كما بعض العرب تسمي الرجل زلمي أو زلمة أو ريّال (بتحويل الجيم إلى ياء، كما هو حادث في منطقة الخليج)، فالسودانيون يسمون الرجل زول، وقد اختلف المفسرون حول أصل الكلمة، ولكن وفي ظروف الحرب المجنونة التي دخلت شهرها الخامس عشر في بلادهم ليس من الشطط القول إن الزول هو الإنسان المهدد بالزوال.
يتساءل السودانيون بنبرات غاضبة: لماذا تحظى الحرب في أوكرانيا وغزة باهتمام إعلامي على مدار الساعة، من وسائل الإعلام الأجنبية، بينما لا تجد الحرب التي ظلت تعصف بالأرواح والممتلكات في بلادهم منذ 15 نيسان/ أبريل 2023، معشار ذلك الاهتمام؟ بل ويعتبون على وسائل الإعلام العربية، بحسبان أن تغطيتها لتلك الحرب "متقطعة"، ولا تأتي على ذكر تلك الحرب إلا مرة كل بضعة أيام.
مع السودانيين الذين يقولون إن الحرب التي تشهدها بلادهم بلا هوادة، منذ أكثر من سنة شِبه منسيّة خارجيا، بعض الحق، ولكنهم لا يجدون العذر لمن يهملون أمر تلك الحرب، بينما عذر هؤلاء هو أنها حرب بين طرفين ظلا شريكين في حكم البلاد منذ نيسان/ أبريل 2019، حتى الدقيقة الأولى التي شهدت انطلاق القذائف في 15 نيسان/ أبريل 2023، لماذا تحظى الحرب في أوكرانيا وغزة باهتمام إعلامي على مدار الساعة، من وسائل الإعلام الأجنبية، بينما لا تجد الحرب التي ظلت تعصف بالأرواح والممتلكات في بلادهم منذ 15 نيسان/ أبريل 2023، معشار ذلك الاهتمام؟أي أنها حرب سودانية- سودانية. وهنا ترتفع أصوات الاحتجاج: ولكنها حرب بين جيش نظامي حكومي، ومليشيا متمردة، فلماذا يُحجم العالم الخارجي ودول المحيط الأفريقي والعربي عن إدانة تلك المليشيا؟ والرد على هذا التساؤل وان لم يكن معلنا، هو إن طرفي الحرب في السودان هما القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، والأخيرة هي التي يريد قادة الجيش أن يحصلوا على إدانة دولية وإقليمية لها بوصفها مليشيا.
ولكن العالم في حيرة من أمره، فقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كان نائب رئيس مجلس السيادة (رئاسة الدولة) حتى بعد اندلاع الحرب بشهرين، بينما كان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان رئيسا لذلك المجلس، وكانت قوات الدعم السريع تتلقى رواتب أفرادها ونفقات عملياتها وتسليحها من وزارة المالية السودانية، وكان لتلك القوات مقرات داخل العاصمة السودانية، بعضها كان هدية من القوات المسلحة (ومن بين تلك المقرات معسكر قوات المظلات). وكل هذه المعطيات تجعل دول العالم لا تصدق أن قوات الدعم السريع مليشيا هبطت من السماء، واخترقت العاصمة السودانية واحتلتها، ثم تمددت وسيطرت على نحو ثلث مساحة البلاد.
وعيون العالم لا تزال مشدودة إلى حرب روسيا على أوكرانيا، لأنها في واقع الأمر حرب تخوضها أوكرانيا بالوكالة عن دول حلف شمال الأطلسي، في مواجهة موسكو، الساعية لاسترداد مُلك غَبَر، بتفكك الاتحاد السوفيتي، وأصلا ما حدا بروسيا لغزو أوكرانيا، هو أن الأخيرة سعت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ثم حلف الأطلسي.
أما حرب غزة فلم تحظ فقط بالاهتمام الإعلامي المكثف وحسب، بل حركت الضمير العالمي، وجعلت آلافا مؤلفة من طلاب الدول الغربية يرفعون الأعلام الفلسطينية ويفضحون مخازي حكوماتهم التي تناصر إسرائيل بالمال والعتاد الحربي، ويتعرضون للاعتقال والضرب على أيدي قوات الشرطة. والحرب على غزة يشنها غاصب معتد أثيم، وعتل زنيم، وكيان استعماري لا حد لنهمه للأرض، وظل دأبه على مدى أكثر من سبعة عقود أن يفتك بالإنسان الفلسطيني، في سياق سعيه لتوسعة الرقعة التي صارت دولة له بمؤامرة دولية. ثم إن الصمود البطولي لفلسطيني غزة، حظي ولا يزال بتقدير عالمي، فأن ينجح شعب شبه أعزل إلا من بعض الأسلحة اليدوية عند أفراد قليلين، في إجهاض المحاولات المتعاقبة لجيش العدو الضخم كي يستكمل مخطط احتلال الأرض وتهجير سكان غزة قسرا، صار في نظر الملايين أمرا معجزا ودرسا لكل الشعوب، بمن فيها الشعب الأوكراني بأنه:
وما ضاعَ حقٌ لم ينم عنه أهلُه ولا ناله في العالمين مُقَصِرُ
إِذا اللَهُ أَحيـا أُمَّــةً لَــن يَرُدَّهــا إلى المَـوتِ قَهّـارٌ وَلا مُتَجَـبِّرُ
وكيف لأي إعلامي أن يغطي حرب السودان، ومجرياتها تعطي الانطباع بأنها بين جيش يقوده نتنياهو وآخر يقوده أرئيل شارون، فمعظم ضحاياها مدنيون، لا ناقة لهم ولا بعير في أمر الاقتتال، فمساكن المواطنين والأسواق وحتى المساجد تقصف عشوائيا بمختلف أنواع الأسلحة، ولا يرى الطرفان حرجا في تصوير وبث الأساليب الوحشية التي يتعاملون بها مع الأسرى، وبداهة فإنه لن يغطي حربا كهذه إلا صحفي ذو نزعات انتحارية.
هناك حرب "على" أوكرانيا شنتها روسيا، وهناك حرب "على" غزة شنتها إسرائيل، بينما هناك حرب "في" السودان، وليس "على" السودان يشنها طرف خارجي، ولهذا يصبح مفهوما لماذا يرابط الصحفيون الغربيون في أوكرانيا، ولماذا تستأثر الحرب على غزة بكل هذا الاهتمام الإعلامي
والشاهد يا "أزوال"، هو أن الحرب التي أهلكت الآلاف منكم، ودمرت المرافق والبنى التحتية، هي حرب "داخلية" بين أهل البلد الواحد، وما يحدث من تدخلات خارجية فيها يحدث بـ"دعوات" من هذا الطرف أو ذاك، وإذا كانت قوات الدعم السريع مدعومة في بادئ الأمر بمرتزقة فاغنر الروسية، فها هي روسيا اليوم تعلن مناصرتها للقوات المسلحة، ولكن ثمن ذلك هو أن تحصل على قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وبهذا ستجد الولايات المتحدة الذريعة، إما لمناصرة الدعم السريع على نحو مكشوف، أو بالتدخل المستتر بما يمنع القوات المسلحة من أن تكون في موقع قوة، يجعل قادتها أصحاب الحل والعقد كما هو حادث حاليا، وما دخل الروس والأمريكان في منافسة على بلد، إلا وعمّ فيه الخراب والدمار، وأفغانستان والعراق وسوريا وليبيا تشهد على ذلك.
باختصار هناك حرب "على" أوكرانيا شنتها روسيا، وهناك حرب "على" غزة شنتها إسرائيل، بينما هناك حرب "في" السودان، وليس "على" السودان يشنها طرف خارجي، ولهذا يصبح مفهوما لماذا يرابط الصحفيون الغربيون في أوكرانيا، ولماذا تستأثر الحرب على غزة بكل هذا الاهتمام الإعلامي، وأن يكون فرسان الميدان بالقلم والكاميرا في غزة صحفيين فلسطينيين، يعتبرون عملهم واجبا وطنيا ومهنيا.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحرب السودانيون الإعلام الدعم السريع حميدتي البرهان السودان الإعلام حرب حميدتي الدعم السريع صحافة اقتصاد صحافة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات الدعم السریع فی أوکرانیا الحرب التی هناک حرب
إقرأ أيضاً:
البرهان يناور بذكاء ويتوعد الدعم السريع
تخيل بلدا يقف على جرف هارٍ تدفعه حرب ضارية إلى الهاوية، وجيشا يقاتل على جبهات متشعبة، واقتصادا ينهار طبقة بعد أخرى، بينما تتنازع قوى عالمية على أرضه وموانئه وذهبه وموقعه الاستثنائي.
وفي قلب هذا المشهد يقف رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، محاولا أن يمسك بالعصا من وسطها: يلوح للغرب بإمكانية الشراكة، ويشد في الوقت نفسه خيوط الارتباط بالشرق الصاعد.
ليس ذلك تقلبا سياسيا ولا انتقالا عشوائيا بين المحاور، بل مناورة وجودية فرضتها الجغرافيا القاسية، وحرب أنهكت الدولة والمجتمع، وتوازنات دولية تجعل من السودان ساحة اختبار كبرى في صراع النفوذ على البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وفي هذا السياق تحديدا، برزت آخر رسائل البرهان إلى الغرب عبر مقاله الذي اختار له بعناية صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2025؛ رسالة لم تكن مقال رأيٍ عابرا، بل مذكرة سياسية مشفرة، صيغت بقدر محسوب من الإيحاء لتصل مباشرة إلى دوائر صناعة القرار.
الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة والانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي، ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا
الرسالة السياسية والصفقة غير المعلنةفي مقاله المثير، حمل البرهان قوات مليشيا السريع مسؤولية الحرب، رافضا توصيف الصراع بأنه "صراع جنرالين"، ومؤكدا أنها حرب تمرد على الدولة.
لكنه لم يكتفِ بهذا التوصيف؛ بل بنى المقال كله على فكرة واحدة: إذا ساعدتموني على تفكيك مليشيا الدعم السريع وإنهاء التمرد، فسأكون جاهزا للمضي في مسار التطبيع، وتقديم صيغة حكم مدني ترضيكم.
لوح البرهان بالانتقال الديمقراطي، وذكر الغرب بأن الصراع يهدد مصالحه في البحر الأحمر، وفتح باب الشراكة الاقتصادية، مشيرا إلى دور للشركات الأميركية في إعادة الإعمار. بدا المقال أقرب إلى عرض تفاوضي مكتمل الأركان: دعم عسكري وسياسي مقابل شرعية واستقرار وتعاون أمني.
هذه الرسالة ليست معزولة؛ فهي تأتي في وقت تتنامى فيه تحركات البرهان على الساحة الدولية: خطابات في الأمم المتحدة، إشارات إيجابية في الملفات الإنسانية، وانفتاح محسوب على المؤسسات الغربية.
إعلانلكن هذه الإشارات لا تعني انقلابا إستراتيجيا نحو الغرب، بل هي جزء من لعبة أكبر توازن فيها القيادة السودانية بين مكاسب اللحظة، ومخاطر الاصطفاف الحاد.
بين القيمة الجيوسياسية وكلفة الاصطفافيحتل السودان موقعا استثنائيا. فهو بوابة البحر الأحمر، وممر التجارة العالمية، وخزان ضخم للمعادن والأراضي الزراعية. ولهذا تتصارع عليه القوى الكبرى اليوم، كما لم تفعل من قبل.
الصين ترى في السودان امتدادا لطريقها التجاري نحو أفريقيا. استثماراتها الضخمة في الموانئ والبنية التحتية والزراعة، تجعلها تبحث عن طريقة لتفادي انهيار كامل قد يبتلع مصالحها. وبكين، رغم هدوئها المألوف، تدرك أن الفوضى في السودان تعني خسارة سنوات من العمل الاقتصادي والإستراتيجي، ولذلك تتحرك بدقة: دعم محدود للجيش، وضغط خلفي لتثبيت الاستقرار دون الاصطدام بالغرب مباشرة.
أما روسيا فقد استعادت أدواتها غير النظامية عبر "أفريكا كوربس"، البديل الجديد لفاغنر، بهدف ترسيخ وجود إستراتيجي دائم على البحر الأحمر. بالنسبة لموسكو، السودان ليس مجرد شريك إستراتيجي، بل هو مفتاح لدخول القرن الأفريقي بعمق، وتحقيق توازن مع الضغوط الغربية في أوكرانيا، وأوروبا.
الغرب من جهته يراقب بقلق تمدد الشرق. لكنّ لديه شرطا واحدا لم يتغير: لا دعم اقتصاديا حقيقيا دون التقدم في ملف التطبيع، وهندسة المسرح السياسي الداخلي، واستبعاد تيار بعينه.
هكذا يجد السودان نفسه أمام معادلة مستحيلة:
الانحياز إلى الشرق يعني سلاحا متاحا، لكن يفضي إلى عزلة مالية خانقة. الانحياز إلى الغرب يعني دعما اقتصاديا محتملا، لكن يفضي إلى فقدان الإسناد العسكري، وخطر الانفجار الداخلي.
ولهذا يصبح الاصطفاف الكامل قاتلا، والمناورة بين الشرق والغرب أشبه بخيط نجاة رفيع، لكن لا بد من السير عليه.
عدم الانحياز الذكي ورهان الداخلضمن هذه الحسابات الدولية المعقدة، يبرز مسار ثالث يفرض نفسه بقوة:
عدم الانحياز الفعال، وهو ليس حيادا سلبيا كما في الستينيات، بل إستراتيجية قائمة على مزيج من الانفتاح الانتقائي، والمداورة الدبلوماسية.
هذا المسار يعني:
تعاونا اقتصاديا عميقا مع الصين، دون الارتهان لها. شراكة أمنية مع روسيا، دون التحول إلى بوابة لها على البحر الأحمر. انفتاحا على الغرب، دون الوقوع في فخ الشروط الثقيلة التي قد تشعل الداخل. بناء دور إقليمي يعتمد على الجغرافيا لا على الأيديولوجيا.بهذه المقاربة، يتحول السودان من ساحة صراع إلى لاعب يجيد توظيف الصراع لصالحه.
بيد أن كل هذا لن ينجح إذا لم يتم حسم المعركة الأهم: معركة الداخل. فالرهان الحقيقي ليس على واشنطن ولا بكين ولا موسكو، بل على قدرة القيادة السودانية على:
توحيد الجبهة الداخلية، إعادة بناء المؤسسات، وقف النزيف الاقتصادي، وفرض إرادتها على القوى الإقليمية المتدخلة.
فمن دون جبهة داخلية متماسكة، تصبح المناورة الخارجية مجرد لعبة خطرة قد تسقط عند أول هزة. ومن دون قرار وطني صارم، لن تستطيع الخرطوم تحويل ثقلها الجيوسياسي إلى قوة حقيقية.
الخلاصة: المناورة ليست خيارا.. بل قدرا سياسياما يقوم به البرهان اليوم ليس استسلاما للغرب ولا انحيازا للشرق، بل مناورة إجبارية تهدف إلى جمع السلاح من منطقة، والشرعية من أخرى، والمساعدات من ثالثة، دون دفع الأثمان كاملة لأي طرف.
إعلانهي محاولة لاستثمار موقع السودان الفريد في معركة الهيمنة على البحر الأحمر، وتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض كبرى. غير أن هذه اللعبة الخطرة لن تجدي نفعا إذا لم يُستعَد الداخل أولا.
ففي النهاية، لا تحدد الدول الكبرى مصائر الأمم بقدر ما تحددها إرادة أبنائها.
وقدرة السودان على الخروج من النفق لا تتوقف على لعبة التوازن الدولية فحسب، بل على قوة البيت الداخلي، وتمكن القيادة من فرض رؤيتها على من يحاولون تشكيل مستقبل السودان من الخارج.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline