تعيش الأسر التونسية في شهر حزيران/ يونيو من كل عام ضغط الامتحانات والمناظرات وخاصة مناظرة الثانوية العامة (البكالوريا). تثير هذا المرحلة كثيرا من اللغط حول المدرسة والتعليم في تونس ومستقبل المدرسة ومستقبل خريجيها، ويغلب على الكلام كثير من اليأس الممزوج بحنين إلى زمن ذهبي للمدرسة التونسية، فاللحظة التعليمية في تونس هي لحظة شك في المستقبل رغم الانخراط العام في العملية التعليمية.
أسئلة المستقبل ترتد إلى حديث تمجيد التجربة ومواساة الذات بمكاسب تآكلت مع شحنات تقديس للزعيم مؤسس المدرسة، وهي نزعة توثين تكبل كل فكر وكل طموح.
صراع أيديولوجي حول المدرسة
كان الحديث في أول الثورة عن ضرورة إعادة تأسيس التعليم في تونس؛ بعد أن استنفدت الإصلاحات السابقة أغراضها وانتهت إلى مدرسة يقول الجميع أنها فاشلة ولكن لا أحد يجرؤ على إعادة التأسيس، غير أن حديث الثورة وطموحاتها التأسيسية برُدَ وعاد الحديث عن الإصلاح بالترقيع هنا وهناك؛ دون مشروع ودون رؤية استشرافية لمدرسة قادرة على الدخول في القرن الواحد والعشرين الرقمي.
كان الحديث في أول الثورة عن ضرورة إعادة تأسيس التعليم في تونس؛ بعد أن استنفدت الإصلاحات السابقة أغراضها وانتهت إلى مدرسة يقول الجميع أنها فاشلة ولكن لا أحد يجرؤ على إعادة التأسيس، غير أن حديث الثورة وطموحاتها التأسيسية برُدَ وعاد الحديث عن الإصلاح بالترقيع هنا وهناك
في واقع مصاب بكل أدواء الأيديولوجيا حُشرت عملية إصلاح التعليم في معركة الاستئصال المدمرة، حيث يذهب البعض إلى أن كل إصلاح هو اعتداء على قدسية الزعيم المؤسس الذي يُنسب إليه فضل يصل إلى حد القول إنه خلق البلد من العدم وأن كل تغيير أو تعديل هو كفر بالزعيم، لذلك يسعى إلى تقدس الماضي ومنع التجديد.
يدعم هذا اتجاه ثان يعتبر المدرسة مكانا للتحديث الفكري ويحمّلها مهمة كنس الثقافة الدينية المتخلفة، وينتهي هذا القول بمنع الإسلاميين من إدارة وزارة التربية، فهي إقطاع خالص لتيار الحداثة لا يُسمح لإسلامي بالولوج إليه كي لا تتم أسلمة التعليم؛ هذا رغم انكشاف أمر مهم وهو أن ليس للإسلاميين مشروع لتحديث التعليم ولا حتى لوضع تصورات تعليم ذي منحى إسلامي (إن كان يوجد مثل هذا المنحى).
ما هي رهانات تيار التحديث الآن؟ هناك رهان واحد هو منع الإسلاميين من المساس بالتعليم كما ورثناه عن حقبة الستينات، لذلك يعتبر الصراع حول المدرسة والتعليم عامة أكبر العوائق التي تقوم الآن أمام إصلاح العملية التعليمة وتطوير أداء المدرسة لتكون في مستوى زمن تعليمي مختلف عن زمن الاستقلال. وقد تضافر جهد النقابات اليسارية والقومية مع جهد الأحزاب للإبقاء على هذا الإقطاع منطقة محرمة على كل تحديث وتطوير؛ لم يلجه الإسلاميون لكنه لم يتطور أيضا.
الإصلاح الذي يتأخر
حقيقة يقر بها الجميع ويتهربون من علاجها؛ المدرسة التونسية التي بنت الدولة انتهت صلاحيتها واستنفدت قدرتها على الاستمرار، لقد أدت مهمة كبيرة وخرجت رجال الإدارة والتعليم والأمن والجيش (تونسة الإطارات).
منذ التسعينات وصلت المدرسة إلى مرحلة القطيعة بين التعليم والتشغيل فظهرت بطالة الخريجين ولا تزال تتفاقم، لكن البرامج لم تتعدل على تعليم من أجل السوق بل لا تزال تروج لمدرسة تخرج موظفين عموميين (يقبضون من الدولة).
ترمي المدرسة الآن بعدد كبير من الخرجين ذوي تكوين هش في سوق شغل مغلقة وفي زمن إغلاق الوظيفة العمومية لأسباب اقتصادية، لكن البرامج التعليمية والخطط الكبرى لم تتغير، لذلك نلاحظ أن الناس يجتهدون بوسائلهم الخاصة لإنقاذ أبنائهم من المدرسة العمومية ومصير خريجيها. فيدفعون "دم قلوبهم" من أجل رفد تكوين أبنائهم بالدرس الخاص ثم بالذهاب إلى الجامعات الخاصة (التي انتشرت بسرعة) وإرسال أبنائهم إلى التعليم بالخارج.
لا ينشغل الأهالي كثيرا بمن يدير الوزارات التعليمية ولا بانتمائه السياسي بقدر انشغالهم بتوفير بيئة دراسية سليمة خالية من العنف والمخدرات ونظيفة ويحترم فيها المتعلم ولا يتم فيها ابتزاز الأهالي بالدرس الخاص، حيث أن سمعة رجال التعليم انهارت لدى الأهالي
ومن علامات اجتهاد الأهالي بعد يأسهم من المدرسة الميل الجارف لتعليم أولادهم اللغة الإنجليزية كلغة ثانية ووسيلة لدخول العالم؛ بديلا عن اللغة الفرنسية الميتة التي لا تفتح سوقا، وهي لغة مفروضة بقوة سياسية على المدرسة حتى أن ساعات تدريسها في المراحل الأولى تفوق عدد ساعات اللغة العربية الأم، وفي كل مناظرة تتحول أعداد (علامات) التلاميذ في اللغة الفرنسية إلى نكتة عامة.
كل حركة الأهالي تشير إلى حاجة قوية إلى إصلاح المدرسة لكن الإصلاح يتأخر ونظن أن زمنه قد فات والمدرسة العمومية متجهة إلى انهيار كامل، رغم الضجة التي ترافق المناظرات كالثانوية العامة.
خطوط الإصلاح المطلوب
اجتهادات الأهالي الفردية تشير إلى المطلوب دون تنظيرات أيديولوجية. أول مطالبهم ذات طبيعة تشغيلية، وهو تحرير أولادهم من نير اللغة الفرنسية حيث يرى الجميع قصور هذه اللغة وثقافتها المهيمنة عن فتح مغاليق سوق الشغل العالمية، فأبواب الهجرة والعمل تُفتح بمفتاح اللغة الإنجليزية، وحتى الشركات الاستثمارية القليلة التي تحل بتونس تطلب من المنتدب للشغل إتقان اللغة الإنجليزية.
لا ينشغل الأهالي كثيرا بمن يدير الوزارات التعليمية ولا بانتمائه السياسي بقدر انشغالهم بتوفير بيئة دراسية سليمة خالية من العنف والمخدرات ونظيفة ويحترم فيها المتعلم ولا يتم فيها ابتزاز الأهالي بالدرس الخاص، حيث أن سمعة رجال التعليم انهارت لدى الأهالي نتيجة هذا الابتزاز الرخيص؛ لقد وصل الأمر إلى تنظيم دروس خاصة في الرياضة قبل اختبارات الثانوية العامة، والقلة الباقية من المخلصين تعجز عن الدفاع عن نفسها أمام تيار جارف يبيع المهنة ويقبض.
اللحظة السياسية في تونس بعيدة جدا عن الاهتمام بهذا الأمر، وستنفق تونس وقتا طويلا ومكلفا قبل العودة إلى هذه المعمعة التأسيسية والخوض فيها بعقل مفتوح لا تتدخل فيه فرنسا بسفيرها ولا بخبرائها المندسين في الوزارات؛
اكتشف الأهالي فارق التأجير بين القطاع الخاص والوظيفة العمومية ولم يعد يغريهم التوظيف في الدولة؛ بقدر ما يطلبون تعليما قابلا للتسويق المهني في الداخل والخارج.
يمكن لهذا الطموحات وهي عينة وليست كل المطلوب؛ أن تتحول إلى قاعدة إصلاح للتعليم العام وإعادة بناء المدرسة التونسية على قواعد جديدة تدخل بالتونسيين القرن الواحد والعشرين (وقد مر ربعه دون إصلاح). وهناك أمور لا يمكن إلا أن تثمّن في السياق، وهي استعدادات كبيرة لدى الأهالي لدعم التعليم بحرّ مالهم وقد فعلوا دوما، فالمدارس الأولى بنيت ببعض حلي الأمهات.
متى يكون ذلك؟ للأسف اللحظة السياسية في تونس بعيدة جدا عن الاهتمام بهذا الأمر، وستنفق تونس وقتا طويلا ومكلفا قبل العودة إلى هذه المعمعة التأسيسية والخوض فيها بعقل مفتوح لا تتدخل فيه فرنسا بسفيرها ولا بخبرائها المندسين في الوزارات؛ الذين يخططون لتونس كيف تصدر الأطباء والمهندسين إلى فرنسا بأقل كلفة ممكنة فتشغلهم بأقل من أجور الفرنسيين، كما كانت تفعل عبر تاريخها الطويل مع العمالة الوافدة في تنظيف الشوارع (في الستينات) وفي علاج مرضاها الآن.
لنحتفل بالناجحين ونغنم خروج أولادنا من تحت سطوة نقابات اليسار المغرمة بدرس المثلية الجنسية في المدارس بصفته إصلاحا تعليميا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية التعليمية الأيديولوجيا التحديث المدارس تونس مدارس التعليم أيديولوجيا التحديث سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة رياضة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة حول المدرسة التعلیم فی فی تونس
إقرأ أيضاً:
الهواء يقتلنا.. سكان قابس التونسية يطالبون بوضع حد للتلوث الصناعي
في مدينة قابس (جنوبي تونس) يختلط هواء المنازل برائحة غبار نفايات الفوسفات السامة، بينما تتزايد الإصابات بالأمراض السرطانية وسط تضارب المصالح بين الأهداف الاقتصادية وصحة الإنسان.
ولم تعد شريفة عطية، البالغة من العمر 74 عاما، تفتح نوافذ بيتها، بعدما تحول المصنع القريب من منزلها إلى مصدر دائم للقلق.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل يدفع الكوكب ثمن أسئلتنا لـ"شات جي بي تي"؟list 2 of 2الصورة الكبرى لتغير المناخ والذكاء الاصطناعيend of listفمنذ سنوات، يطالب سكان المنطقة بوقف التلوث الكبير الذي يتسبب، وفق قولهم، بتدهور الوضع الصحي في مدينتهم، وتسببه واحدة من أكبر وأهم المنشآت الصناعية التي تنتج المواد الكيميائية في البلاد.
وكانت الحكومة قد وعدت بتفكيك المصنع على مراحل منذ عام 2017، لكنها أعلنت أخيرا العمل على زيادة عمليات استخراج الفوسفات بمقدار 5 أضعاف، ليصل الإنتاج الى 14 مليون طن سنويا بحلول عام 2030، علما بأنه اليوم يبلغ 3 أطنان، مما زاد من غضب سكان المنطقة.
وتقول شريفة، لوكالة الصحافة الفرنسية، بينما الرائحة الخانقة تملأ منزلها وتنتشر على كامل المدينة التي تضم قرابة 400 ألف نسمة "إنه يقتلنا، هذا كل ما نتنفسه، نهارا وليلا".
ويُستخدم الفوسفات -الذي يستخرج من مناجم محافظة قفصة المتاخمة- لتصنيع الأسمدة وغيرها من المواد الكيميائية. وتعتبر تونس عاشر أكبر منتج له في العالم، بعدما كانت خامسة في الترتيب عام 2010.
وجاء قرار الحكومة بضرورة زيادة الإنتاج بعد أن تعهد الرئيس قيس سعيّد بإحياء القطاع الذي شلته الإضرابات الاجتماعية وتراجعت استثماراته خلال السنوات الأخيرة، علما بأنه يعتبر أحد أعمدة الاقتصاد التونسي المثقل بالديون.
وبدوره، يقول منسّق المبادرة المحلية "أوقفوا التلوث" خير الدين دبية لوكالة الصحافة الفرنسية "هذا المصنع يضر بالهواء والبحر وجميع أشكال الحياة".
إعلانويضيف "انتظرنا من الحكومات المتعاقبة أن تعمل على تنفيذ قرار 2017، لكن الحكومة الحالية تخلّت بوضوح عن الفكرة".
ويعتقد سكان المنطقة أن التلوث يسبب لهم أمراضا عدة منها السرطان. وتعزو شريفة إصابتها بسرطان الثدي والرحم -الذي تعافت منه- إلى التلوث المنتشر في الهواء.
وتقول إن التلوث الناتج عن عمل المنشأة الصناعية سبب لأختها نفطية -البالغة من العمر 76 عاما- مشاكل في القلب وطفحا جلديا.
وقد خلصت دراسات علمية إلى وجود ترابط وثيق بين نفايات عمليات تحويل الفوسفات وظهور أمراض سرطانية.
وأعلنت الحكومة أيضا أنها لن تصنف مادة "الفوسفوجبس" -وهي النفايات الرئيسية التي تطرحها المنشأة الصناعية في البحر بعد عمليات التحويل- مخلفات خطرة، وذلك بالرغم من وجود العديد من الأبحاث التي تثبت أنه مشع ومسبب للسرطان.
وفضلا عن ذلك، تطلق عمليات معالجة الفوسفات غازات سامة مثل ثاني أكسيد الكبريت، كما يتسبب "الفوسفوجبس" في تلوّث التربة بمواد كيميائية مسببة للسرطان -مثل الرصاص- تتسرب إلى المياه الجوفية.
وخلصت دراسة أجراها مختبر "جيوسيانس إنفيرونمان" في مدينة تولوز الفرنسية -في ديسمبر/كانون الأول الماضي- إلى أن مصنع قابس يطلق "مستويات عالية من الملوثات السامة".
وبينت الدراسة أن "عواقب مدمرة" تواجه السكان من قبيل "تشوهات في القلب" بالإضافة إلى "أمراض الرئة والأنف والثدي والكبد والكلى والمعدة والدم" و"أمراض خلقية".
وفي غياب البيانات الرسمية المتاحة، يظل من غير الممكن تحديد عدد المرضى في محافظة قابس المرتبطة أمراضهم بالتلوث من المنطقة الصناعية.
ولم ترد السلطات التونسية على طلب وكالة الأنباء الفرنسية الحصول على تعليق حول هذا الموضوع.
وتتطلع تونس إلى استخراج 14 مليون طن سنويا من مادة الفوسفات بحلول عام 2030، وهو معدل إنتاج غير مسبوق منذ افتتاح المصنع.
ورغم أن المصنع يمثل مشكلة كبيرة بالمنطقة، فإنه يوفر أيضا فرص عمل لما يقرب من 4 آلاف شخص في محافظة قابس حيث إن واحدا من كل 4 أشخاص في سن العمل عاطل عن العمل، وفقا للأرقام الرسمية لعام 2019.