لجريدة عمان:
2025-12-12@23:47:24 GMT

بومة غسّان

تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT

بومة غسّان

استيقظتُ في منتصف ليلة حالكة. كنتُ أتهاوى مترنّحا وعطشانا في الممر المُعتم تملأ رأسي الأصوات الصارخة من المذبحة القديمة الجديدة، وفجأة رأيتها أمامي. وقف شعر رأسي وأنا أرى بومة غسّان واقفة أمامي تحدق فيّ بعينيها الواسعتين الغاضبتين. منذ ستين عاما وهي تحدّق بكل هذا الغضب الواسع.

شيء ما أصابني في تلك اللحظة ببومة غسان كنفاني!

كما قال غسان: «شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماما، وبأنني ارتبط معه بذكرى يجب ألا تُمحى».

ذاكرتي اشتعلت فجأة بملامح البومة ولم يكن شيء أمامي سواها. كل الأحداث الأليمة في الأيام الماضية كانت تقودني إليها بدون أن أنتبه. رأيتها كما رآها غسان في القصة. كانت لا تعني شيئا بذاتها، إنها تختصر شيئا ما، تختصر الرّمز إلى حدّ فيضان المعنى.

القصة القصيرة التي عنوانها «البومة في غرفة بعيدة» كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قد نشرها في مجموعته القصصية «موت سرير رقم 12» في ستينيات القرن الماضي.

كانت قصة غسان القصيرة أكبر من ذاتها، ومن ضمن أشياء كثيرة تقولها كانت تصفُ تلاحم المقاومين مع العدو في مناطق القتال بالبنادق والفؤوس. القصة تصف المشاهد الحية كما لو أننا نشاهدها الآن في شاشاتنا اللامعة ونغضب كثيرا ثم نصمت خجلا.

إن الأمر كما قال غسان في القصة: «كنا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شِبرا شِبرا؟ وكيف كنّا نتراجع شبرا شبرا؟».

المركز السّردي والنفسي للقصة هو الطفل الذي حمل الصّندوق المليء بالقنابل الذي تركه «المرحوم»، والمرحوم هنا هو مناضل فلسطيني تترك لنا القصة تخيّل من هو؟ وكيف يبدو؟ ولكنه ترك صندوق المقاومة هذا ليوم قادم وكُلِّف بطلنا الصبيّ في القصة بأن يخبّئه تحت شجرة تين عملاقة في الغابة لمعركة قادمة!

طوال الأشهر الماضية ونحن نرى الفلسطيني شهيدا بالبندقية وشهيدا تحت الركام. ما زالت تدوي في رأسي عبارة قالتها أم فلسطينية تختصر أهوال غزة. قالت في لحظة بكاء وهي تشمّ شيئا ما وسط الخراب الذي حولها بينما تنظر إلى الكاميرا- إلينا، قالت وهي تبكي: «هذه رائحة الشهداء». لقد أصابني الموضوع بصدمة شديدة حين رأيت أن الفلسطيني ليس له شقيق. لقد تركناهم بلا بنادق ولا طائرات. كدت أكفر بالإنسانية حتى شاهدت بومة غسان في تلك اللحظة!

كانت لنكهة الحرب الحالية على غزة نكهة اكتشافي الأول لغسان كنفاني. كان كاتبا فلسطينيا ليس بأسماء الأماكن أو الشخصيات في قصصه ولكن بروحها الخارجة من المذبحة وتفاصيلها كما لو أنها تحدث الآن. صرخة الألم وصرخة الغضب تختلطان. ترى من خلاله الفلسطيني فلسطينيا وهو يمشي في الشارع وهو يشرب الشاي وهو يبيع الكعك في الرصيف وهو يكتب مقالا. تغرق في شخوص وأحداث قصص غسّان كما لو أنك فلسطيني أيضا. كان يستطيع أن يقول شيئا كثيرا بلا كلمات كثيرة، تماما مثل «رائحة الشّهداء».

إن العدو لا يريدنا أن نرى شيئا سوى الألم الذي يصنعه فينا أمّا نحن، فريثما نُعدّ البندقية، نبدأ في استخدام عيني البومة الغاضبتين الصّابرتين، الرّمز!

لا أنكر أنني في البداية كنت غاضبا وأنا أرى الرّمز يُتداول بكثافة عبر اللغة وعبر الصورة رغم القتل والتدمير، وكأنه لا شيء لنا سوى القتال بالرّمز. ثم ذكّرتني بومة غسّان بالصندوق الذي خبّأه الطفل في القصة. خبّأ صندوق القنابل تحت شجرة التين العملاقة ثم التفت ورأى البومة.

استثمر غسّان البومة كرمز لذاكرة تقاوم ولا تستسلم وحَبَك ذلك مع مشهد القنابل التي خُبّأت ليوم سيأتي. القنبلة والرمز اشتركا في المقاومة: «كان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب، وكانت تحدّقُ إليّ عبر الظُّلمة، تحديقا متواصلا لا يرتعش».

أرى الآن البومة بعينين جديدتين. بعد كل هذه العقود من الزّمن صارت عينا بومة غسّان أكثر بلاغة.

«بدت لي أنها مصرّةٌ على وقوفها المتحدي وأنها سوف تبقى رغم كل الرصاص والموت».

المعادل الرّمزي الأقرب لطائر البوم هو العزلة والاكتفاء بالذات. تبدأ قصة غسان من عزلة الكاتب في غرفته وتمرّ بعزلته أمام البومة في الغابة، وتعود إلى عزلته في غرفته بعد استعادة الذاكرة الشخصية: ذاكرة البومة.

البومة هي التقاء الشخصي بالعام، هي التقاء الخصوصية الفلسطينية بالعمومية الإنسانية.

أعتقد أن المُقاومة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولكنها تتحوّل من شكل إلى آخر. إن قدرة الرمز على التكاثر والتوالد مع الزمن هي إحدى القدرات العجيبة للأدب على الوقوف أمام الآلة العسكرية. ونكاد نلمس هذا الأثر في الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية التي انطلقت مؤخرا من داعمين للقضية الفلسطينية بروحٍ ملؤها الإنسانية والتضامن مع الحق. إن استعادة فلسطين لقيمتها الإنسانية في السّياق العالمي هي نتيجة لكل الجهود البشرية ومن ضمنها الجهود الأدبية. استمرارية الرّمز عبر الزمن وخصوصا إن كان مُكثّفا هي معادل لصمود واستمرارية القضايا العادلة.

ما زال القتال على الأرض جاريا إلى هذا اليوم وقد نكون خسرنا مساحاتٍ كثيرة، ولكننا صامدون في معركة الذاكرة. القتال على الذّاكرة لم يُحسم بعد ونحن مستمّرون في القتال معك يا غسّان.

أرى عينيكما في كل مكان الآن، عينا البومة الغاضبتين، وعيناك الجريئتان المقاومتان إلى الأبد يا غسّان.

عبدالله خليفة عبدالله قاص عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی القصة

إقرأ أيضاً:

فصل جديد من ميليشيا أبو شباب في غزة.. ما القصة؟

تسعى المليشيات المدعومة من الاحتلال الإسرائيلي والتي تعمل في مناطق تسيطر عليها إسرائيل في قطاع غزة لإعادة تنظيم صفوفها بعد مقتل ياسر أبو شباب أبرز قادة هذه المجموعات الأسبوع الماضي. بعد حرب إبادة إسرائيلية على مدى عامين.

اقرأ ايضاًإسرائيل تجدد قصفها أهدافاً لـ "حزب الله" جنوبي لبنان

نقلت وكالة "رويترز" للأنباء عن 3 مصادر أمنية وعسكرية مصرية قولها إن هذه المليشيات المدعومة إسرائيلياً، كثفت نشاطها منذ وقف إطلاق النار في غزة في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وقدرت المصادر عدد أفراد هذه المليشيات في الوقت الراهن بنحو ألف عنصر، بزيادة 400 فرد عن عددها قبل وقف إطلاق النار.

وقُتل أبو شباب، زعيم الميليشيا في قطاع غزة، والذي قالت عن مقتله حركة "حماس" إن ذلك مصير كل عميل، وأنها النهاية الحتمية لمن يخون وطنه وأبناء شعبه.

في الوقت ذاته، ثمّنت حركة حماس موقف عائلة أبو شباب التي أعلنت في أيار مايو الماضي براءتها من "أبو شباب".

وفي وقت سابق من شهر يونيو/حزيران الماضي، أقرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدعم إسرائيل تلك المليشيات باعتبارها مناوئة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).

وكانت حركة حماس قد أكدت أن مقتل أبو شباب "هو المصير الحتمي لكل من خان شعبه ووطنه ورضي أن يكون أداة في يد الاحتلال"، ونفت أي دور لها في قتله.

اقرأ ايضاًشرط حماس للبدء بالمرحلة الثانية من "خطة ترامب"

وأكد حازم قاسم المتحدث باسم حماس أن الأجهزة الأمنية التابعة للحركة ستلاحق المتعاونين "حتى الانتهاء من هذه الظاهرة".

وقد ذكر في  تصريحات لرويترز قبل مقتل أبو شباب أن الجيش الإسرائيلي يحمي العملاء في المناطق التي يسيطر عليها "وبالتالي هذا يصعب الأمر على الأجهزة الأمنية وقوى المقاومة هنا، لكن سيظل موضوع ملاحقتهم مشروعا وموجودا ومُشرعا حتى الانتهاء من هذه الظاهرة أو من هذه الحالة المعزولة وطنيا ومعزولة شعبيا".

المصدر: رويترز


© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)

عمر الزاغ

محرر أخبار، كاتب وصانع محتوى عربي ومنتج فيديوهات ومواد إعلامية، انضممت للعمل في موقع أخبار "بوابة الشرق الأوسط" بعد خبرة 7 أعوام في فنونالكتابة الصحفية نشرت مقالاتي في العديد من المواقع الأردنية والعربية والقنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي. ‎

الأحدثترند فصل جديد من ميليشيا أبو شباب في غزة.. ما القصة؟ اليونيفيل في لبنان تتعرض لإطلاق نار من دبابة إسرائيلية مطالب سورية جديدة في مباحثات "الملف الأمني" مع إسرائيل تركيا لـ"قسد" عليكم الخضوع لدمشق أمطار غزيرة وسيول جارفة تقتل اثنين بالعراق.. ونداء استغاثة في الشمال Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا فريقنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTube

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن

اشترك الآن

© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter

مقالات مشابهة

  • ليلة لم تنمها إمبابة| القصة الكاملة لانفجار مدينة العمال.. وشهود عيان: إسطوانة بوتاجاز السبب والبيوت كانت بتتهز
  • لجنة حماية الصحفيين: حرب غزة كانت الأكثر دموية للصحفيين
  • من تحرير حلب إلى دمشق.. لماذا كانت لدير الزور قصة مختلفة؟
  • فصل جديد من ميليشيا أبو شباب في غزة.. ما القصة؟
  • سرقة مجوهرات اللوفر.. مسؤول فرنسي: 30 ثانية كانت ستمنع اللصوص
  • ياسين براهيمي للجزيرة نت: إصابتي كانت مروعة
  • قاصر غادرت منزل والدتها في الأشرفية الشهر الماضي ولم تعدّ... هل من يعرف عنها شيئاً؟ (صورة)
  • كانت تسير بسرعة جنونية.. عجلة تدهس 3 أشخاص وتتسبب بمقتلهم في النجف
  • كانت الحلويات المتاحة في الدكاكين كلها تعود الى العصر الحجري
  • ترامب: الصومال أسوأ دولة في العالم.. وإلهان عمرلا تفعل شيئا سوى التذمر