مرفأ قراءة المدخل إلى فنون الأدب العربي
تاريخ النشر: 10th, August 2024 GMT
(1)
"لا تنسوا أن الأدب العربي هو مادتكم التي تشتغلون بها.. اقرأوه بإمعان.. بنظرة فاحصة جديدة تسندها ثقافة العصر، هو وحده الذي سيعلمكم فن القول. وما فن القصة إلا نوع من فن القول. أنتم تقيمون بناء أحجار هي الكلمات، ستجدون في الأدب العربي الخالي من القصة سر هذه الكلمات؛ دلالاتها، جرسها، أطيافها. لا تبحثوا في الأدب العربي عن القصة، لن تجدوها.
(من كتاب "أنشودة للبساطة ـ مقالات في فن القصة" لـ يحيى حقي)
(2)
منذ قرأتُ هذه الكلمات التي كتبها وليّ الكتابة الصالح والأديب والقاص والروائي صاحب الإحساس المرهف والحس اللغوي الرفيع يحيى حقي (1905-1992)، للمرة الأولى في كتابه الممتع "أنشودة للبساطة"، وأنا أستدعي تلك الكلمات كلما عنّ لي الحديث عن علاقة أبنائنا وشباب الكتاب والكاتبات بأدبهم العربي القديم، وضرورة تأسيس علاقتهم بهذا الأدب تأسيسًا قويًّا ومتينًا حتى لو كان ما يكتبونه أو سيكتبونه غارقًا حتى النخاع في "التجريد" و"التجريب"!
وجدتُ هذه الكلمات الذهبية تخايلني، وأنا أقلب صفحات بعض الكتب من اكتشافٍ أدبي معرفي وثقافي رائع وقع لصاحب هذه السطور أثناء بحثه عن "روائع" ما أنتجته صفوة العقول العربية في القرن العشرين، وتميز بالأصالة والجدة وعمق الطرح وبساطة الأسلوب. واحدة من روائع السلاسل الذهبية التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية إبان كانت واحدة من كبريات دور النشر في العالم! هذه السلسلة التي مضى على ظهورها الأول ما يزيد على نصف القرن!
لا أريد أن أستطرد في الحديث عما وقع لي من أعمالٍ مذهلة في كل العلوم والمعارف الإنسانية من آداب وفنون وفلسفة وتاريخ وجغرافيا وقانون وفلسفة الحضارات.. إلخ، فكل هذا سيأتي الحديث عنه في حينه، ونجتهد في تسليط الضوء عليه بما يليق بقيمته وبقيمة مؤلفي هذه الأعمال، ومنهم المشهور المعروف، ومنهم من آثر العزلة والبعد عن الأضواء والعمل في صمت (المثقف الكبير علي أدهم نموذجًا على ذلك، وقد كتبنا عنه حلقتين هنا في مرفأ قراءة تعريفا وتنويها).
سأتوقف هنا في هذه الحلقة من -مرفأ قراءة- أمام هذه السلسلة الرائعة التي كانت تصدر في أواسط ستينيات القرن الماضي؛ تحديدًا منذ 1965، وقد رسم خطتها ووضع برنامجها وحدد موضوعاتها المرحوم عادل الغضبان وقد وضع لها عنوانا جامعا ودالا ألا وهو "فنون الأدب العربي"..
فما هي؟ وما الغرض منها؟ وما خطتها؟ ومن القائمون على تحريرها؟
(3)
"فنون الأدب العربي" سلسلة تحقق بكتبها الأنيقة هذه الصلة الضرورية التي تحدَّث عنها يحيى حقي في نصه السابق.. تحقق المعرفة اللازمة للمقبل على الكتابة، والراغب في الوقوف على أرضية ثابتة خلال رحلة تعرفه على فنون الأدب العربي.. أو كما كتب عنها محررها الأول "لقد قُصد من هذه المجموعة أن تجلو للقارئ العربي ألوانًا من الفنون الأدبية التي عالجها الأدب العربي، في مختلف أقطاره وعصوره. فهي تقف أمام كل فنٍّ أدبي، فتعالجه في جزءٍ -أو أكثر- من هذه السلسلة التي سيجتمع فيها محصولٌ وافر من فنون الأدب المختلفة التي تكوِّن في مجموعها ذلك الهيكل الأدبي الضخم الذي شيدته العربية في تاريخها الطويل".
أتحدث -إذن- عن مجموعة (فنون الأدب العربي) التي أخرجتها دار المعارف لقرائها (وخصوصًا لمحبي الأدب العربي، ودارسيه، والمهتمين به) في ستينيات القرن الماضي، حرَّرها ألمع الكتاب وأساتذة الأدب والنقد في الجامعات المصرية والعربية، وغطت أهم وأبرز مجالات الإبداع الشعري والنثري، وقدَّمت ذخيرتها من خلال أربعة روافد: الشعر الغنائي، والفن القصصي، والفن التعليمي، والفن التمثيلي.
وقد قُصد من هذه المجموعة "أن تجلو للقارئ العربي ألوانًا من الفنون الأدبية التي عالجها الأدب العربي، في مختلف أقطاره وعصوره. فهي تقف أمام كل فنٍّ أدبي، فتعالجه في جزءٍ -أو أكثر- من هذه السلسلة التي سيجتمع فيها محصولٌ وافر من فنون الأدب المختلفة التي تكوِّن في مجموعها ذلك الهيكل الأدبي الضخم الذي شيدته العربية في تاريخها الطويل... أما فضلها فيما يرى محررها "أنها تعالج الأدب العربي لا على طريقة السنين (التأريخ الزمني)، ولا على طريقة التقسيم إلى عصور (جاهلي، إسلامي، أموي، عباسي.. إلخ)، كما ألفنا في كتب التاريخ الأدبي، ولكنها تعالج الأدب على مدى ما اتسع فيه من فنون، فللمقامة موضوع، والترجمة الشخصية موضوع، وللغزل موضوع، وللوصف موضوع، وهكذا تكبر هذه المجموعة على قدر ما في الأدب العربي من فنون".
وهكذا خرجت كتيبات هذه السلسلة، تباعًا، وفق منهج محدد يقدِّم مدخلًا تعريفيًّا وافيًا بفنون الشعر الغنائي عند العرب؛ من غزلٍ ونسيب وتشبيب، ومدح وهجاء، ووصف وفخر وحماسة.. إلخ، بالإضافة إلى شعر الموشحات والأزجال.
كما قدمت تعريفًا وافيا بفنون النثر العربي بأشكاله المعروفة من قص و"مقامة" و"تراجم وسير" و"رحلات"، فضلا على فنون الأدب التعليمي "النقد"، "الحكم والأمثال"، و"الخطب والمواعظ".. إلخ. مثَّل كل كتاب في السلسلة "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" إذا استخدمنا عنوان كتاب ابن رشد العبقري في الوفاء بالغاية المحددة لكل كتاب منها، فهو غاية كل طالب ومُكتفى كل قارئ مقتصد، يوفيه حاجته ويلبي طِلْبته، وهو في الوقت ذاته عتبة لا غنى عنها لمن أراد المزيد يتكئ عليها، ويرتقي منها إلى آفاق لا تحد..
(4)
ولا أتصور محبًّا للشعر ومقبلًا عليه ومهتما بتدعيم معرفته به، لم ينل حظًّا من المعرفة "الجيدة" بفنون الشعر الغنائي عند العرب (ديوانهم الأكبر والأعرق) وحضوره الوارف الأصيل بأغراضه المتعددة من غزلٍ ونسيب، ووصفٍ، وفخر وحماسة، ومديح وهجاء.. إلخ.. هنا اتصال بصميم ماهية النوع الأدبي، وجماليته، من خلال نماذج مختارة من عيون الشعر العربي وروائعه في عصور ازدهاره.
كما لا أتصور دارسًا للأدب ومقبلًا على اكتشاف جماليات النثر العربي بأشكاله التي عرفناها وورثناها من "أخبار وروايات" و"حكايات" و"مقامات" و"رحلات" و"سير وتراجم" و"تراجم شخصية".. إلخ، لا يبحث عما يقرِّب إليه هذه الأشكال الفنية البديعة إلى روحه ويهيئ ذائقته لتلقيها وتقبلها والتمتع بها..
ونظرة على الأسماء التي ألفت هذه الكتب فنفاجأ أننا أمام أكبر أساتذة للأدب العربي ونقده ليس فقط في الجامعات المصرية بل والجامعات العربية قاطبة! لربما كان الإحساس بقيمة هؤلاء الأساتذة وراء وضع العبارة التالية في صدارة كل كتاب من كتب السلسلة "يشترك في وضع هذه المجموعة لجنة من أدباء الأقطار العربية"، ويكفي وضع هذه العبارة لتكون بمثابة علامة الجودة والثقة في كتب هذه السلسلة.
خمسة من هذه الكتب ألفها المرحوم الدكتور شوقي ضيف، تلميذ طه حسين، وعميد مؤرخي الأدب العربي في القرن العشرين! شوقي ضيف قدم وحده للمكتبة العربية ما يقرب من مائة كتاب إن لم يزد! وإن لم يؤلف سوى تاريخه الكبير للأدب العربي في عشرة مجلدات تقع فيما يزيد على ستة آلاف صفحة، فكفاه ذلك وأغناه وجعله في عداد الخالدين!
وإذا أضفنا إلى الدكتور شوقي ضيف أسماء المرحوم الدكتور سامي الدهان، وهو من هو في علمه وتاريخه وقيمته، وحنا الفاخوري، ومحمد عبد الغني حسن.. وكانت المفاجأة أيضًا هي اشتراك المرحوم الدكتور محمد مندور شيخ النقاد وكبيرهم وعلمهم المبرز بتأليف كتاب في هذه السلسلة عن المسرح ضمن رافد "الفن التمثيلي"..
(5)
تحقِّق مجموعة (فنون الأدب العربي) بكتبها الخمسة عشر التي سيُعلن عن صدور طبعتها الكاملة وللمرة الأولى خلال الفترة القليلة القادمة، تحقِّق هذه الأهداف كلها مجتمعة وبامتياز..
ولعلها المجموعة الوحيدة من نوعها التي توفِّر هذه المعرفة العميقة الرصينة المعتدلة والبسيطة في الآن نفسه لكل من حدثته نفسه أو خايلته رغبة فضولية محببة إلى التعرف على ... (فنون الأدب العربي).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه المجموعة هذه السلسلة السلسلة ا من فنون من هذه
إقرأ أيضاً:
حين يسقط العالِم في فخ التبسيط .. خطيئة جمال حمدان حين أفتى في الأدب
في لحظة ثقافية تتشابك فيها الأسئلة أكثر مما تتضح الإجابات، يطلّ الكاتب عبد الوهاب داود من خلال كتابه «معادلات مختلّة» ليقلب حجراً ثقيلاً في ذاكرة الثقافة المصرية. حجرٌ يحمل اسمًا كبيرًا نادرًا ما يُمسّ بالنقد: الدكتور جمال حمدان.
العالم العبقري، صاحب «شخصية مصر»، الذي غيّر طريقة المصريين والعرب في فهم الجغرافيا والتاريخ والهوية، لكنه ـ كما يقول الكاتب ـ «لم يكن معصوما»، بل ارتكب خطيئة فكرية كبرى حين تحدث عن الأدب من موقع من لا يعرفه، وأصدر أحكامًا قاطعة على فنون الكتابة دون أن يقرأ منها إلا ما كان موجّهًا للأطفال والمبتدئين.
في هذا الفصل اللافت من «معادلات مختلّة»، لا يهاجم عبد الوهاب داود شخصية جمال حمدان، ولا يقلل من شأنه، بقدر ما يفتح سؤالاً فلسفيًا عميقًا: هل يجوز لعالِم أن يحكم على مجال كامل خارج تخصصه دون أن يكون قد تعرّف إليه بعمق؟ وهل يمكن لذكاء علمي حاد أن يعصم صاحبه من السقوط في أحكام سطحية عندما يغادر منطقة معرفته، السؤال الذي يطرق به الكاتب هذا الباب ليس سهلاً، ولا خفيفًا. إنه سؤال يمسّ قدسية الرموز، ويعيد النظر في صورة العالِم الكامل، ويؤكد أن «غلطة الكبير بألف».
حوار قديم.. لكن صدمته متجددة
ينطلق الفصل من حوار منشور في مجلة «آخر ساعة» بتاريخ 30 أغسطس 1986، وهو حوار بدا عابرًا في وقته، لكنه صار اليوم وثيقة كاشفة، وفي هذا الحوار، يفاجئ جمال حمدان القارئ بتصريحات صادمة يقول فيها إن الأدب «سقط متاع العقل البشري»، وإن قيمته «محدودة للغاية»، وإنه لم يجد للأدب «موضوعًا حقيقيًا»، وإنه ظل طوال سنوات «مشْكوكًا في وجوده».
وبقدر قسوة التصريح، بقدر ما يكتشف القارئ أن حمدان بنى كل ذلك على أساس متهالك: خمسمائة رواية قرأها في شبابه… كلها من روايات الجيب، الموجّهة للأطفال والمراهقين، والمختصرة اختصارًا مخلاً لحدّ التشويه، وهنا يشعل الكاتب أول شرارة في النقاش، عندما يتساءل بدهشة:
كيف يمكن لعالِم في حجم جمال حمدان أن يبني تصورًا معرفيًا عن الأدب العالمي اعتمادًا على نصوص مختصرة، لا تمت بصلة للأعمال الأصلية؟، وهل يمكن لمن قرأ ملخصًا بائسًا لرواية مثل «مائة عام من العزلة»، أو «آنا كارنينا»، أو «البؤساء»، أن يكوّن حكمًا على تولستوي أو هوغو أو ماركيز؟
يعترف حمدان في الحوار بأن تلك التصورات «صبيانية»، وأنها من «فترة التلمذة»، لكنه يعود، وهو في السادسة والخمسين، ليصف الأدب بأنه مجرد “ترف عقلي”، وأن دوره هامشي على «جانب الحياة»، ويضيف تشبيهًا بدا للكاتب جارحًا حين قال إن الأدباء الكبار «تسلّقوا ترام العالمية في غفلة من الزمن».
هنا تبدأ المعادلة المختلة
يرى عبد الوهاب داود أن المشكلة ليست في رأي جمال حمدان، فلكل مفكر الحق في رؤية مختلفة، لكن المشكلة تكمن في خطأ المنهج: أن يُصدر عالم كبير حكمًا حاسمًا على مجال لا يعرفه، بل ولم يمنحه فرصة ثانية لتصحيح الانطباعات الأولى.
فالعالِم الذي صنع واحدة من أعمق الدراسات عن عبقرية المكان في مصر، والذي أدرك قيمة التفاصيل الجغرافية والبشرية، بدا هنا ـ من وجهة نظر الكاتب ـ أسير قراءة مراهقة لم يراجعها لاحقًا، وظلت تتحكم في رؤيته لعقود، حتى أصبحت “معادلة فكرية مختلّة” أثّرت على حكمه على الأدب كله.
ويشير الكاتب إلى أنّ ما يؤلم في تلك التصريحات ليس قسوتها فقط، بل أنها صادرة من عقل يعرف قيمة التخصص. يعرف أن العلوم تتكامل، وأن خريطة العالم لا تُقرأ من جغرافيا الأرض وحدها، بل من جغرافيا الإنسان أيضًا، ومن حكاياته وأساطيره وإبداعاته.
الأدب.. ذاكرة الإنسانية قبل الخرائط
يتوقف عبد الوهاب داود مطولاً عند نقطة محورية: أن الأدب أقدم من العلم، وأعمق من الجغرافيا، وأرسخ من الخرائط.
فإنسان الكهوف لم يكن يرسم الحدود، لكنه كان يحكي، والحضارات لم تحفظ نفسها بالنظريات العلمية وحدها، بل بالحكايات والأساطير والملاحم.
ويرى الكاتب أن استبعاد الأدب من سياق المعرفة الإنسانية يشبه الرغبة في قراءة تاريخ البشر بلا أصواتهم، أو فهم رحلة الحضارة بلا تجاربها، أو تتبع أثر المكان بلا قصص من سكنوه.
ومن هنا، يسوق أمثلة تكشف مفارقة مؤلمة: كيف لم يرَ عالم جغرافيا مثل جمال حمدان أن نصوصًا مثل أسطورة إيزيس وأوزوريس تحتوي على معلومات تتجاوز الواقع العلمي؟، كيف لم ينتبه إلى أن «فساد الأمكنة» لصبري موسى تقدّم تحليلًا للمكان الصحراوي لا يقل ثراءً عما يقدمه بحث علمي؟
وكيف لم يلاحظ أن أعمالًا حديثة مثل «السيد من حقل السبانخ» تطرح عبر الخيال أسئلة علمية تحولت لاحقًا إلى واقع ملموس؟
الأدب ـ كما يقول الكاتب ـ ليس مجرد «أسلوب جميل»، كما قال حمدان، بل هو وعي الإنسان بذاته، ومرآته التي يرى فيها ما لا تقوله الخرائط.
تبسيط لا يليق بعالم
في الحوار، يذهب جمال حمدان إلى القول إن الفيلم السينمائي يمكنه أن يختصر رواية «الحرب والسلام» في ساعة، وإن السينما «ورثت» الأدب، وإن الصحافة سبقتها في ذلك، هنا ينفجر الكاتب غضبًا صامتًا، واصفًا هذا الرأي بأنه «تبسيط مهين»، لا يليق بعالم يعرف أن كل فن له لغته، ووسيلته، ودوره الخاص، فالرواية لا تختصر في ساعة، وما يُختَصر ليس الرواية، بل مجرد هيكلها.
والسينما ليست بديلاً عن الأدب، بل فنًا آخر له جماليات مختلفة، تمامًا كما أن الخريطة ليست بديلًا عن التاريخ، ولا الصورة الجوية بديلًا عن التحليل الميداني.
يرى الكاتب أن قول حمدان هذا أوقعه في فخّ لم يتوقعه: فخّ السطحية، الذي لم يكن من المفترض أن يقترب منه عالم مثله.
العبقري.. والإنسان
الفصل لا يهدف إلى هدم صورة جمال حمدان، بل إلى تذكير القارئ بأن العباقرة بشر، وأن العقول الكبيرة قد تزلّ، وأن العالم الذي صنع مجدًا فكريًا قد يقع في خطأ صادم خارج تخصصه، فالمكانة العلمية لا تمنع السقوط في أحكام ناقصة، ولا تلغي الحاجة إلى إعادة النظر والمراجعة.
يقدم عبد الوهاب داود جمال حمدان باعتباره واحدًا من أعظم ما أنجبت مصر، لكنه في الوقت نفسه يعتبر حديثه عن الأدب «هشًا»، و«متسرعًا»، و«لا يتناسب إطلاقًا مع حجم صاحبه».
وفي ذلك يضع الكاتب معادلة جديدة: أن احترام الرموز لا يعني تقديس كل أفكارهم، وأن النقد لا ينتقص من القيمة، بل يحررها من طبقات الصمت.
قيمـة الفصل.. وقيمة النقاش
ينتهي الفصل إلى رؤية واضحة: أن الأدب ليس ترفًا، ولا هامشًا، ولا سقط متاع، بل هو أحد الأعمدة التي قامت عليها الحضارة الإنسانية، فالحكاية هي التي بنت الوعي، ونقلت التجارب، وعبّرت عن خوف البشر ورغباتهم، وقادتهم إلى اكتشاف أنفسهم والعالم.
وما طرحه جمال حمدان في ذلك الحوار ـ كما يرى الكاتب ـ لا ينبغي السكوت عنه، ولا ينبغي تمريره بدعوى احترام العلماء.
بل يجب الوقوف عنده لأن مراجعة الكبار جزء من احترام العلم ذاته.
بهذا الفصل، يقدّم عبد الوهاب داود عملاً شجاعًا، يفتح بابًا للنقاش حول حدود التخصص، ومزالق الأحكام الجاهزة، ومخاطر أن يصدر عالم كبير فتوى فكرية دون أدوات المعرفة الكاملة.
ويمنح القارئ فرصة لرؤية العلاقة بين الأدب والعلم بوصفها علاقة تكامل لا خصومة، وأن العقل الذي يصنع الخرائط لا يكتمل فهمه للعالم دون أن يصغي إلى من يصنعون الحكايات.