إلغاء خيار العنف أو الحرب نهائيا بل وضعه في التخطيط وليس رد الفعل، في الوسائل إلى الغايات وليس في الشعارات.
أمثلة على أثر التفكير الاستراتيجي في السياسة:
سأذكر هنا عدة أمثال من التاريخ وليس الغاية تقييمها وإنما اخذ العبرة منها:
1- ما بعد معركة الزلاقة لم يخطط بشكل جيد للحفاظ على وحدة الأندلس، فتعاظمت مع الضعف التباينات والتمزق إلى أن فُقدت الأندلس بمساعدة الطامعين والطامحين.
2- ضعف الإدارة وإعداد القادة العباسيين جعلهم يرضون بحكم شكلي للأطراف وترك تلك البلاد تواجه لوحدها هزة عنيفة مثل المغول، بدل أن تصرف الأموال لتمكينهم من الإدارة المباشرة بحيث يتحسسوا الخطر المغولي ويضعوا له الخطط للقضاء عليه.
3- دخول العراق للكويت، ومقابلة إيران، هذا ليس تفكيرا استراتيجيا من الحكومات الثلاث، فالخسائر كبيرة وهم ليسوا وحدهم في العالم أو يملكون القرار النهائي، لهذا كانت الحروب تدار لتستنزف المنطقة، وليست واقعة ضمن التفكر الاستراتيجي وإنما تم الاكتفاء باستراتيجيات الحروب.
4- أسلوب الكويت نفسها في قبول التوسع دون إرادة دولة جارة أكبر لم تستقر لأحد، في تصور أن التوسع سيكون تحصيل حاصل واستثمار المنطقة وحرمانها من منفذها البحري، هذا ليس تفكيرا استراتيجيا، وكان بالإمكان اتباع أساليب أخرى وتحصيل نتائج متوازنة للبلدين، لأننا سنخلق مشكلة تعبر إلى الأجيال فهنالك وثائق وهنالك محاكم وكان لا بد اعتماد الوثائق.
5- ما يجري الآن في غزة من إبادة جماعية وجرائم حرب سيكون له بعده من أحداث تاريخية، تنفيذ رغبات عقلية عدمية لا تحترم الإنسانية ولا تعتبر أن الإنسان في فلسطين بشر وأن هناك من يقاتل دفاعا عن أرضه وحريته، ليُقترح تهجيره وتسكين المهاجر، هذا ليس تفكيرا استراتيجيا.
6- خلق الكيان الصهيوني محيطا تتضاعف فيه الكراهية اعتمادا على الظرفية من الحماية من الدول الكبرى، ويسبب مشاكل للمنطقة لكي يثبت أنه قادر على حماية مصالح الغرب ويكون قاعدة متقدمة له، هذا تكتيك ظرفي وليس تفكيرا استراتيجيا.
أمثلة على التفكير الاستراتيجي المفقود في الدولة:
التفكير الاستراتيجي يلغي رد الفعل أو السلوك غير المدروس دون استقراء الواقع ثم التخطيط المحكم لحل بتتابع الخطوات، فردّ الفعل من هذا النوع أو الإهمال للحوادث وآثارها وتركها دون الانتباه للشقوق وترميمها؛ قد يوقع الفرد أو الأمة في أسوأ حال
- في ديمومة النظم: أغلب الدول في عالمنا العربي تقيم أنظمتها على إخضاع الجماهير وغياب الشفافية معها، وترتكز على تثبيتها بدعم وهمي من الخارج الذي لا يعمل إلا على قدر مصالحه، لذا فكلفة البقاء غير المضمون هذا عالية، وهذا ليس تفكيرا استراتيجيا.
- في العراق مثلا تواجه النخبة والحكومة مشكلة المياه بلا منطق أو واقعية، حيث تعتمد روتين أساليب قديمة كانت تفيد حينها ومتاحة، أما اليوم فمواجهة هذا باستثمار النفط لبناء مشاريع مياه ضخمة وإبداع أساليب في نقل تدوير المياه ومعالجتها، وإقامة مشاريع ونظم إدارية عابرة للحدود السياسية، فالبقاء بالكلام عن حصص وغيرها ليس تفكيرا استراتيجيا.
- الدولة منظومة إدارية تنمّيها المهارات وليست روتينية تنجز المعاملات، أو تترك الحبل على الغارب فيتوسع الإهمال يوظف ليكون بيئة للفساد، فالتفكير الاستراتيجي أن تكون هنالك منظومة إعداد وتطوير وتفكير بمشاريع واستثمار الموارد الطبيعية وتحويلها إلى موارد مالية أخرى وصناعات تستوعب النمو السكاني.
خاتمة الكلام:
إن التفكير الاستراتيجي يلغي رد الفعل أو السلوك غير المدروس دون استقراء الواقع ثم التخطيط المحكم لحل بتتابع الخطوات، فردّ الفعل من هذا النوع أو الإهمال للحوادث وآثارها وتركها دون الانتباه للشقوق وترميمها؛ قد يوقع الفرد أو الأمة في أسوأ حال، وكلما تطورت وسائل الاتصالات والمواصلات وامتدت المصالح يصبح من يقرر بانفعال الحدث ولا يخطط ضحية سهلة لمن يخطط ويعمل ويستقرئ ويستشرف الأحداث والحاجات التي ينبغي تطوير صناعتها أو ما يمكن ابتكاره.
أحد أطر التعريف أن التفكير الاستراتيجي هو استخدام المنظومة العقلية في إيجاد البدائل بعد استيعاب الصدمة والتخطيط المحكم لأمور إبداعية ليست معروفة سابقا، أو معروفة لكنها لا تستخدم في بلد ما.