أصابع ملتوية، إبهام معقوف نحو راحة اليد، نظرة غير متسقة للعينين، ما يشبه الصفائح المعدنية تحت جلد الوجه، كل هذه العلامات هي دلالات تعني بأنّ «توكي يوشي» البالغة ٧٥عاما، في الرواية اليابانية «ملذات طوكيو» لدوريان سوكيجاوا، عبرت مأزق مرض الجذام في طفولة بعيدة.
لكن «توكي» تقرر أن تستفيد من خبراتها في صناعة الحلوى، فقد تعافت قبل 40 عاما، لكن تلك الأصابع كانت أمرا مزعجا في أي عمل تجاري، فكيف يمكن للزبائن أن يتلقوا الخدمة من أيدٍ مشوهة، دون أن يظهر تناقض حاد بين الأيدي المعطوبة والحلوى المعدة بإتقان!
سرعان ما سُحقت «توكي» جراء سوء فهم الناس لها، عندما انتهكت شروط الاتفاق مع صاحب المحل، وانكشفت أمام الناس، فانهارت المبيعات وأصبح المحل التجاري منبوذا!
فقدان الأطراف -حتى بعد الشفاء- جعل المرضى عرضة للتمييز، لا سيما في مكان مُعد لتناول الطعام حيث ينبغي أن يكون كل شيء لائقا بالزبون، وكأنّ رؤية الأصابع المعقوفة أشبه بالنظر إلى وحش مختبئ! وكأنّ هذا المرض يعني أن تتوقف حياتك تماما في الماضي السحيق!
ألغي القانون الخاص بعزل مرضى الجذام عام 1996 في اليابان، عندما ظهر «البرومين» الدواء الذي أحدث ثورة في علاج المرض، فخرج الناس من مصحات العزل واستطاع ذوو المرضى أن يلتقوا بهم بحرية، لكن المجتمع كان قد تغير! فقد أضمر الناس توبيخا شديدا على أمر مشين لم يقترفه المرضى، لاعتقادهم بأنّ الجذام عقاب إلهي يُصيب من كان سيئا في حياته الماضية، ولذا كان هذا المرض يجلب العار الرهيب للمريض ولعائلته أيضا.
كان من المستحيل على المريض أن يُغادر النطاق المحدد له طوال حياته. الأشجار الكثيفة كانت بمثابة أسوار عالية تمنعهم من الهروب. الشرطة لا يأتون عندما تقع الجرائم ورجال الإطفاء لا يأتون لإطفاء الحرائق، وحتى العُملات النقدية لا يتم تداولها إلا فيما بينهم. كانوا أشبه ما يكون بمجتمع صغير ومعزول.
المرأة التي تعودت أن تخيط الثياب تعطي دروسا في الخياطة في المصحة، وكذلك تفعل المعلمة والحلاق وصانع الحلوى والفخار، يجتهدون في إيجاد المعنى لحياتهم الجديدة والمُعذبة.
في مكان كهذا لا أحد يرغب في الحصول على الجثامين بعد الوفاة، لذا تبقى معزولة هي الأخرى! فالفصل العنصري يمتد من الحياة إلى الموت.
تغيرت القوانين وصارت في صالح مرضى الجذام لكن المجتمع بات عديم الرأفة والشفقة. فرغم أنّه سُمح لهم الالتقاء بأقربائهم الذين ذرفوا الدموع لفراقهم، إلا أنّهم لم يعودوا كذلك الآن! سأتذكر طويلا الرجل الذي فقد أطرافه بسبب الجذام وأصيب بالعمى، كان يقرأ كُتب برايل بلسانه كأنّه يتذوقها من مركز إحساسه الوحيد الذي تبقى له.
كانت شجرة الكرز تُعطي تلوينات للحالة النفسية للشخصيات، عندما تكون مزهرة وعندما تفقد أوراقها تظهر الأغصان العارية بوضوح. طائر الكناري الجريح الذي لا يتمكن من الطيران هو الآخر انعكاس لجراح العجوز «توكي»، فلطالما كانت تتوق للخروج من قفص العزل ذاك.
كانت «توكي» تريد أن تؤكد لنفسها أنّها من البشر أيضا، ولذا ظنت أنّ الإصغاء إلى الأشجار والأزهار والرياح والمطر والنور والقمر يجعلها كذلك «ولدنا لكي ننظر لهذا العالم، ولكي نصغي إليه»، فرغم سلسلة الآلام الهائلة كانت متأكدة أنّ لمجيئها إلى هذه الدنيا معنى.
لقد تمكنوا من تجاوز السور الشجري، من ركوب الحافلات، تمكنوا من السفر، إلا أنّ علاقتهم مع العالم باتت مبتورة! هكذا ينتهي المرض وتبقى آثاره كعلامات لا تتخفى.
صورة الاغتراب في الحياة والموت كانت مروعة، وكل شخص يموت هناك تُزرع لأجله شجرة يحبها. ولذا كان عدد الأشجار بعدد الذين أمضوا حياتهم في العزلة القاسية!
المؤثر أنّ الصورة المرعبة لهؤلاء الذين حوّلوا إلى وحوش تتقاطع مع تصورات مجتمعاتنا، فقد حكى لنا أجدادنا ما لا يقل ضراوة عن ذلك بشيء، ورغم ما تكشفه هذه الرواية من مرارة العزل في اليابان فإنّ ما عاناه مرضى الجذام في مجتمعنا وقرأنا عنه في كتب الرحالة يُوجع القلب، لكن قصصهم للأسف ذهبت إلى النسيان ولم يُدوّن أحدٌ شقاءهم ولا تطلعاتهم!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إذا كانت الحروب تُقاس بخواتيمها
الحرب التي شنّها التحالف الإسرائيلي الأميركي على إيران، واستمرت 12 يوماً، لم تكن حرباً انتقامية، وهي ليست حرباً ذات أبعاد تكتيكية، كما أن التخطيط لها استغرق سنوات من التحضير، لم تتوقف خلالها الاغتيالات، وحرب الاستخبارات، والرصد وحروب الظلّ.
بنيامين نتنياهو وضع لهذه الحرب، عنوان «الحرب الوجودية»، وكذلك فعل الإيرانيون الذين اتسم خطابهم بالتهديد لإنهاء وجود الدولة العبرية.
نتنياهو أعلن مراراً أنّ هدف الحرب التي شنّها على ما يقول إنّها رأس محور الشرّ، التخلّص نهائياً من المشروع النووي الإيراني، وتدمير قدراتها الصاروخية والتسليحية، وعدم تمكينها من معاودة بناء ترسانتها الصاروخية والمسيّرات، غير أن الهدف الرئيس تغيير النظام القائم.
تغيير النظام، استدعى اغتيال عدد كبير من قيادات الجيش و»الحرس الثوري» و»الباسيج»، وعدد كبير من العلماء، فضلاً عن محاولة تأجيج المجتمع الإيراني الذي يئنّ تحت وطأة العقوبات الاقتصادية والحصار المديد، والعقوبات المتزايدة من قبل الدول الغربية.
الضربة الاستهلالية كانت واسعة، وصعبة جدّاً على إيران، وأدّت إلى تعطيل شبه كلّ الدفاعات الجوية، وفتح الأجواء أمام تحليق الطيران الحربي الإسرائيلي الذي لم يغادر سماءها من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
القيادة الإيرانية، التي انطلت عليها عملية التضليل الواسعة والمُحكَمة التي نظّمتها الإدارة الأميركية مع الإسرائيليين، استعادت بسرعة تنظيم صفوفها واستيعاب الضربة، وتعويض مواقع المسؤولية والدخول في مرحلة الردّ، وكما أنّ القيادة الإيرانية وقعت في فخّ الخديعة، فإن نظيرتها الإسرائيلية على الأرجح، لم تكن قد توقّعت حجم ونوع القدرة الإيرانية على خوض مواجهة مؤلمة لدولة الاحتلال لم تعهدها منذ تأسيسها العام 1948.
هدأت جولة ولم يهدأ الصراع، فلا دولة الاحتلال انهارت كما كان يهدّد الإيرانيون، ولا النظام الإيراني سقط، أو حتى لم يعد تهديداً إستراتيجياً للكيان كما يدّعي نتنياهو وفريقه.
إذا كانت الحروب تُقاس بخواتيمها، فإن النتائج التي تحقّقت حتى الآن لا تعطي لأيّ طرفٍ أفضلية إعلان الانتصار.
الإسرائيليون في حكومتهم الفاشية و»المعارضة»، أعلنوا الانتصار مبكراً إذ ادّعى نتنياهو أنّه حقّق انتصاراً ساحقاً وإستراتيجياً على إيران، وطمأن الإسرائيليين أنه أنهى التهديد الإيراني.
نتنياهو فعل ذلك مراراً، بعدما جرى على الجبهة اللبنانية، وحين توقّفت المقاومة العراقية عن الإسناد، وأعلن أنّه سيواصل حربه على غزّة، لتحقيق الانتصار الحاسم، وإنهاء كل بؤر التهديد الذي يواصل القول إنه يستهدف وجود كيانه الكولونيالي.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو الآخر، احتفل على طريقته بالقدرات التي تمتلكها بلاده، وتفوّق الأسلحة الأميركية.
بين الحين والآخر، يدّعي نتنياهو أنه لم يكن ليوقف الحرب لولا الضغط الأميركي، خصوصاً بعدما اعتقد أنّ الطائرات الأميركية العملاقة قد قضت تماماً على المنشآت الخاصّة بالبرنامج النووي بعد اغتيال نحو 15 عالماً إيرانياً.
في الواقع فإنه هو من أراد وقف الحرب فهو كان قد أعلن بعد ضرب المنشآت النووية الإيرانية، أنّه مستعدّ لوقف الحرب، على اعتبار أن ما قامت به الطائرات الأميركية يشكّل المشهد الأخير الذي يمكنه من إعلان النصر.
وفي ذات السياق، طالب ترامب من إيران إعلان الاستسلام، والإذعان، لكن لا ما أراده ولا ما أراده نتنياهو قد حصل.
في الواقع فإنّ ترامب أظهر بصيرة، لا تتفق مع الهوس الإسرائيلي للحرب، التي أصبحت الملاذ الوحيد لنجاة نتنياهو لأطول فترة ممكنة.
يدرك ترامب، التداعيات المترتّبة على استمرار الحرب، في الموقع الإستراتيجي الذي تحظى به إيران، ذلك أنّ سقوط الأخيرة من شأنه أن يقلب المنطقة، ووسط آسيا وشرقها رأساً على عقب، ما تحرّكت معه مؤشّرات دخول حلفائها على الخطّ ابتداءً من باكستان، إلى الصين وروسيا وكوريا الشمالية الذين ستكون لنهاية الحرب، أبعاد إستراتيجية خطيرة على بلدانهم ومصالحهم ونفوذهم.
أن تسقط إيران، فإنّ تأثير ذلك له أبعاد هائلة على أميركا وحلفائها، وعلى مجرى الصراع الجاري بشأن النظام العالمي.
الحروب لا تُقاس بحجم الخسائر، ولكن بمآلاتها وتداعياتها اللاحقة. أحد المسؤولين الإيرانيين كان مُحقّاً حين قال بعد توقّف القتال، إن الحرب قد بدأت للتوّ.
باعتراف معظم المراقبين، فإنّ المشروع النووي الإيراني لم ينتهِ، وأنّ بالإمكان استعادة ما تمّ تدميره. فالعلماء موجودون والخبرة موجودة والإمكانيات كذلك والأمر يتعلّق بالإرادة، وهي أشدّ صلابة ممّا مضى.
إيران ستحاول التقاط الأنفاس، وإعادة تنظيم صفوفها، وقدراتها، وتمكين نظامها السياسي، وتنظيف ساحتها الداخلية من الاختراقات الأمنية، وستجد من حلفائها المساعدة والدعم.
دولة الاحتلال ومعها أميركا، ستواصلان تخريب البنية الداخلية للنظام السياسي الإيراني، بهدف إسقاطه في الأساس من الداخل. ولكن إذا كانت إيران بحاجة إلى فترة التقاط الأنفاس وهي قادرة على إعادة بناء الذات، فهل ينطبق الأمر على الدولة العبرية؟
ما تعرّضت له الدولة العبرية كلها، من شأنه أن يقوّض الأمن ويدفع الكثيرين للمغادرة، هذا عدا الخسائر المادية والاقتصادية، والمكانة.
ستتفرّغ إيران لمداواة جراحها، وستمتلئ شوارع دولة الاحتلال بالاحتجاجات والصراعات والتناقضات، فجرح غزّة لا يزال غائراً بينما يواصل نتنياهو حروبه على المنطقة.
الأيام الفلسطينية