ياسر عرمان

ازمة التلفزيون في بورتسودان هي صورة مصغرة لازمة البناء الوطني في السودان، وانقضاء اجل المشروع الوطني القديم، ولكل اجل كتاب. حديث البزعي يمثل عقلية ومفهوم قديم ومتعسف من مفاهيم البناء الوطني لا يعترف بالتنوع ولا بحق الاخرين في ان يكونوا اخرين، ولا يتعرف بالمواطنة بلا تمييز، والبزعي نفسه ضحية من ضحايا المشروع الوطني القديم وعجرفة المشروع الحضاري المتعالي الذي لا صلة له بالارض او بالسماء.



قديما قال احد الكبار: "السودان دولة عربية ومن لم يعجبه ذلك فليأخذ عصاه ويرحل". بالفعل رحل البعض واستمرت حروبنا المتناسلة التي تلد بعضها بعض، وترجع احدى اسبابها العديدة لمفاهيم الآحادية والإقصائية في الحقل الاجتماعي والثقافي والسياسي.

الاعلام السوداني الحكومي وتلفزيون واذاعة البزعي ظلا نموذجا للعجز الغير مبرر في تجاهل التنوع السوداني، وشكلت هجرة المركز البالي القديم من الخرطوم الى بورتسودان وفي معيتهم البزعي تحديا جديدا للمركز وتجاهله على مدى عقود للصورة المتنوعة التي يزخر بها السودان. والفلول الذين كانوا يدعون الى دولة البحر والنهر هاهم قد وجدوا البحر المالح دون النهر ولن يكونوا وحدهم فالنموذج الليبي ايضا مشروع جزئي، وكلا المشروعين لا يعكسان صورة الوطن الكامل وغير قابلين للحياة.

الفلول ان كانوا من مواطني شرق السودان او من النهر، في بورتسودان تطاردهم روح الدكتور طه عثمان بلية الوثابة والباحثة عن العدل والإخوة الشريفة وعلى ممثلي المركز القديم ودولة ١٩٨٩ وبعض من يدعون تمثيل المهمشين في حكومة بورتسودان عليهم أن يدرسوا هذا الوضع بدقة وتغيير الاتجاه والسياسات والحوار مع اهل شرق السودان ووضع خطة- رغم ظروف الحرب- لانصافهم وبناء بورتسودان كمدينة مهمة واستراتيجية، ووضع تلك الخطة بمشاركة اهلها وتوظيف بنات وابناء الشرق، وهذه فرصة لاظهار قدر من الحساسية تجاه شرق السودان والخلل التاريخي الذي قامت عليه الدولة السودانية.

بعد ثورة ديسمبر استخدم الفلول الشرق منصة لقصف الحكومة الانتقالية، وتحدث الفلول حديثا اعرج عن مظالم الشرق وهم الظالمون وقد اطلقوا الرصاص على شباب البجا في وضح النهار، واذكر جيدا في إحدى زياراتي لبورتسودان دعاني اهل شهداء يناير للحديث في احتفالهم في قلب المدنية ورفض محمد طاهر ايلا التصديق بالاحتفال، ومع ذلك شاركنا معهم في اقامة الاحتفال. والبزعي ساهم في العمل ضد ثورة ديسمبر في التلفزيون والاذاعة و في التحريض ودعم القوى المضادة للثورة بعد أن جعل التلفزيون قلعة مهجورة، هذه اعماله ترتد إليه، وكما تُدين تُدان.

إن هذه الحرب تدمر الدولة وما تبقي من مؤسساتها ولابد من وقفها وبناء نظام جديد. إن الموت الذي يشمل المدنيين والعسكريين من كلا الطرفين والبنية التحتية لن يقود الى نصر وسلام مستدام وإن التعجيل بالحلول والجلوس الى طاولة التفاوض هو المدخل الصحيح.

*الخريف والكارثة الإنسانية والمجاعة:*

إن الكارثة الإنسانية تتفاقم والانتهاكات تزداد في دارفور والجزيرة وكردفان والخرطوم وغيرهم، والمجاعة تتمدد والخريف سيؤدي الى ازدياد حدة الكارثة الإنسانية واطراف النزاع مطالبة بوقف طويل لاطلاق النار على اساس انساني ومراقب اقليميا ودوليا، لا حل عسكري لاي من الطرفين، والحل العسكري إن حدث لن يدوم.

إن السودانيين في الخارج- على وجه الخصوص- مطالبين بحملة اقليمية وعالمية شاملة تعكس تفاصيل الكارثة الانسانية والانتهاكات وتبني شبكة فاعلة لوقف الحرب، وهو اقل شىء نقدمه لشعبنا، ولا زلنا بعيدين عن انجاز هذه المهمة.

20 يونيو 2024  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

من الحرب إلى العقوبات: السودان في طريق مسدود اقتصاديًا

 

من الحرب إلى العقوبات: السودان في طريق مسدود اقتصاديًا
عمر سيد أحمد
[email protected]

منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، دخلت البلاد مرحلة من الانهيار الاقتصادي الكامل. شلّ النزاع المسلح معظم الأنشطة الإنتاجية، وتفككت مؤسسات الدولة، وازدادت الأزمات المعيشية تعقيدًا. يعرض هذا المقال ملامح الأزمة الاقتصادية السودانية منذ الحرب، بالاستناد إلى الأرقام والوقائع حتى منتصف 2025، ويحلل دور الذهب والعقوبات الخارجية في تعميق الأزمة.
الاقتصاد الكلي: تضخم منفلت، عملة منهارة، وناتج منكمش
كان السودان من بين الدول الأعلى عالميًا في معدلات التضخم حتى قبل الحرب، حيث تجاوز 60% في 2022، ثم تصاعد إلى أكثر من 200% منتصف 2023، وصولًا إلى 218% في أغسطس 2024، وفق بيانات البنك الدولي. ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة فاقت 400%، نتيجة طباعة النقود دون غطاء، وتدهور الإنتاج، وغياب السيطرة النقدية، وسط تحذيرات من تضخم جامح (Hyperinflation).
انهيار الجنيه السوداني وسعر الصرف
قبل الحرب، كان الجنيه السوداني يتعرض لضغوط مستمرة نتيجة نقص موارد النقد الأجنبي، خصوصًا من عائدات الذهب التي يُقدّر أن 40–60% منها كان يُهرّب، لا سيما بعد انقلاب أكتوبر 2021. مع الحرب، فقد الجنيه أكثر من 70% من قيمته، ليرتفع سعر الدولار من 560 جنيهًا في أبريل 2023 إلى أكثر من 2,500 بنهاية 2024. ساهم ذلك في ارتفاع غير مسبوق في كلفة الواردات وانهيار القوة الشرائية.
الناتج المحلي الإجمالي: انكماش تاريخي وتوقعات مشروطة بالتعافي
شهد الاقتصاد السوداني انكماشًا بنسبة 29.4% في 2023 و13.5% في 2024، وفق البنك الدولي (مايو 2025)، بفعل الحرب وتوقف الإنتاج والانهيار المؤسسي. ويتوقع التقرير نموًا يصل إلى 5% في 2025 إذا تحقق السلام، مع إمكانية بلوغ 9.3% في 2026.
المأساة الإنسانية: أرقام تُجمّد الدم
يشهد السودان واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية، حيث نزح أكثر من 12.8 مليون شخص، ويحتاج أكثر من 30 مليونًا إلى مساعدات عاجلة. يعاني 16 مليون طفل من سوء تغذية حاد، وسط انهيار الخدمات الأساسية. وقد قُتل أكثر من 150 ألف شخص، وأصيب أضعافهم، في مشهد يعكس انهيار مجتمع بأكمله.
الذهب: مورد استراتيجي بين التهريب وتمويل الحرب
مثّل الذهب أكثر من 70% من صادرات السودان عام 2022 بعائدات 4.7 مليار دولار. لكن مع تفكك الدولة، تراجع الإنتاج الرسمي وسيطرت جماعات مسلحة على مناطق التعدين، وارتفعت نسبة التهريب إلى أكثر من 60%. وقد تحوّل الذهب إلى أداة لتمويل الحرب، إذ تستخدمه أطراف النزاع لشراء السلاح وتأمين الإمداد. وحتى مايو 2025، بلغت صادرات الذهب الرسمية نحو 3.8 مليار دولار، لكن 90% منها لا تزال تُصدّر خامًا، دون تصنيع أو تكرير محلي.
التجارة الخارجية: اعتماد على الذهب وعجز مستمر
تراجعت صادرات السودان من 6.8 مليار دولار في 2022 إلى 3.5 مليار في 2023، ثم تعافت إلى 5 مليارات منتصف 2025، مدفوعة بصادرات الذهب. أما الواردات فانخفضت إلى 5 مليارات في 2023، ثم استقرت عند 6.5 مليار. وبقي العجز التجاري عند 1.2 مليار دولار، في ظل غياب التنوع الإنتاجي والعزلة المصرفية.
العقوبات الدولية: خنق إضافي لاقتصاد يحتضر
في يونيو 2025، أعلنت الولايات المتحدة رسميًا فرض حزمة عقوبات اقتصادية على “حكومة الأمر الواقع” في السودان، تشمل تجميد الأصول، حظر التعامل مع كيانات مالية مرتبطة بالجيش والدعم السريع، وقيودًا على التحويلات والتكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج. من المقرر أن تدخل هذه العقوبات حيز التنفيذ في يوليو 2025، ما ينذر بخنق ما تبقى من الشرايين الاقتصادية للبلاد.
ورغم أن الحزمة تستهدف الكيانات المرتبطة بالنزاع، إلا أن آثارها المحتملة تتجاوز ذلك بكثير. وتشير التجربة السودانية السابقة خلال فترة العقوبات الأميركية (1997–2017) إلى أن مثل هذه التدابير غالبًا ما تعيد تشكيل الاقتصاد لا نحو الانضباط، بل باتجاه مزيد من التهريب، والتعاملات غير الرسمية، وتحكّم فئات طفيلية في حركة التجارة. فخلال تلك الحقبة، انتقلت التجارة الخارجية عمليًا إلى الخارج، حيث أُديرت معظم الواردات والصادرات السودانية من خلال مكاتب في دبي، القاهرة، إسطنبول، وغيرها. أصبحت التعاملات البنكية تُنفذ عبر عملات بديلة مثل الدرهم الإماراتي أو اليورو، وظهرت أسواق ظل موازية تتحكم في تدفق الدولار والذهب خارج رقابة الدولة.
نتج عن ذلك اتساع دائرة الفساد، حيث كانت معظم العائدات تُنهب وتُحوّل إلى حسابات أثرياء النظام القديم في الخارج، بينما ظلت فاتورة الغلاء والتدهور تقع على كاهل المواطن. واليوم، مع استعداد العقوبات الجديدة للدخول حيز التنفيذ، يُخشى من إعادة إنتاج نفس السيناريو: تضييق على النظام الرسمي، واتساع للاقتصاد الموازي، وتحكّم نخب عسكرية وطُفيلية في التجارة، مع بقاء المواطن السوداني هو الضحية الأولى والأخيرة، بين غلاء الأسعار وانهيار الخدمات ونهب الموارد

قائمة الهوامش والمراجع
1. البنك الدولي. تقرير الرصد الاقتصادي للسودان – مايو 2025. واشنطن العاصمة: مجموعة البنك الدولي، 2025.
2. صندوق النقد الدولي. تقرير مشاورات المادة الرابعة مع السودان. واشنطن: IMF، 2024.
3. WHO. Public Health Situation Analysis – Sudan Conflict. World Health Organization, March 2025.
4. UNESCO. Sudan conflict: One year on – The long-term impact on education. 2025.
5. Sudan Horizon. (2025). Two Years of War and the Possibility of Reconstruction. https://sudanhorizon.com
6. WASD. Rebuilding the Industrial Sector in Sudan. World Association for Sustainable Development, 2025.
7. Bastille Post. Sudan’s conflict pushes banking sector to brink of collapse. 2024.
8. SudanEvents. Collapse of Sudan’s Trade Routes Amid Conflict. https://www.sudanevents.sd
9. World Bank. Sudan Food Security Crisis Report. https://www.worldbank.org

.

الوسومالحرب السودان سعر الصرف طريق مسدود اقتصاديًا عمر سيد أحمد من الحرب إلى العقوبات نقص موارد النقد الاجنبي

مقالات مشابهة

  • جلسات توعية بدرعا تحذر من مخلفات الحرب
  • السودان.. منظمات أجنبية ضالعة في الحرب
  • الما عندو حمدوك يشتريلو حمدوك!
  • من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟
  • هل تمهّد التطورات الاخيرة في إنهاء حرب السودان المنسية؟
  • من الحرب إلى العقوبات: السودان في طريق مسدود اقتصاديًا
  • رؤى حول الإصلاح العدلي في السودان إثر الحرب
  • الجزائر تدين بشدة الانتهاكات ضد قطر وتؤكد دعمها الدائم
  • الرد الإيراني: السعودية تدين، وواشنطن تؤكد غياب الضحايا
  • حميدتي: سيطرة «الدعم السريع» على المثلث الحدودي تهدف لتأمين السودان ومحاربة التهريب