جريدة الرؤية العمانية:
2024-06-12@15:02:31 GMT

من الحبر إلى النصر

تاريخ النشر: 5th, May 2024 GMT

من الحبر إلى النصر

 

 

سمية بنت سامي المفرجية *

"ليس من العدل أن يقدموا هم على الشهادة، ونكتفي نحن بالنشر والمشاهدة".. لطالما راودني هذا الحديث بعد كل مقطع يُعرض لغزة، فكلُّ ما أملكه الحِبْر، وكل ما أستطيع فعله الكتابة والنشر، ولعلَّ "الطوفان" حطَّم فكرتي هذه بل واقتلعها بقوة، فنحن نستطيع بأصابعنا صُنع أسلحة تقتل دون إراقة قطرة دم واحدة، وتجاهد مع المجاهدين بكل أَنَفَة وبسالة، بل وتحقن الدماء، وتكون درعا للاحتماء.

يُمثل كُتَّاب أي شعب مستعمر بحبرهم ذاكرةً حافظةً للحكايات الإنسانية التي خاضها الشعب بكل قهر، ويبقَى الأدب بالنسبة لي من أفضل الوسائل التي تجعل القضية حاضرةً على الدوام في الأذهان؛ فهو يتجاوز أرقام الضحايا، وصور الدمار وغيرها من المعطيات الخبرية الجامدة ليحفر في أعماق الوجدان ببطء وإصرار خندقًا يصعب طمره بما تعرضه دولة الشر من أكاذيب وادعاءات، صحيح أن من عاش الحدث وعاصره يختلف عن ذاك الذي سمع ورُوِي له، ولكن ما زلتُ مُوقِنةً بأن كل إنسان يجاهد في ثغره، والنكبة هذه المرة تُرْوَى بلسان العالم أجمع، فكل ما كتب بحبر صادق سيخلد، وأظن أن أرشيف هذه النكبة سيكون ضخما؛ فأقلام أحرار العالم انتفضت للكتابة، وتحدَّثوا عن القضية بشكل أكبر مما مضى، وأصبح حبرهم المنشور يؤرق المتصهينين الذين فرضوا قيودًا صارمة تمنع النشر، بجانب تلاعبهم بالكلمات ووضعها في غير موضعها، كأن يقولوا عن المجاهد "إرهابي"، والشهيد "قتيل"، وهم يبررون ذلك بأنهم محايدون ديمقراطيون!

حين نَزَل القرآن الكريم دعا العرب إلى ضرورة استخدام الكتابة في بعض المعاملات، فضلًا عن قسمه بالكتابة وأدواتها في فاتحتي القلم والطور: "ن والقلم وما يسطرون"، "والطور وكتاب مسطور في رق منشور"، والكتابة بأنواعها تستطيع تغيير المعادلة وقلبها رأسًا على عقب في هذه الحرب إن كان غرضها نصرة الأقصى، والحبر يمكن مشاهدته، وسماعه، وتجسيده حين يتحول لشكل من أشكال الفن، وإن كان الأدب نافذة تنفتح على الداخل؛ فأستطيع القول أن الفنون بأنواعها تمثل بوابةً تنفتح على العلم والعالم معًا، وإن لم يحرك الحرف المكتوب وجدانك، فإن خشبة المسرح، وشاشة العرض، والأنغام التي تسيل لأذنيك ستتكفل بذلك حتما؛ فهذه الوسائل أكثر إقناعًا، فكيف بنا ونحن نشاهد حربًا واقعية لم تتدخل يد كاتب في تحديد مشهدها القادم؟ وماذا عسى لأقلامنا أن تكتب وتصف؟ وهل سننشر أخبار الإبادة ونعيد تغريدها فقط أم سنجتهد ونصنع محتوى خاصا لا ينتهي بانتهاء الحرب؟

يُقاوم حِبْر يحيى البشتاوي فيدخل دور المسرح بعمله "عائد إلى حيفا" ويبكي المشاهدين على المدرجات، وقد استمد البشتاوي عمله من رواية الشهيد غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" التي صدرت عام 1968، فحول الرواية لمسرحية تنتمي لفن المونودراما، وأضاف لها وحذف بحسب الأحداث التي طرأت وتطورت في القضية، ومثل غنام صابر غنام تسع شخصيات، ولم أشعر لوهلة وأنا أشاهد المسرحية أنه تكلف، ولم أشعر كذا بأنه يجسد نصًّا مكتوبًا بل يُحاكي الواقع اليومي، الواقع الذي يعيشه ويراه، أنهيت المسرحية وقلبي منقبض، منقبض كأن يدًا تعصره، انهمرت علي مشاعر الغربة والقهر والانقسام دفعة واحدة، أحسست بقهر خالد، وحسرة أمه، فممثل واحد بلهجته العفوية الفلسطينية استطاع إيقاظ الضمير الغائب فيَّ، فما عسى شعب كامل أن يفعل؟ نشيد "موطني" الذي صدح به الجمهور كان وقعه مختلفا عن كل المرات التي أسمعه فيها بشرود وأنا أقطع مسافات طويلة بسيارتي في شوارع مسقط، "ميم" موطني حين تخرج بانطباق شفاه الفلسطيني تختلف عن تلك التي نستعملها يوميًا، هي ميم الأنفة والصمود والتحدي، كذا فإن الكوفية هي الزي الوحيد الذي استعان به في التمثيل وكان يحركها فتنطق بكلمات أخرى خارج النص، تشاهد وتحس ولا تسمع، يتحرك تارة، ويهرول تارة أخرى وكأن الريح تحت خشبة المسرح، يسرد غنَّام الأحداثَ التاريخية بيُسر ويحرك الكلمات بخفة وكأنه يرتب طاولة مكتبه، فيعيد بكلماته تشكيل الهوية الفلسطينية في عقول الحاضرين، مما جعل أحد الحضور يصيح بلكنة بدوية متفاعلا مع الأحداث: "خالد لم يمت، جميع أبنائنا فداء لفلسطين" وإن كان الاحتلال يستطيع زعما تقسيم الأرض، والشعب، والحرية، فالحبرُ سيلمُّ الشتات، ويوحِّد الأرض، وسيحمي القلوب العربية من أن تحيد بوصلتها عن قضيتها الأولى.

كما تمكَّن الشعراء من إذابة حبرهم في حناجر المطربين الأحرار؛ فقد ذاب حبر الشاعر فيصل الشريف في حنجرة المطرب والملحن التونسي لطفي بوشناق حين صدح بأغنية "وا أمتاه" التي تعاتب صمت الأمة، وتشرح الحال الفلسطيني، وقد جاء في أول بيتين منها:

وا أمتاه الصمت قد أردانا   إنا سئمنا الجور والطغيانا

سفك العداة دماءنا في غزة  والغرب قد كانوا لهم أعوانا

وبجانب الشريف، تعيدني الذكرى لأنشودة أمي فلسطين التي أداها المبدعان: حمود الخضر، ومشاري العرادة، والتي تجاوزت مشاهداتها المليون مشاهدة، وقد علمت مؤخرا أنها من كلمات الشيخ الداعية يوسف القرضاوي، واسم القصيدة في الحقيقة "ثورة لاجئ"، وهي مُقتبسة عن موقف حقيقي حصل في حياة فضيلته؛ حيث قال: "لقيته غلامًا لم يبلغ الحلم، قد فر من خيام اللاجئين باكيًا، حزينًا، حانقًا، فكان بيني وبينه حوار سجلته في هذه القصيدة"، وقد تُوفِّي القرضاوي قبل عامين، بيد أنَّ معاني كلماته لا تزال حاضرةً في المسيرات والوقفات المعادية للاحتلال.

ولا أنسى في هذا المقام ذكر عنقاء فلسطين الراحلة ريم بنا، والتي غنَّت الكثير عن أرضها، وقدمت التراث الفلسطيني إلى العالم أجمع، وكانت تحرص على تقديم طموحات وأحلام ومعاناة أبناء شعبها بصوتها الصوفي العذب، كما أنها حرصت على الغناء أمام الأطفال وتقديم الأغاني التراثية الفلسطينية لهم في المهرجانات؛ حتى تكون القضية حاضرة دائمًا في أذهانهم، ومن بين الأغاني التي غنتها وأحدثت ضجة: أغنية "الغائب" للشاعر العبقري راشد حسين، والذي كتب الأغنية بعد أن أصدرت إسرائيل قانون الغائبين؛ حيث تقوم بموجبه بمصادرة أملاك الفلسطينيين الذين هاجروا إلى بلدان أخرى بحجة غيابهم، ولكن الغريب في القانون أن إسرائيل قامت بتطبيقه على الأوقاف الدينية فصادرتها، فكتب الشاعر قصيدته الساخرة التي سيُكفِّر سامعُها راشدَ حسين إنْ لم يفهم المعنى العميق الذي تقصده الأبيات.

ومن خلال تصفُّحي لعدد لا بأس به من الكتب، أيقنتُ أن بعض الكلمات لا تُقرأ بل تُشَاهَد، وبعض الكتاب لا يكتبون بل يتحولون لمصورين سينمائيين، ولعل الدكتور وليد سيف خير من يمثل هذا المعنى؛ إذ استطاع بكتابته "مسلسل التغريبة الفلسطينية" نبشَ الجرح الفلسطيني الغائر، وإعادة رواية أحداث نكبة 1948 على لسان أبطال عاشوا النكبة، وتلظوا بنار التهجير والتنكيل، وبجانب مسلسل التغريبة أذكر فيلم "إسماعيل"، الذي يحكي عن الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط حين كان شابًّا يكافح ليعيل أبويه بعد تهجيرهم، وقد كتب السيناريو حاتم الشريف، ولا يمكن كذا تجاهل فيلم "الهدية" المرشح للأوسكار؛ فالفيلم يصور القمع الذي يتعرض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلة يوميا في ظل وجود الأسوار، والحواجز، والوجود العسكري المستمر، وقد كتبته وأخرجته فرح النابلسي، التي أرادت من خلاله إعلاء كرامة الإنسان الفلسطيني، وفرض حرية التنقل التي يجب أن يتمتع بها دون قيود وتفتيش مستمر، وقد ركزت نابلسي في كتابتها على الإنسان المنفرد، وأرى أنها أجادت في اختيار هذه الزاوية للمعالجة؛ فنحن قد نعتاد الأعداد الكبيرة الضخمة ونألفها، ولا نبالي بالفرد الواحد.

قد تكون المواجهة "بالفضح"، فحين تكتب فأنت تقاوم مع الفلسطينيين بحبرك، وتفضح الجرائم التي يحاول الاحتلال التستر عليها وإخفاءها، فقد يخفون المقاوم بالاغتيال والسجن والإبعاد، ولكن لن يستطيعوا حبس كلمة خرجت من حنجرة تضوعت بالصدق، وأنت تستطيع بحبرك الثائر إعادة تشكيل ملامح غزة، وبعث صوت الضحكات التي قصفت، فسلاحك الحبر، وثغرك الكتابة والنشر، فالحبر أجر، والحبر جبر، والحبر يبشر بنصر تلو نصر، وأقول في عدة أبيات:

حبري ثار مع الثوار         وفداءً للأقصى سار

كلماتي قد تحدث فرقا       وكذا فيلمك والأوتار

ياسينًا قد تصنع أيضًا       وستوجع كل الأشرار

وستجتاز القبة حتمًا        شوكة نار ضد العار

وبنشرك قد تنقذ طفلا      سبب أنت لفك حصار

 

* طالبة بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

إسرائيل وأجواء النصر المزيف

حرص الاحتلال على بث أجواء من النصر والفرح مع عملية تحرير الرهائن، وإعطاء نتنياهو قبلة مؤقتة للحياة بعد أن حرَّر جيش الاحتلال الإسرائيلي 4 محتجزين أحياء من وسط قطاع غزة، في عملية وحشية مريعة، استخدم فيها كل أنواع الأسلحة برًا وبحرًا وجوًا، مخلفًا مجزرة راح ضحيتها ما لا يقل عن 274 شهيدا و600 جريح، فيما قُتل أهم القادة هو قائد وحدة اليمام الخاصة.

وثقت عشرات المقاطع التي انتشرت على منصات التواصل حجم آلة القتل التي استخدمها الاحتلال في مجزرة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، لتحرير أربعة أشخاص.

وتواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي عدوانها على غزة برا وبحرا وجوا منذ السابع من أكتوبر 2023، ما أسفر عن استشهاد 36801 فلسطيني، أغلبهم من الأطفال والنساء، وإصابة 83680 آخرين، فيما لا يزال آلاف الضحايا تحت الركام وفي الطرقات.

واليوم تجلى الدور الحقيقي للميناء العائم التي ادعت أمريكا أنه أنشئ لتخفيف معاناة الغزيين، حيث استخدمت شاحنات المساعدات الموجودة به والقوات المتمركزة فيه في عملية تحرير 4 أسرى إسرائيليين وارتكاب أبشع مجزرة في مخيم النصيرات.

ليتباهى "نتنياهو" بتحرير 4 أسرى إسرائيليين من قبضة حماس، وكأن ذلك شبيه بانتصار الجيش الأحمر الروسي على الألمان في معركة "ستالين غراد" أو كأنه في مستوى انتصار قوات الحلفاء على الألمان في إبرار "نورماندي".

هكذا استردوا أسراهم بمجزرة النصيرات لا أحد يذكر الأمعاء التي تبرز من جسد صبي في الشارع، فروة الرأس التي تتدلى من رأس فتاة في المستشفى، الرجل العجوز بلا ساقين وآخر شاب يحترق.

وتوغلت آليات عسكرية بشكل مفاجئ فى مناطق شرقى وشمال غربي مخيم النصيرات بالتزامن مع القصف المدفعي العنيف الذي استهدف مناطق واسعة من المخيم، كما توغلت قرب جسر وادي غزة على طريق "صلاح الدين" وسط القطاع، ووسعت توغلها شرقي دير البلح وفي مخيمي البريج والمغازي.

وانتشلت طواقم الإسعاف عشرات الشهداء من الشعب الفلسطيني بينهم أطفال من الشوارع ومنطقة السوق المركزي الذي سقطت عليه القذائف، بينما اكتظت أقسام المستشفيات بعشرات الجرحى من الحالات الحرجة.

ليخرج نتنياهو للعالم بالانتصار المزيف، والملطخ بالدماء وسط أكثر من ثلاث لواءات وأكثر من خمس فرق مدرعة وأكثر من600 طائرة مسيرة وتغطية من جميع الأسلحة ولم يستطيعوا الوصول إلى مخرج وطلبوا المساعدة والإمداد، ويفشل في إتمام عملية عسكرية ويقتل فيها قائد القوات ويدمر حي سكني كامل ليخرج أربعة أشخاص!

على" نتنياهو" ألا يعتقد أن تحرير الأربعة الأسرى بمنزلة عربون لتحرير أسرى آخرين عسكريا، أو مقدمة لانتصارات عسكرية قادمة، بالعكس هو إفشال لاتفاقية الهدنة، وتسليم المختطفين أحياء، وأتوقع تصعيد خطير ضد الصهاينة أكثر مما كان وليست بالعمليات العسكرية من ضمانات برجوع باقي المختطفين أو ابقائهم في سلام.

تحرير الأربعة المحررين ليس إنجازا لأن لو استطعنا أن نقول إن الاحتلال خلال ثمانية أشهر منذ السابع من أكتوبر الماضي حرر "أربعة أشخاص" من المختطفين، من قبل قوات حماس، يعني هذا أن الاحتلال يحتاج لتحرير المائة وعشرون "مخطوفا" إلى عشرون عامًا لكي يستطيعوا إعادتهم إلى ذويهم.

مقالات مشابهة

  • النصر السعودي يتحرك لضم روديجير
  • غزة حجر الزاوية.. كتاب عن الإبادة الجماعية وسقوط مقولة القوة التي لا تقهر
  • الهلال يسرق شعبية كريستيانو من النصر
  • بين مكامن الوجع وضِفاف النصر
  • قانون الطبيعة: باختيار النصر التكتيكي نعجّل بالهزيمة الاستراتيجية
  • كاسترو يكشف عن موقف لابورت مع النصر
  • حماس ليست هي المشكلة – عودوا إلى تاريخ إسرائيل!
  • الأهلي يفاوض كيميتش والنصر يتخلى عن لابورت
  • إسرائيل وأجواء النصر المزيف
  • «الصحفيين» تهنئ الجماعة الصحفية بـ«يوم الصحفي»: سيظل عيدا سنويا للمهنة