(تفضلوا معنا.. خذوا فنجان قهوة).. عبارة تلخّص الكرم العماني؛ بمضامينه الأخلاقية والاجتماعية، فهو لا يدعوك لتحتسي القهوة وحدها، وإنما ليدخلك داره؛ مما يعني أنه وصلك إنسانيا صلةً قلما يفصم الزمن عراها. والمقال.. يرصد جانبا من السياق الاجتماعي الذي دار حول الفنجان. ويمكن للمرء أن يسرد الكثير من وقائع الحياة التي مرت به، ويجعل أية مفردة ثقافية محورها، وإنما اخترت فنجان القهوة لمحوره في الاجتماع البشري، ولما يمثله لي شخصيا من جاذبية، فنحن بيت احترف صناعة الفخار ببَهلا، والفنجان.
يقول المثل العماني: (لا جالس جلسة، ولا داخل مدرسة) فيمن لا يتمتع بالأدب الاجتماعي ولباقة التعامل، ولذلك؛ كانت جلسة القهوة فرصة لاكتساب الناشئة التقاليد الاجتماعية، وكانوا يمدحون الفتى عند التزامه الأدب في هذه الجلسة.
ذات يوم.. كنت في مجلس عم والدتي، وكان لديه أناس؛ منهم معلم للقرآن، وبعد تناولهم الفاكهة والتمر «التقدوم»؛ أمسكت بالدلة والفناجين لأصب لهم القهوة، لكن المعلم؛ كلما أمسكت الدلة أسرع هو للإمساك بها، وأنا لا أعرف ما السبب، فهو معلم جليل في القدر كبير في السن، وأنا فتى عليّ خدمتهم، ولم انتبه حتى أخبرني عمي بأن عليك صب القهوة للرجال وأنت قائم، فهذا من حُسن إكرامهم، ومن حينها لم أنسَ هذا التقليد.
مما أدركت في مقتبل عمري.. استعمالَ الناس فنجانا مستوردا رُسمت عليه نخلة، مصنوع من البُرسلان الأبيض، وكان يأتي بحجمين: الحجم المعتاد لفنجان القهوة العربية، وهذا الذي يستعمله الناس. وحجم كبير ككوب الحليب؛ لا نستعمله. وكلاهما من دون مقابض. وكنا نحن الأطفال نُمنع من شرب القهوة، فآباؤنا يتصورون بأنها «تيبّس الرأس»، ولعلهم يرونها تزيد من فوضى الطفولة؛ وربما هذا ناشئ من وجود الكافيين المنشط بها. ولم نبدأ بتناولها إلا بعد سن السابعة، ولم تعد هذه العادة موجودة تقريبا، وربما لم تسمع بها الأجيال الناشئة.
كان من وظائفي في البيت طحن القهوة في ميكنة حديدية، وهي آلة تركّب على حافة رف، بها إناء يوضع فيه البُن المقلي، وفي قاعه دولاب ملتوٍ يدار بذراع يُحرك يدويا، تتخلله حبوب البُن فتعركها ثفاله حتى تذرها مسحوقا. الآلة نسميها «كيرخانة»؛ وأصلها كلمة فارسية من مقطعين: «كر» بمعنى عمل، و«خانة» مكان، أما مقبضها فيسمى «القنّاح»؛ وهي كلمة عربية فصيحة. وهذا النوع من الآلات قوي يعمّر، فلا أذكر أن «كيرخانتنا» أصابها تلف.
وأما أول قهوة شاركت في صنعها فكانت بمجلس الحارة «سبلة الجماعة»، فمن عادة أهالي حارتنا أنهم كانوا يجتمعون للقهوة كل يوم ما بين العشاءين، تسمى هذه العادة «قهوة الدور»؛ لأن توفير موادها من التمر أو الرطب والبُن يدور بين رجال الحارة؛ كل يوم على أحد. و«قهوة الدور».. أرحب فضاءً من تناول شراب البُن؛ فهي تعني الكرم بما يقدم من حُسن ضيافة، والمؤانسة بما يتداول من علوم وأدب وأسمار، والآصرة الاجتماعية بما يعالج فيها من أوضاع الجماعة وحارتهم.
وأما عمل القهوة فينادى به في مناقصة بين جماعة السبلة، فعند رأس كل شهر هجري يقيم «أب السبلة» المناقصة، ومَن ترسو عليه يتكفل بعملها مدة شهر، وغالبا؛ يكون من الفتيان. مرةً؛ رست على مجموعتنا المكونة من خالي وأخي وكنت معهم. كانت مهمتي طحن القهوة، وتدوير «الملهاب» لإذكاء نار الموقد، إذ كانت القهوة تقلى وتطبخ في السبلة بالحطب، وكذلك حمل ماء الغسل للجماعة عند التقهوي. وللقهوة.. تقاليد تراعى في المجلس، إذ يجلس رشيد الحارة و«أب السبلة» في صدره، ثم عن يمينهما وشمالهما أهل العلم والضيوف، يلونهم الشيوخ فالشباب فالأطفال، وبهذا الترتيب تقدم لهم القهوة، ولا عذر لأحد من رجال الحارة عن حضورها، إلا المريض أو المسافر أو الملتزم بعمل. انحسر هذا التقليد من المجتمع، واستعاض البعض عنه بطرق تتناسب مع متغيرات الحياة.
دلة القهوة.. يدخل في صناعتها الصربوخ، وهو تراب أحمر خشن ينتشر في مدينة الحمراء -وبه عُرفت- وغيرها، وكان آباؤنا يجلبونه منها لصنع أواني الطبخ، أو التي يراد لها الصلابة، فطين المدر.. أوانيه أكثر عرضة للكسر أو الثلم؛ فيضاف إليه طين الصربوخ لإكسابه القوة. لم ندرك في طفولتنا طهو القهوة في دلال الفخار، فالأواني الحديثة قد احتلت المجتمع. وأما الفنجان فكان يصنع من المدر، بحيث يخلط الأخضر منه مع الأحمر بنسبة 2/1؛ فالأول لليونته والثاني لتماسكه. والفنجان.. إما أن يكون غير مطلي، أو مطليا باللاصف الأخضر الفاتح أو الأحمر الغامق، وكانت دلال القهوة وفناجينها تصنع غالبا للسائحين الأجانب، أو بحسب الطلب وبمواصفات خاصة لبعض المؤسسات؛ لاسيما الحكومية.
كان الفنجان الفخاري يحتضر؛ إذ لم يعد له سوق، فقد استسلم الآباء للتغيرات الكبرى التي عصفت فجأة بالمجتمع، فانصرفوا عن صنعه، حتى جاء الصنّاع من جيلنا، والذين تمتعوا بحس فني في صناعة نماذج جذابة للسيّاح ومقتني أواني القهوة، خاصةً؛ في هذا الوقت؛ الذي بدأ جمال الذوق يسري بين الناس، بفعل الأسفار بين الأقطار ونوافذ التواصل الرقمي، فبُعث فنجان القهوة ودلتها الفخاريَان لحياة أخرى.
الناس.. في بلادنا لم يكونوا يعرفون المقاهي، وبدأت معرفتي بها عبر الشاشة الفضية من خلال المسلسلات والأفلام؛ خاصةً المصرية، كان مشهد المقهى حاضرا في ذهني بالحس الاجتماعي اللطيف في القاهرة، ولمّا قرأتُ في الأدب الحديث؛ عرفت مقهى الفيشاوي العريق الذي أسس عام 1797م، ومقاهي خان الخليلي التي لا تنام، ومقاهي القاهرة التي ارتادها الساسة والمفكرون والأدباء والفنانون، كما ارتادها «حرافيش نجيب محفوظ» وسائر خلق الله من مصر والنازل بها، ولما نزلتُها كانت مقاهيها مغرية لي بزيارتها.
خلال السنوات العشر الأخيرة.. انتشرت المقاهي في سلطنة عمان انتشار النار في الهشيم، ومن الحسن أن كثيرا منها يديره شباب عمانيون، ولكنها حتى الآن لم تجذب إليها شخصيات بارزة فتُلازمها، إذ ما زالت تؤدي وظيفة عملية، كأن يذاكر الطالب الجامعي فيها، أو مكانا للاستفادة من خدمات النت، أو للقاء الناس لغرض محدد. أما أن يلازم كاتب أو فنان أو سياسي أحد المقاهي فيُعرف به، فأظن أن الوقت لا يزال مبكرا، وربما لا يأتي؛ بسبب التغيّر المتسارع لأوضاع المجتمع بفعل هيمنة العصر الرقمي.
فنجان القهوة المعتاد.. الذي يتصلصل بين أصابع المقهوي، له هيمنته الذهنية على المجتمع، فقد كان الناس لا يستلذون شرب القهوة إلا فيه، فلو قرّبتها لأحدهم في أكواب الماء أو فناجين «الشاهي» فإنه يستغرب ذلك، فذات يوم؛ قرّبتُ قهوة لصديق في فنجان الشاهي، فاعتذر أنه لا يشرب الشاهي، حتى أخبرته بأن فيه قهوة. في الثمانينيات الميلادية المنصرمة.. وُجِدت الفناجين المعدنية العازلة للحرارة، وقد اقتنيناها في بيتنا، ورغم أنها عملية وتعمّر كثيرا، إلا أن الناس لم تستحسنها فلم تنتشر، ربما لفقدانها لمسة الجمال؛ فقد كانت بلونها المعدني، دون كسر شحوبه بأي لون، أو توشيته بصورة جميلة.
أما اليوم؛ فالناس لا يقتصرون على الفناجين العادية، فهم يشربون القهوة في فناجين بلاستيكية وكرتونية وزجاجية، وفي أكواب متنوعة وبراقة، وبأسماء أجنبية غريبة عن ذائقة مسامعنا، وبإضافات لا يستلذها جيلنا، فمنهم من يشربها مع السكر، وآخر بالحليب، وبعضهم بنكهات التحلية، ولم تعد ملازمة للتمر؛ فقد حل محله البسكويت والحلاوة والكعك. وأصبحت تعمل بموازين تحدد للفنجان نوع البُن وبلده ومقداره ودرجة تحميصه، بعد أن ذهب حس صناعتها أدراج الريح. لقد أفل نجم رومانسية فنجان القهوة، وبزغ نجم التكلّف؛ صنعةً وشربا، فلكل زمان مشروبه وطقوس شربه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القهوة فی قهوة فی
إقرأ أيضاً:
الراعي من جامعة الحكمة: كانت على الدوام منبعاً للفكر وتربية للضمير
إحتفلت جامعة الحكمة بتخريج طلابها لعام 2024-2025، دفعة اليوبيل الـ150 على تأسيس الجامعة، برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي حضر ضيف شرف، وتم استقباله من قبل وليّ الجامعة رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر ورئيس الجامعة البروفسور جورج نعمة ونوابه، ترحيبًا بمشاركته الجامعة في مناسبة إستثنائية ومميزة تسلط الضوء على عراقتها. الراعيوتوقف البطريرك الراعي في الكلمة التي ألقاها أمام رسالة جامعة الحكمة، مذكرًا بأن رئيس أساقفة بيروت المطران يوسف الدبس أسسها عام 1875 في أعقاب مجازر عام 1860 من أجل وحدة اللبنانيين على العلم والحقيقة والعدالة والمحبة والسلام، وقال: "إن رسالة الجامعة منذ تأسيسها الإنفتاح على العالمية والتطور وفي كلياتها الثماني: الحقوق، والعلوم اللاهوتية، وإدارة الأعمال والإقتصاد، والشرع الكنسي، والسياحة والعلوم الفندقية، والعلوم السياسية والعلاقات الدولية، والصحة العامة، والهندسة، تهيىء أجيالا من اللبنانيات واللبنانيين لمواكبة تطورات سوق العمل وترافق الناشطين من أفراد المجتمع في سعيهم للحصول على المعرفة". أضاف: "إن طلاب الجامعة مدعوون ليكونوا عناصر فعالين لإحراز التقدم والإبتكار". إثر ذلك، تناول البطريرك الراعي رؤية الجامعة، لافتًا إلى أنها "تسعى لأن تصبح مركزًا للبحوث الأساسية والتطبيقية التي تلبي احتياجات وتطورات سوق العمل، وتعمل على تحفيز الروح الريادية لدى الشباب، مما يسهّل اندماجهم المهني وتعمل على تعزيز ثقافة الحياة والأسرة كونها جامعة متجذرة في حياة المدينة" . وأكد البطريرك الماروني أن جامعة الحكمة "لم تكن يومًا مجرد مؤسسة للتعليم، بل كانت على الدوام منبعًا للفكر وتربية للضمير ومنارة للحكمة كمنهج حياة ورسالة مستمرة والتزام إنساني ووطني. وفي هذا اليوم تتجدد رسالتها في الخريجين والخريجات في دفعة 2025، ويستمر عهدها مع الأجيال المتعاقبة". وقال: "إن الإحتفال باليوبيل المئة والخمسين لجامعة الحكمة هو يوم مبارك ويختصر قرنًا ونصفًا من العطاء التربوي والفكري والوطني والكنسي"، موجهًا التحية للأساقفة الذين تعاقبوا على أبرشية بيروت وأولياء الجامعة من المطران المؤسس يوسف الدبس، مرورًا بخلفائه وصولا إلى المطرانين بولس مطر وبولس عبد الساتر". وتوجه الراعي بالتحية لرئيس الجامعة البروفسور جورج نعمة على تفانيه في ترسيخ حضور الجامعة كمركز أكاديمي رائد ومكان حيّ للعلم والقيم والمواطنة، وحيّا الهيئتين التعليمية والإدارية وكذلك الأهل والخريجين والخريجات "الذين يقفون على عتبة جديدة في حياتهم والوطن ينتظرهم، والجامعة ترسلهم إلى واحات المجتمع والوطن كإرسال ليتورجي وتقول لهم: "إذهبوا بسلام!" ورأى البطريرك الماروني أن هذا الإحتفال "يحمل طابعًا ليتورجيًا لأنه احتفال بنعمة المعرفة التي هي من الله، وبنمو المواهب التي هي من الروح القدس، وهذا التخرج هو نوع من "الإرسالية" لأنكم اليوم ترسلون إلى العالم كما كان السيد المسيح يرسل تلامذته بعد إعدادهم ليكونوا نورًا وملحًا في الأرض" . وقال للمتخرجين: "أنتم بهذا التخرج تدخلون رحاب الوطن، لا كمتفرّجين، بل كفاعلين ومبدعين ومؤمنين بقدرتكم على صنع الفرق. لبنان ينتظركم لتبنوا وتنيروا وتجدّدوا. كونوا سفراء الثقة، وكونوا التغيير الذي ترجونه والإلتزام في الأخلاق المهنية. وازرعوا في الوطن ما تلقيتم من حكمة وصدق وتجرّد ومحبة للحق". وختم البطريرك الراعي كلمته بالصلاة من أجل جامعة الحكمة في يوبيلها المئة والخمسين "لكي تبقى منارة الإشعاع وعلامة رجاء وجسرًا بين العلم والإيمان". درع تذكارية
وبعد انتهاء كلمة البطريرك الراعي، سلمه ولي الجامعة المطران عبد الساتر ورئيسها البروفسور جورج نعمة درعًا تذكاريًة كتب عليها "درع اليوبيل الـ 150 يُقدم لصاحب الغبطة البطريرك الراعي". وألقى المطران بولس عبد الساتر كلمة جاء فيها: "لم نجد من هو أكرم من غبطتكم وأحب على قلوبنا لنطلب منه أن يكون ضيف الشرف في هذه المناسبة. فشكرًا لكم تلبيتكم دعوتنا. نطلب من غبطتكم الصلاة على نيّة جامعة الحكمة وطلابها ومعلميها وموظفيها وأهلها حتى تبقى صرحًا تربويًا مؤثرًا في المجتمع اللبناني، ونطلب منكم أيضا الصلاة على نيّة وطننا لبنان الذي يستمر، بفضل جهدكم وجهد العديد من البطاركة الذين سبقوكم وتضحياتكم، بلدَ الإنسان والحرية". ثم اتخذت صورة تذكارية للبطريرك الراعي محاطًا بالمطران عبد الساتر ورئيس الجامعة ونوابه والعمداء والطلاب المتخرجين. مواضيع ذات صلة CEDIMES يطلق مركزه الجديد في لبنان من جامعة الحكمة Lebanon 24 CEDIMES يطلق مركزه الجديد في لبنان من جامعة الحكمة