لا شك أن أمتنا العربية منذ ما قبل ما عُرف بالربيع العربي، وما بعده، وهي تعاني التوترات والأزمات، وتتقلّب بين الصعود والهبوط في هذه الأزمات، وهذه للأسف عملت شللاً سلبياً في العلاقات البينية بينا، في غياب الحلول الإيجابية لإيجاد مخارج لحل الخلافات والأزمات الغير جوهرية، والتي يمكن اعتبارها سبب هذا الاختلاف في جهات النظر وفي تشخيص الأزمات القائمة، لكن هذه الأزمات يمكن أن تُحل إذا ما وُجدت الإرادة والرغبة في إعادة الوحدة والتلاحم والتوافق على القضايا الكبرى للأمة، وتبقى القضايا الفرعية التي يكون فيها السعة ورحابة للاختلاف لأنها بعيدة عن الأهداف الأساسية للأمة، وهذا بلا شك ما يستوجب الحاجة الماسة لحل كل ما يعترض تقاربها في المجالات المهمة التي لا يختلف عليها أحد، وهي ذاتها ما يجب أن تتوحد حولها الآراء في ظل ظروف الأمة الراهنة وازدياد التوترات.

وقد طرح العديد من الباحثين والكتّاب الأزمات السياسية العربية الراهنة، وحصروها في ظروفها المختلفة، لكن بعض هؤلاء الباحثين أرجعها إلى طبيعة حالتنا الذاتية أو الجذر المجتمعي -وقد ناقشتها في بعض دراساتي- اللتان تبرزان هذه الخلافات، وهي التي تُستعاد وتعتمد على قضايا تُثار بين الحين والآخر، فيتم استرجاع الخلاف واشتداد سوء الفهم وبروز الخلاف إلى الواجهة. وكل هذه الخلافات تحتاج إلى رحابة صدر، وإلى حوار ذاتي وإبعاد الأحكام المسبقة، وإلى حسن الظن بالآخر وبما يطرح، حتى يمكن حل هذه الخلافات بأقل تكاليف ودون انقطاع التواصل.

ومن الخطأ تحميل الجذور المجتمعية والخلل السوسيولوجي فيما يجري من أزمات وما يطرأ من خلافات بالمجتمع العربي، وهو ما يقع فيه بعض الباحثين؛ فالقرار السياسي العربي بيد هذه النخبة، واختيار القرار الصائب أو الخائب إرادة وفعل، تستطيع هذه النخبة إيجاد البدائل المناسبة للتعامل مع هذه القضايا والإشكالات، فهي التي تمتلك مقومات النهوض أو أسباب الإخفاق، وهي التي تعرف كوامن الضعف وعوامل تحقيق التقدم.

وهذا ما عبر عنه د/ برهان غليون عندما طرح أسباب هذه الإخفاقات، وأرجعها إلى الممارسة السلبية؛ حيث يرى أن الدولة الحديثة: "هي التي تفسر ما يشهده المجتمع العربي من إضافة للمكتسبات العديدة التي حققها في جميع الميادين في العقود القليلة الماضية، بعد فشل مشروع التنمية باعتباره محور إعادة البناء الوطني، بما في ذلك العناصر الجديدة المكتسبة في ميدان تقنية الحكم ومفهوم أو فكرة الدولة ذاتها". فكيف يحّمل الباحثون تكويننا السياسي وتركيبتنا المجتمعية هذه الإشكالات والتراجعات، ويتناسى أن الشعوب العربية مغيبة عن هذه السياسات المقترنة بالإخفاقات المتتالية؟ مع أن "جذور الأزمة الحقيقية التي تعصف بالمجتمع العربي اليوم، كما يشير د/ غليون، تكمن في نموذج الحداثة العربية نفسها، وليس هناك أمل في الخروج منها، إلا بنقد هذه الحداثة وتوفير شروط تجاوزها والخروج منها".

وفي مقدمة هذه الحداثة الممسوخة ـ كما يقول غليون"مسخ الدولة الحديثة (الوطنية) بالذات، في مفهومها ومصدر قيمها، أعني عقيدة ارتباط التقدم التاريخي بالدولة، ثم بتعظيم دور الطليعة والإدارة، وتضخيم أجهزة القمع ووسائله، لدرجة أصبح فيها معدل بناء السجون والمعتقلات ومعسكرات التجميع والمراقبة ونقاط التفتيش وأجهزة المخابرات أكبر من معدل بناء المستشفيات أو المدارس أو الخدمات الاجتماعية". فهل يجوز لنا منطقاً وعقلاً أن نتجاوز طبيعة ونتائج السياسات، التي اتخذتها ومارستها بعض النخب السياسية العربية في الدولة الوطنية، والدولة التقليدية قبل ذلك، ونرمي بأسباب هذه الإخفاقات والتراجعات إلى البنى السوسيولوجية والجذور المجتمعية، والفقر السياسي العربي تاريخياً في خط ثابت متصل إلى حاضرنا الراهن؟ وهل هذا التفسير يشفي غليل الإنسان العربي الحائر الذي لا حول ولا قوة له فيما يجري، وما يتموضع بالنيابة عنه من سياسات وما يتخذ من قرارات، عصفت بكل مقدرات الأمة في مصير مجهول.

لقد استوردت الدولة التقليدية، ثم الدولة الوطنية بعد الاستقلال، النظم، والأفكار، والبرامج الغربية، وبعض هذه الدول طبقت العلمانية في جانبها القهري الاستبدادي، ولذلك "فإن الطابع القمعي للدولة العربية القائمة ليس التعبير الصريح أو المبطن، عن بقايا تراث الاستبداد الشرقي القائم على إرادة الأشخاص أو العقائد أوالبرامج السياسية والاجتماعية المرتبطة بمجموعات بعينها، إنه العكس من ذلك، التعبير عن التحول البطيء في طبيعة الدولة الحديثة ذاتها أو دولة التقدم والتحديث. ومن هذه المنطلقات أثمرت هذه السياسة فكراً مغايراً لثقافة الأمة وموروثها الحضاري، ونشأ عن ذلك اضطراب سوسيولوجي، بعد إقصاء المرجعية الذاتية والهوية الوطنية، وتهميش دورها في صياغة نموذجها الفكري والسياسي، النابع من ذاكرتها الحضارية في الميادين المختلفة، ونتج عن ذلك فشل ذريع في البرامج والخطط في مستويات عدة، وما نشاهده من مظاهر التقدم والتنمية التي تحققت نسبياً في بعض هذه الأقطار العربية "ما هي إلا أمور سطحية لا تمس الجوهر أو الذات الفاعلة، وأقصد بذلك الإنسان العربي على اختلاف مستوياته الثقافية وطبقاته الاجتماعية، وذلك لأن مثل هذه التنمية وذاك التقدم، هي أمور تابعة ومرتبطة بالمركز الحضاري الغربي، سواء كنا نتكلم بنيوياً أو ثقافياً أيديولوجيا. فمثقفونا يمارسون أحلام يقظة في أسر الكلمات والمفاهيم والأيديولوجيات المجردة، مما يسقطهم في مزالق الاغتراب وهوة العزلة الاجتماعية واللافاعلية كنتيجة لكل ذلك. وطبقاتنا الاجتماعية ليس لديها وعي بكينونتها الطبقية في المقام الأول، فتمارس وظيفتها الاجتماعية عشوائياً وفق نمط فردي غارق في الغيبوبة الاجتماعية، تتقاذفه شتى الاتجاهات ومختلف أنواع الوعي الزائف، وكلها لا تعبر عن وعي يتمثل بحقيقتي الزمان والمكان، وبالتالي، تتحول إلى كم بشري هامشي لا أثر اجتماعيا فعليا له.

ومن هنا يؤكد د/ تركي الحمد في كتابه (دراسات أيديولوجية في الحالة العربية ص 81) "إن المشكلة الأساسية التي تواجه الوطن العربي، هي في الفراغ والضياع الأيدلوجي السائد في التاريخ العربي المعاصر" فإشكالية الأصالة والمعاصر، والعروبة والإسلام، والتراث والثورة، الاستقلال والتبعية، الدين والدنيا، والدين والدولة إلى غير ذلك من الإشكالات، ما هي إلا انعكاس وتجسيد للفراغ أو الضياع الأيدلوجي، أو الثقافي الذي نجد أنفسنا فيه كأمه، يفترض فيها وحدة الوعي كتعبير عن وحدتها. وهذا لا يعني إنكار أهمية وتأثير الإشكالات البنيوية التي ورثناها -أو أورثناها- خلال تاريخ طويل من القمع والاستبداد والاستعمار والاستقلال السياسي الناقص أو المشوه، إلا أنه وفي وطننا العربي، فإن هذه الإشكالات البنيوية تحوّلت إلى تابع أو دالة الأيديولوجيا السائدة ، التي هي بدورها مجرد تعبير عن الضياع أو الفراغ الأيدلوجي الذي نعيشه. فهذه الأيديولوجيات السائدة التي خبرناها خلال تاريخنا المعاصر، ليست إلا تعبيراً عن الاستلاب الثقافي العام الذي يعيشه الوطن العربي، فهي أيديولوجيات بعيدة كل البعد عن نبض التاريخ العربي (الذي يشكل شخصية الأمة وذاكرتها بغض النظر عن قبوله أو رفضه)، ولا تعكس أو تعبّر بأي شكل من الأشكال عن طبيعة البنى الاجتماعية والثقافية السائدة".

إذن الإشكالية التي وقعت فيها النخب السياسية العربية أنها استمدت أيديولوجيتها من منابع أخرى، لا صلة لها بالواقع العربي الإسلامي، وهذه الأيديولوجيات بعيدة كل البعد عن العقلية السائدة آنذاك التي عرفتها القبيلة أو العشيرة، بل إن هذه الأخيرة هُمّشت تماماً، في مرحلة سيطرة النخب السياسية المؤدلجة بالأفكار الاشتراكية والقومية والعلمانية.

ولا شك أن البعض ممن تحدّث عن وضع الأمة، يركز دائماً على مشكلاتها من منظور الآخر المختلف، وليس من الواقع ذاته وما ينبغي إصلاحه، لكنه يحلل وينقد وفق نظرة الآخر وواقعه ونظرته، ويرى أنه إذا أرادت الأمة أن تصل إلى ما وصل إليه الغرب، أن تتجه للتقليد السلبي والاستهلاك، وليس إلى الإبداع، من خلال المناهج العلمية وطرق الاستفادة منها في النهوض العلمي والتكنولوجي، وهذا ما فعلته اليابان، والصين، وكوريا، وماليزيا، وآخرها الهند التي بدأت في الانطلاق التكنولوجي، وهذا هو الأمر الجدير بالتقدير والاحترام إذا ما أردنا الانطلاق الصحيح للتقدم والنهوض، ومع أن تلك الدول لم تتخل عن قيمها وتراثها وتقاليدها الموغلة في القدم، ونجحت حتى في منافسة الغرب في الصناعات المهمة المتعددة.

ومن الدول الإسلامية التي تعتبر صاعدة تكنولوجياً بشكل كبير ومتنام، تركيا الراهنة، التي أصبحت من الدول التي يشار إليها بالبنان في التقدم العلمي والتقني، والنهوض الاقتصادي سببها الاستفادة من منهجية الغرب العلمية والتقنية وليس التقليد فقط، وأخذ المنتجات دون الإبداع الذاتي في الإنتاج الداخلي ومن خبرات الكفاءات الذاتية. فأمتنا بحاجة للخروج من أزماتها المختلفة، السياسية منها والفكرية والاقتصادية أن تتجه إلى المراجعة الجدية، وإلى رؤى أكثر واقعية تجاه أهمية تقاربها ووضع استراتيجيات للتعاون في شتى المجالات، بما للأمة من قوة اقتصادية وتوحيد السياسات العامة، ككتلة موحدة في عصر التكتكلات البينية، ونبذ أية خلافات قد تعرقل التعاون والتكامل، وللخروج من هذه الأزمات وإزاحتها عن الصدارة، ومن خلالها سوف تستعيد الأمة مكانتها وتقديرها بين الدول الأخرى؛ لأن الخلاف الداخلي يعطي انطباعا سلبيا، ويقلل من مكانة الأمة في العالم وبين المؤسسات الدولية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هی التی

إقرأ أيضاً:

هشام العيسوي يحصل علي جائزة التميز العربي 2025 في المعرض العربي الأول للاستدامة

شارك المهندس هشام العيسوي، رئيس المجلس التصديري للحرف اليدوية ورئيس لجنة التصميم والإبداع بتحالف شركاء جامعة الدول العربية، في فعاليات "المعرض العربي الأول للاستدامة"، وذلك في إطار تعزيز التعاون العربي المشترك في مجالات الاستدامة والصناعات الإبداعية.

يعد المعرض الذي نظمته جامعة الدول العربية بمشاركة واسعة من ممثلي الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني، من الفعاليات الهامة التي تسلط الضوء على دور الاستدامة في تطوير الصناعات والاقتصادات العربية.

تكريم إيهاب فهمي عن دور "عبد العاطي" في مسلسل "إش إش" خالد الجندي: الحجاب تكريم للمرأة وفلسفة الإحرام منهج حياة (فيديو) تكريم العيسوي بجائزة التميز العربي للاستدامة 2025

تم تكريم المهندس هشام العيسوي خلال المعرض، ومنحه "جائزة التميز العربي للاستدامة 2025"، تقديرًا لدوره البارز في دعم الاستدامة بقطاع الحرف اليدوية. 

وقد تسلّم العيسوي درع التميز العربي من معالي الوزيرة المفوضة ندى العجيزي، مدير إدارة التنمية المستدامة والتعاون الدولي بجامعة الدول العربية.

هشام العيسوي يحصل علي جائزة التميز العربي 2025 في المعرض العربي الأول للاستدامةتكريم الأردن للعيسوي

كما كرّمته دولة الأردن الشقيقة بدرع خاص، تعبيرًا عن تقديرها لجهوده في تعزيز التعاون العربي في مجال الحرف اليدوية المستدامة. 

تمثل هذه الشراكات بين الدول العربية خطوة هامة نحو تطوير الصناعات الإبداعية المستدامة على مستوى العالم العربي.

العيسوي: الاستدامة أساس لبناء اقتصادات حديثة

وفي تصريحاته على هامش الحدث، أكد المهندس هشام العيسوي أن الاستدامة أصبحت عنصرًا أساسيًا في بناء اقتصادات حديثة ومستدامة. 

وشدد على أهمية اتفاقية "صفر جمارك" التي أقرتها جامعة الدول العربية، مؤكدًا أن هذه الاتفاقية تمثل فرصة استراتيجية لتعزيز التجارة البينية بين الدول العربية، وتوسيع آفاق التعاون الاقتصادي.

أهمية الأسواق العربية في صادرات الحرف اليدوية المصرية

وأشار العيسوي إلى أن نحو 70% من صادرات الحرف اليدوية المصرية تتجه إلى الأسواق العربية، مما يعكس الأهمية الكبرى لهذه الأسواق كمحرك رئيسي للنمو في القطاع. 

ولفت إلى أن المشاركة في المعرض تأتي ضمن خطة المجلس التصديري لتوسيع نطاق الصناعات الإبداعية المستدامة على المستوى العربي.

شراكات جديدة مع الأردن في الصناعات الإبداعية المستدامة

كما عقد العيسوي سلسلة من اللقاءات الرسمية مع وفود عربية، ناقش خلالها فرص التعاون في مجالات التصدير والتدريب وتبادل الخبرات. 

وقد تم الإعلان عن شراكات جديدة مع الجانب الأردني تشمل زيارات متبادلة ومشروعات مشتركة في مجال الحرف اليدوية المستدامة، والتي ستعزز التعاون العربي في هذا المجال المهم.

ختام فعاليات المعرض

اختتمت فعاليات المعرض العربي الأول للاستدامة وسط حضور كثيف من الشباب العربي والمؤسسات التنموية. وقد حظي المعرض برعاية وزارتي الشباب والبيئة، وشكل منصة فعالة لعرض المبادرات وتبادل الرؤى حول مستقبل الاستدامة في العالم العربي.

مقالات مشابهة

  • النموذج الترامبي.. استنزاف للثروات العربية وخزيٌ للسيادة الوطنية
  • برلماني: الرئيس السيسي يدافع عن الأمن القومي المصري ويتحدث بلسان الأمة العربية
  • النائب العام: جرائم الإرهاب تهديد مباشر للأمن المجتمعي والاقتصادي في العالم العربي
  • نجاح المؤتمر العربي للإعلام… علامة فارقة ومسؤولية متجددة
  • الوزارية العربية تبحث في باريس سبل إنهاء الحرب على غزة والتحضير لمؤتمر “حل الدولتين”
  • غزة ..ومظاهر العجز العربي
  • جامعة القاهرة: فوز أحمد طه بجائزة الطبيب العربي 2025 يعكس مكانة القامات العلمية
  • محمد الشحي رئيساً للجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان
  • جامعة الدول العربية تكرّم ولي عهد الفجيرة بجائزة يوم الاستدامة العربي
  • هشام العيسوي يحصل علي جائزة التميز العربي 2025 في المعرض العربي الأول للاستدامة