الحرب كارثة حاذقة قال تشرشل حذاري أن تهدرها
تاريخ النشر: 10th, August 2025 GMT
(ظل كثرٌ منا ينعون السودان لحروبه الطويلة الرديدة بينما تغيب عنهم إرادتنا بها وبالتفاوض خلالها عزائمنا لبناء دولة أمة في ظرف دولي كاد يلغي الدولة الوطنية من فرط حصاره لها”.
قال ونستون تشرتشل “لا تضع هدراً كارثة حاذقة أبداً”. والحرب على رأس هذه الكوارث الحاذقة بالطبع. وبدا أن القوى التي تدعو إلى “لا للحرب” من يضيع كارثة حربنا الحاذقة.
ويجري تصوير السودان على أنه بلد في حال حرب أزلية مع نفسه منذ استقلاله، أو ربما قبيله. وهو تصوير كاد يجعل الحرب من حادثات الطبيعة، أي إنها في الجينات الوراثية، لا في تدافع سياسات المجتمع. وانطوى جمع من الصفوة على هذه الصورة عنه وعن بلده. ولهم عبارة تقليدية كلما اضطرب الأمر، “السودان انتهى”. فلا يرون من هذه الحرب التي نصدر فيها عن جينات بكماء إلا ضلالةً لا ضرباً من وعثاء بناء دولة ما بعد الاستعمار التي تركها وقد نجرها لغاياته بالعنف كيفما اتفق له وليرث الوارث “رعية” لا “موطنين”، بل ما تعذر على هذه الصفوة رؤيته حقاً أنها لم تكف هي نفسها حرباً وسلاماً عن التفاوض حول السوية في الوطن المستقل. فاضطلعوا بثلاث ثورات أعوام 1964 و1985 و2018 لإنهاء نظم ديكتاتورية صادرت بقوة السلاح القرار حول ما تكون عليه الدولة وهويتها. فهذه الثورات هي ذرى الإرادة للعيش معاً، في تعريف الفيلسوف إرنست رينان للأمة. فالثورة في السودان هي الإرادة الوحيدة لعيش السودانيين في أمة. وهي بهذه الصفة مما يسميه علماء السياسة الطاقة التي تتنادى بها الأمة إلى مركز “centripetal” في حين أن الحكومة فينا، وقوى الثورة المضادة التي سادت فيها، هي الطاقة المنفرة من المركز “centrifugal”. ووجدت أفضل تقريب في اللغة العربية للمفهومين في فقه الوضوء للصلاة. فالطاقة الأولى هي الاستنشاق أي جذب الماء بالنفس إلى باطن الأنف بينما الطاقة الثانية هي الاستنثار وهي إخراج الماء من باطن الأنف ليرشح حيث شاء.
ومن بين من لم يرَ من الحرب سوى خيبتنا، خالد عمر يوسف القيادي في “صمود”، فأصابه السقم من الدولة نفسها. واحتكم في ذلك لمؤشرات عالمية عن بؤسنا، فأزعجه أن مؤشر الدول الهشة صنّف السودان كثاني الدول هشاشة في العالم لعام 2024. وليس مستغرباً أن تعجز الدولة في عام حرب كذلك العام عن “تقديم السلع والخدمات السياسية الأساسية إلى مواطنيها، بما فيها فقدان السيطرة على أراضيها والعجز عن توفير الأمن وتراجع شرعية الحكومة وانهيار الخدمات العامة وصعود النخب المتنازعة أو التدخل الخارجي” وهي صفات الدولة الهشة. ويلحن خالد عمر يوسف بحجته هذه في وجه من دعوا إلى محاربة قوات “الدعم السريع” حتى تخلص الدولة إلى المدنية والحداثة التي لا تكون بوجودهم فيها بأية حال من الأحوال. وبدا من يوسف أنه ممن يرى في حروبنا فشلاً لا خوضاً وعراً في بناء الأمة الدولة. ومن دعا إلى الدفاع عنها بوجه قوة في مثل “الدعم السريع”، في رأيه، كمثل مَن بيت على ذهابها. ويستغرب المرء أن يشمل تعريف الدولة الهشة نزاع الصفوة التي هي، تعريفاً، حاملة الرؤى المختلفة لما تريد لبلدها وبؤرة للخلاف حوله. وهو اختلاف حميد مما يحدث في الدولة الديمقراطية لا مشاحة وله فقهه وإجراءاته. وجاء صراع الرؤى هذا في كلمة أخيرة للفيلسوف الفرنسي برنار-هنري ليفي عن حرب السودان. فقال إنها ليست حرب جنرالين، وليست حرباً إثنية قبائلية. في واقع الحال إنها، في قوله، انقسام حقيقي بين رؤيتين لمستقبل البلاد.
وإذا استنكرنا حربنا خلال بناء الأمة الدولة، فكأننا استنكرنا الأمة الدولة نفسها، فهي الكائن الذي ولد أول ما ولد في رحم الحرب. وسارت في الناس عبارة تشارلز تيللي (1929-2008)، أستاذ علم الاجتماع ورائد دراسة تكوّن الأمة الدولة الأوروبية “الأمم تخوض الحروب والحرب تبني الأمة”. فليس من أمة على بسيطة الغرب لم تولد من حرب: حرب الـ30 عاماً في أواسط أوروبا (1618-1648)، الحرب الأهلية الإنجليزية (1642-1651)، الحرب الأهلية الفرنسية (1562-1598)، والحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، والحرب الأهلية الإسبانية (1936-1938). وكانت حروباً عالية الكلفة، ولكنها وقعت وعين العالم، من جهة الحكم على أخلاقيتها وطبائع من خاضوها، غافلة. فلم تكُن فيهم أمم متحدة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية لتسائل الدولة المنتسبة لها عن كل حركة في إدارتها لشأن أمتها حتى صارت فيها مفوضية لحرية التعبير وأخرى لمنع التعذيب. وفي سياق مراقبة العالم الدقيقة لشأن الدولة مع أمتها كتب صحافي زار غينيا الاستوائية عن انحجاب شيوع الفساد والاستبداد فيها عن العالم بسبب أنها بلد صغير لا يعرفه كثير من الناس، وقد لا يكترثون لمعرفته. فبوسع طبقته الحاكمة، في قوله، فعل ما بدا لها في أهلها غير آبهة لأنه ما من أحد في العالم يراقب مجرياتها. ولا يقول المرء بهذا مستنكراً الحساسية الدولية للحقوق بالطبع، ولكن ليقرر بلا واقعية أحكام القيمة عنا ونحن نحارب في بناء الأمة الدولة التي تُعتبر الحرب حقيقة من حقائقها. فجاءت أوروبا لبناء الأمة الدولة والعالم في شبيبته فسرها وجئناه على الهرم.
ويأتي الهدر للكارثة الحاذقة من باب تسويق “لا للحرب” لخصومتها مع الإسلاميين. فظلت “قوى الحرية والتغيير” وبمسمياتها العاقبة تسوّق لمواقفها ضد الإسلاميين لمن نشدت تضامنهم معها بما اتُفق لهم من مخاوف من الإسلاميين في نطاقهم. وجاء القيادي في “صمود” بكري الجاك بطائفة مما ينطوي الإسلاميون عليه من مفازع، طالما جاءت أميركا الرئاسية لمسألة السودان، ليسوقها على نهج المعاملات للرئيس ترمب. فقال إن السودان، بعلاقاته مع إيران بعد فقدانها نفوذها في سوريا ولبنان، وبتأثير “الإخوان المسلمين” في حكومة بورتسودان، سيكون منصة لها في شرق البحر الأحمر مما سيقلق أميركا وإسرائيل. ومما سيقلق أميركا بخاصة هو نفوذ روسيا التي ترمي عينها على امتلاك قاعدة على البحر الأحمر في السودان، ناهيك عن تعاظم نفوذها في غرب أفريقيا عند حدود السودان بعد مغادرة فرنسا لتلك المناطق. ثم جاء بكري بمفازع الإرهاب من “الإخوان” في السودان الذي سيجعلونه واسطة العقد بين الجماعات الإرهابية من غرب أفريقيا وشرقها.
وهذا التربح من التفزيع من الكيزان يهدر كارثتين ناصعتين من تلك التي حذر تشرتشل ألا تهدرهما أبداً وهما “دولة الإنقاذ” في السودان والحرب التي جاءت في أعقاب سقوطها. ولا يقول المرء بهذا شفقة بـ”الإخوان المسلمين”، ولكن لأن السودان ربما كان الدولة الوحيدة دون غيرها التي خضعت لحكم جماعة “الإخوان المسلمين” لثلاثة عقود، وقضى السودانيون عليها مصابرة وسلمياً. فهم، بعبارة، بيت الخبرة في شأنهم. لم تتورع معارضة “الإنقاذ” خلال دولتها من توظيف كارت “الإرهاب”، وكسبت دولاً، إلا أن كلاً منها عاد للتعاطي معها في توقيته الخاص. ولم تستغل “الإنقاذ” شيئاً لكسبهم أو تحييدهم في حين استكثرت ذلك على شعبها فمكر عليها وهو خير الماكرين. ويأتي الإهدار هنا من اختلاق عاهة للكيزان للسوق بينما ربما ما كانت في آخر اهتمامات من قاومها من السودانيين. فكانت “الإنقاذ” من بين حكومات سلفت محافِظة (دولة الفريق إبراهيم عبود 1958-1964) ويسارية ووسطية ودينية في مغرب عمرها (دولة الرئيس نميري 1969-1985) من التي قلنا إنها عطلت، باحتكارها القرار السياسي، الإرادة الوطنية في تكييف دولة ما بعد الاستعمار تكييفاً جاذباً لكل من رغبوا في دولة للمواطنة في مركز البلاد وهوامشها. ولم يحل فصل الدين عن السياسة خلال نظامَي عبود وغالبية نظام نميري مما لم تحل دونه دينية الدولة تحت “الإخوان المسلمين”. وهو فرض دولة قابضة صعر الملك الجبار فيها خده فخرجت له الأمة بـ”السيوف تعاتبه”. وعرف الناس خلال مقاومتهم لسياسات “الإنقاذ” وتشريعاتها، وعن كثب منزلة الدين من المعاد والمعاش كما لم يتوافر لغيرهم. وتنزل عليهم ذلك تقى ووعياً بالأمة الدولة الرحبة.
وأكثر أبواب إهدار الكارثة الحاذقة خلال الحرب القائمة في المفارقة التي تكتنف قوى “لا للحرب” حيالها. فالحرب عندهم عبثية وهي سليلة حروب قامت فينا منذ استقلال السودان. وحملت تلك الحرب التي ما هدأ “أوراها”، كثيراً من السودانيين للسقم من أنفسهم ذاتها ومن بلدهم. وتجد أن جماعة “لا للحرب” من الجانب الآخر أعطوا الحرب معنى في أخص عناوينهم وهو ثورة ديسمبر 2018. فاندلعت الحرب في روايتهم بفعل “المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية وواجهاتهما… ويعملون على استمرارها” للقضاء على ثورة ديسمبر حتى يعودوا للحكم. ولا يعرف المرء كيف تصالحت “لا للحرب” مع هذه المفارقة وهي كمن يتحدث من جانبي فمه. فمن أين للعبث أن يداخل حرباً لم تعين المتهم بإشعالها وحسب، بل عينت هدفه من ورائها بدقة متناهية؟ وكيف تجعل من وقف الحرب مطلباً وخصمك لن يرضى من دون العودة للحكم بديلاً مما وصفوه برغبته في استمرار الحرب للغاية؟ ومن دون ذلك عندك خرط القتاد.
ظل كثرٌ منا ينعون السودان لحروبه الطويلة الرديدة بينما تغيب عنهم إرادتنا بها وبالتفاوض خلالها عزائمنا لبناء دولة أمة في ظرف دولي كاد يلغي الدولة الوطنية من فرط حصاره لها. وصارت حالنا حال الفتاة والذئبين. قيل إن فتاة ما ظلت ترى ذئبين يتعاركان في حلمها، فأطلعت والدها على شقائها بهذا الحلم المتكرر، فقال لها في تفسيره إن الذئبين يمثلان قوتين واحدة للشر والأخرى للخير. فسألت الفتاة ومن سينتصر على الآخر؟ قال والدها، الذي تطعمينه! وظللنا نطعم استياءنا من الحرب لا عزائمنا أن ننفذ بجرأة إلى أمة دولة حديثة.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الإخوان المسلمین الحرب الأهلیة الدعم السریع فی السودان بناء دولة لا للحرب
إقرأ أيضاً:
التأشيرات التي تُمنح لحاملي جوازات السفر الفرنسية الدبلوماسية..هذا ما قررته الجزائر
أكدت وزارة الخارجية أنه ” من الآن فصاعداً، فإنّ التأشيرات التي تُمنح لحاملي جوازات السفر الفرنسية. الدبلوماسية منها ولمهمة، ستخضع، من كافة النواحي، لنفس الشروط التي تفرضها السلطات الفرنسية على نظرائهم الجزائريين.
وفيما يتعلق بإعلان تفعيل أداة “التأشيرة مقابل الترحيل”. فإن الحكومة الجزائرية تعتبر أن هذا الإجراء ينتهك بشكل صارخ كلا من الاتفاق الجزائري-الفرنسي لعام 1968 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950. كما تؤكد الجزائر بأنها ستواصل اضطلاعها. بواجب الحماية القنصلية لفائدة مواطنيها بفرنسا. وستعمل على مساعدتهم في الدفاع عن حقوقهم، وضمان الاحترام الكامل لما تكفله لهم التشريعات الفرنسية. والأوروبية من حماية ضد كافة أشكال التعسف والانتهاك.
من جانب آخر، تُقدّم الرسالة التي وجّهها رئيس الدولة الفرنسي إلى وزيره الأول، عرضًا مُجانبًا للواقع بخصوص مسألة اعتماد الأعوان الدبلوماسيين والقنصليين بين البلدين. فمنذ أكثر من عامين، كانت فرنسا هي من بادرت بالامتناع عن منح هذه الاعتمادات للأعوان القنصليين الجزائريين. بما في ذلك ثلاثة قناصل عامين وخمسة قناصل.
وفي هذه المسألة، كما في غيرها، لم تقم الجزائر سوى بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل. ومتى رفعت فرنسا عراقيلها. سترد الجزائر بإجراءات مماثلة. وقد تم إبلاغ السلطات الفرنسية رسميًا بهذا الموقف الجزائري الذي لا يزال ساري المفعول.
وفي فقراتها الختامية، تذكر رسالة رئيس الدولة الفرنسي إلى وزيره الأول عددًا من الخلافات الثنائية التي ينبغي العمل على تسويتها. ومن جهتها. تعتزم الجزائر، عبر القنوات الدبلوماسية، طرح خلافات أخرى مع الطرف الفرنسي، ينبغي أن تخضع بدورها لنفس المسعى الرامي إلى إيجاد تسويات لها.