لجريدة عمان:
2025-10-26@12:46:21 GMT

بومة غسّان

تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT

بومة غسّان

استيقظتُ في منتصف ليلة حالكة. كنتُ أتهاوى مترنّحا وعطشانا في الممر المُعتم تملأ رأسي الأصوات الصارخة من المذبحة القديمة الجديدة، وفجأة رأيتها أمامي. وقف شعر رأسي وأنا أرى بومة غسّان واقفة أمامي تحدق فيّ بعينيها الواسعتين الغاضبتين. منذ ستين عاما وهي تحدّق بكل هذا الغضب الواسع.

شيء ما أصابني في تلك اللحظة ببومة غسان كنفاني!

كما قال غسان: «شعرت فجأة بأنني أعرف هذا الوجه تماما، وبأنني ارتبط معه بذكرى يجب ألا تُمحى».

ذاكرتي اشتعلت فجأة بملامح البومة ولم يكن شيء أمامي سواها. كل الأحداث الأليمة في الأيام الماضية كانت تقودني إليها بدون أن أنتبه. رأيتها كما رآها غسان في القصة. كانت لا تعني شيئا بذاتها، إنها تختصر شيئا ما، تختصر الرّمز إلى حدّ فيضان المعنى.

القصة القصيرة التي عنوانها «البومة في غرفة بعيدة» كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني قد نشرها في مجموعته القصصية «موت سرير رقم 12» في ستينيات القرن الماضي.

كانت قصة غسان القصيرة أكبر من ذاتها، ومن ضمن أشياء كثيرة تقولها كانت تصفُ تلاحم المقاومين مع العدو في مناطق القتال بالبنادق والفؤوس. القصة تصف المشاهد الحية كما لو أننا نشاهدها الآن في شاشاتنا اللامعة ونغضب كثيرا ثم نصمت خجلا.

إن الأمر كما قال غسان في القصة: «كنا نشهد، دون أن نقدر على الاختيار، كيف كانت تتساقط فلسطين شِبرا شِبرا؟ وكيف كنّا نتراجع شبرا شبرا؟».

المركز السّردي والنفسي للقصة هو الطفل الذي حمل الصّندوق المليء بالقنابل الذي تركه «المرحوم»، والمرحوم هنا هو مناضل فلسطيني تترك لنا القصة تخيّل من هو؟ وكيف يبدو؟ ولكنه ترك صندوق المقاومة هذا ليوم قادم وكُلِّف بطلنا الصبيّ في القصة بأن يخبّئه تحت شجرة تين عملاقة في الغابة لمعركة قادمة!

طوال الأشهر الماضية ونحن نرى الفلسطيني شهيدا بالبندقية وشهيدا تحت الركام. ما زالت تدوي في رأسي عبارة قالتها أم فلسطينية تختصر أهوال غزة. قالت في لحظة بكاء وهي تشمّ شيئا ما وسط الخراب الذي حولها بينما تنظر إلى الكاميرا- إلينا، قالت وهي تبكي: «هذه رائحة الشهداء». لقد أصابني الموضوع بصدمة شديدة حين رأيت أن الفلسطيني ليس له شقيق. لقد تركناهم بلا بنادق ولا طائرات. كدت أكفر بالإنسانية حتى شاهدت بومة غسان في تلك اللحظة!

كانت لنكهة الحرب الحالية على غزة نكهة اكتشافي الأول لغسان كنفاني. كان كاتبا فلسطينيا ليس بأسماء الأماكن أو الشخصيات في قصصه ولكن بروحها الخارجة من المذبحة وتفاصيلها كما لو أنها تحدث الآن. صرخة الألم وصرخة الغضب تختلطان. ترى من خلاله الفلسطيني فلسطينيا وهو يمشي في الشارع وهو يشرب الشاي وهو يبيع الكعك في الرصيف وهو يكتب مقالا. تغرق في شخوص وأحداث قصص غسّان كما لو أنك فلسطيني أيضا. كان يستطيع أن يقول شيئا كثيرا بلا كلمات كثيرة، تماما مثل «رائحة الشّهداء».

إن العدو لا يريدنا أن نرى شيئا سوى الألم الذي يصنعه فينا أمّا نحن، فريثما نُعدّ البندقية، نبدأ في استخدام عيني البومة الغاضبتين الصّابرتين، الرّمز!

لا أنكر أنني في البداية كنت غاضبا وأنا أرى الرّمز يُتداول بكثافة عبر اللغة وعبر الصورة رغم القتل والتدمير، وكأنه لا شيء لنا سوى القتال بالرّمز. ثم ذكّرتني بومة غسّان بالصندوق الذي خبّأه الطفل في القصة. خبّأ صندوق القنابل تحت شجرة التين العملاقة ثم التفت ورأى البومة.

استثمر غسّان البومة كرمز لذاكرة تقاوم ولا تستسلم وحَبَك ذلك مع مشهد القنابل التي خُبّأت ليوم سيأتي. القنبلة والرمز اشتركا في المقاومة: «كان يومض في عيونها ذلك الغضب المشوب بخوف غريب، وكانت تحدّقُ إليّ عبر الظُّلمة، تحديقا متواصلا لا يرتعش».

أرى الآن البومة بعينين جديدتين. بعد كل هذه العقود من الزّمن صارت عينا بومة غسّان أكثر بلاغة.

«بدت لي أنها مصرّةٌ على وقوفها المتحدي وأنها سوف تبقى رغم كل الرصاص والموت».

المعادل الرّمزي الأقرب لطائر البوم هو العزلة والاكتفاء بالذات. تبدأ قصة غسان من عزلة الكاتب في غرفته وتمرّ بعزلته أمام البومة في الغابة، وتعود إلى عزلته في غرفته بعد استعادة الذاكرة الشخصية: ذاكرة البومة.

البومة هي التقاء الشخصي بالعام، هي التقاء الخصوصية الفلسطينية بالعمومية الإنسانية.

أعتقد أن المُقاومة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولكنها تتحوّل من شكل إلى آخر. إن قدرة الرمز على التكاثر والتوالد مع الزمن هي إحدى القدرات العجيبة للأدب على الوقوف أمام الآلة العسكرية. ونكاد نلمس هذا الأثر في الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية التي انطلقت مؤخرا من داعمين للقضية الفلسطينية بروحٍ ملؤها الإنسانية والتضامن مع الحق. إن استعادة فلسطين لقيمتها الإنسانية في السّياق العالمي هي نتيجة لكل الجهود البشرية ومن ضمنها الجهود الأدبية. استمرارية الرّمز عبر الزمن وخصوصا إن كان مُكثّفا هي معادل لصمود واستمرارية القضايا العادلة.

ما زال القتال على الأرض جاريا إلى هذا اليوم وقد نكون خسرنا مساحاتٍ كثيرة، ولكننا صامدون في معركة الذاكرة. القتال على الذّاكرة لم يُحسم بعد ونحن مستمّرون في القتال معك يا غسّان.

أرى عينيكما في كل مكان الآن، عينا البومة الغاضبتين، وعيناك الجريئتان المقاومتان إلى الأبد يا غسّان.

عبدالله خليفة عبدالله قاص عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی القصة

إقرأ أيضاً:

المقداد: ستبقى المقاومة على طريق الدفاع عن لبنان مهما كانت التضحيات

انتقد عضو "كتلة الوفاء للمقاومة" النائب الدكتور علي المقداد "الصمت الرسمي حيال الاعتداءات الإسرائيلية اليومية"، وقال: "إن اللبنانيين كانوا ينتظرون من الحكومة، ومن وزارة الخارجية تحديدًا، موقفًا واضحًا يدين العدو الإسرائيلي بحق اللبنانيين، لكن للأسف لم يصدر أي بيان في هذا الاتجاه، وكأن دماء اللبنانيين لا تعنيهم".

جاء ذلك خلال رعايته حفل افتتاح مشروع الطاقة الشمسية لبئر بلدة شعت، الذي نظمته البلدية والممول من "حزب الله"، والذي تضمن تركيب مضخة جديدة بقوة 125 حصانًا، وحقل ألواح طاقة شمسية يضم 390 لوحًا مع كامل تجهيزاته، بلغت كلفته الإجمالية نحو 181 ألف دولار، بحضور مسؤول العمل البلدي في البقاع الشيخ مهدي مصطفى، رئيس بلدية شعت شحادة الحاج حسن، مسؤول القطاع الخامس أحمد النمر، ممثلين عن شركة "آرش" والشركة المنفذة، وفاعليا سياسية وبلدية واختيارية واجتماعية.

وأضاف المقداد: "المقاومة ستبقى على طريق الدفاع عن لبنان مهما كانت التضحيات، ولا يوجد قوة في العالم يمكن أن تثنيها عن الاستمرار في مسيرتها لحماية الوطن وصون سيادته ووحدته، ومواجهة كل محاولات الفتنة الداخلية".

ودعا إلى "الإسراع في اتخاذ قرار بإعادة إعمار الجنوب"، مشددًا على "ضرورة السماح بدخول التمويل الخارجي ودعم التمويل الداخلي عبر الموازنة العامة، فلا يمكن القبول بموازنة لا تتضمن تمويلًا لإعمار الجنوب، وإذا فُرضت موازنة من دون ذلك فسيتم رفضها".

وختم المقداد مؤكدا على "وحدة الموقف بين حزب الله وحركة أمل في مختلف الملفات الوطنية"، نافيًا "كل ما يروَّج عن تباين أو تمايز بينهما، موقفنا واحد في السياسة، وفي الحكومة، وفي المجلس النيابي، وفي الميدان".

الحاج حسن

وبدوره عبر الحاج حسن عن "امتنان المجلس البلدي وشكره العميق لكل من ساهم في انجاز هذا المشروع الحيوي على راسهم الامين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، وقيادة منطقة البقاع والعمل البلدي، والقطاع الخامس، ونعاهدكم على مواصلة الجهود لتقديم المزيد من الخدمات والمشاريع التي تخدم أبناء البلدة".

ياسين

وعرض المهندس رامز ياسين كلمة شركة "آرش" مراحل تنفيذ المشروع وتكلفته رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد، مؤكدا "التزام الشركة بدعم المشاريع التنموية والخدماتية التي تساهم في تحسين حياة المواطنين".
  مواضيع ذات صلة المقداد: المقاومة ستبقى على طريق الدفاع عن لبنان مهما كانت التضحيات Lebanon 24 المقداد: المقاومة ستبقى على طريق الدفاع عن لبنان مهما كانت التضحيات 26/10/2025 13:36:30 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 المقداد: سلاح المقاومة لن يُوجّه إلا نحو العدو Lebanon 24 المقداد: سلاح المقاومة لن يُوجّه إلا نحو العدو 26/10/2025 13:36:30 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 المقداد: حفظ المقاومة ودماء الشهداء أمانة في أعناقنا Lebanon 24 المقداد: حفظ المقاومة ودماء الشهداء أمانة في أعناقنا 26/10/2025 13:36:30 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 المقداد: المقاومة مستمرة وباقية Lebanon 24 المقداد: المقاومة مستمرة وباقية 26/10/2025 13:36:30 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 وزارة الخارجية الإسرائيلية الإسرائيلي حزب الله إسرائيل البقاع التزام تابع قد يعجبك أيضاً بهية الحريري عزت موسى بشقيقته Lebanon 24 بهية الحريري عزت موسى بشقيقته 13:34 | 2025-10-26 26/10/2025 01:34:16 Lebanon 24 Lebanon 24 في عيترون... إنفجار جسم مشبوه من مخلفات العدوّ بأحد المواطنين Lebanon 24 في عيترون... إنفجار جسم مشبوه من مخلفات العدوّ بأحد المواطنين 13:30 | 2025-10-26 26/10/2025 01:30:29 Lebanon 24 Lebanon 24 بالصورة... إليكم هويّة المُستهدف في "غارة الناقورة" Lebanon 24 بالصورة... إليكم هويّة المُستهدف في "غارة الناقورة" 13:13 | 2025-10-26 26/10/2025 01:13:31 Lebanon 24 Lebanon 24 جشي: الهجمات على لبنان بإشراف أميركي مباشر Lebanon 24 جشي: الهجمات على لبنان بإشراف أميركي مباشر 13:12 | 2025-10-26 26/10/2025 01:12:39 Lebanon 24 Lebanon 24 عودة: اللبنانيون المتمسكون باستقلال بلدهم لن يخذلوا إن آمنوا بقضيتهم وناضلوا من أجلها Lebanon 24 عودة: اللبنانيون المتمسكون باستقلال بلدهم لن يخذلوا إن آمنوا بقضيتهم وناضلوا من أجلها 13:07 | 2025-10-26 26/10/2025 01:07:46 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة معلومات مثيرة عن "تغيير الساعة في لبنان".. أمورٌ لا يعرفها كثيرون Lebanon 24 معلومات مثيرة عن "تغيير الساعة في لبنان".. أمورٌ لا يعرفها كثيرون 20:00 | 2025-10-25 25/10/2025 08:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 رسالة إسرائيلية إلى لبنان.. تقريرٌ يتحدث عن "تهديد كبير" Lebanon 24 رسالة إسرائيلية إلى لبنان.. تقريرٌ يتحدث عن "تهديد كبير" 23:08 | 2025-10-25 25/10/2025 11:08:09 Lebanon 24 Lebanon 24 جريمة مروّعة في لبنان... وفاة شابة بعد أن أحرقها زوجها بالزيت المغلي (صورة) Lebanon 24 جريمة مروّعة في لبنان... وفاة شابة بعد أن أحرقها زوجها بالزيت المغلي (صورة) 14:52 | 2025-10-25 25/10/2025 02:52:00 Lebanon 24 Lebanon 24 بالفيديو... شاهدوا لحظة وقوع حادث السير الذي أودى بحياة المأمور رباح شديد Lebanon 24 بالفيديو... شاهدوا لحظة وقوع حادث السير الذي أودى بحياة المأمور رباح شديد 12:01 | 2025-10-26 26/10/2025 12:01:34 Lebanon 24 Lebanon 24 حديثٌ عن "اقتحام لحزب الله".. ماذا قال تقرير إسرائيلي؟ Lebanon 24 حديثٌ عن "اقتحام لحزب الله".. ماذا قال تقرير إسرائيلي؟ 21:42 | 2025-10-25 25/10/2025 09:42:38 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 13:34 | 2025-10-26 بهية الحريري عزت موسى بشقيقته 13:30 | 2025-10-26 في عيترون... إنفجار جسم مشبوه من مخلفات العدوّ بأحد المواطنين 13:13 | 2025-10-26 بالصورة... إليكم هويّة المُستهدف في "غارة الناقورة" 13:12 | 2025-10-26 جشي: الهجمات على لبنان بإشراف أميركي مباشر 13:07 | 2025-10-26 عودة: اللبنانيون المتمسكون باستقلال بلدهم لن يخذلوا إن آمنوا بقضيتهم وناضلوا من أجلها 12:55 | 2025-10-26 نقابة المعلمين في المدارس الخاصة تشرح التعديلات الجديدة الخاصة بصندوق التعويضات فيديو ميقاتي: لبنان أمام فرصة تاريخية ولمفاوضات فوريّة تنطلق من مضامين اتفاق الهدنة Lebanon 24 ميقاتي: لبنان أمام فرصة تاريخية ولمفاوضات فوريّة تنطلق من مضامين اتفاق الهدنة 12:08 | 2025-10-25 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 دعما له.. أغنية ورسالة من محمد شاكر إلى والده (فيديو) Lebanon 24 دعما له.. أغنية ورسالة من محمد شاكر إلى والده (فيديو) 10:09 | 2025-10-24 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 في الفاتيكان.. بدء مراسم إعلان قداسة المطران إغناطيوس مالويان Lebanon 24 في الفاتيكان.. بدء مراسم إعلان قداسة المطران إغناطيوس مالويان 10:16 | 2025-10-19 26/10/2025 13:36:30 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24

مقالات مشابهة

  • الأزهر: المتوفي ينتفع بالصدقة سواء كانت من ماله أو من مال الحي
  • المقداد: ستبقى المقاومة على طريق الدفاع عن لبنان مهما كانت التضحيات
  • الرئيس السيسي: كانت لدينا ثقة بانتهاء الحرب في غزة
  • 4 أذكار تغفر الذنوب ولو كانت مثل الجبال.. داوم عليها
  • ترامب: إسرائيل لن تفعل شيئا بشأن الضفة الغربية
  • ترامب: إسرائيل لن تفعل شيئا في الضفة الغربية.. لا تقلقوا بشأن ذلك
  • بعد تصويت الكنيست.. ترامب: إسرائيل "لن تفعل شيئا" في الضفة الغربية
  • ترامب: إسرائيل "لن تفعل شيئا" في الضفة الغربية
  • ترامب: إسرائيل لن تضم الضفة ولن تفعل شيئا حيالها
  • تقرير غربي: لم يحقق الحوثيون وإسرائيل شيئاً من ضرباتهم المتبادلة.. والأخيرة ستعتمد على توسيع نطاقها الاستخباراتي (ترجمة خاصة)