الواقعية السياسية بين السلطة والمعارضة التونسية
تاريخ النشر: 16th, August 2024 GMT
تصدير: "لا فرق بين الاستعمار والاستحمار سوى أن الأول يأتي من الخارج، والثاني يأتي من الداخل" (المفكر علي شريعتي)
بعد صدور القائمة الأولية للمترشحين المقبولين للانتخابات الرئاسية التونسية، أعلن الناطق الرسمي باسم المحكم الإدارية عن تقدم سبعة مترشحين بطعون في قرار هيئة الانتخابات. وستظهر نتائج الطعون يوم 19 آب/ أغسطس الجاري، ثم سيُفتح يوم 22 من هذا الشهر باب الطعن أمام هيئة الانتخابات وأمام المترشحين الذين رفضت المحكمة طعونهم بصورة ابتدائية.
رغم تجريم المشرع للامتناع عن تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية، فإنّ السلطات الحاكمة قبل الثورة وبعدها تعاملت مع قرارات تلك المحكمة بنوع من الانتقائية أو اللامبالاة. فبحكم ما أشار إليه أحد الباحثين (القاضي عماد الغابري) من عدم وجود "إطار قانوني وترتيبي صريح يُنظّم شروط وإجراءات وآليات تنفيذ أحكام القضاء الإداري"، أصبح القضاء الإداري التونسي (على خلاف القضاء العدلي) يُنعت بالقضاء الذي لا تُنفّذ أحكامه. ولكنّ هذا الحكم السلبي لا يسرى على علاقة هيئة الانتخابات بأحكام القضاء الإداري، إذ لم تمتنع تلك الهيئة في الاستحقاقات الانتخابية التي أُجريت قبل "تصحيح المسار" عن تنفيذ أي قرار من قرارات المحكمة الإدارية.
وإذا ما اعتبرنا أن الالتجاء للقضاء الإداري للطعن في قرار هيئة الانتخابات هو تعبير عن ثقة المعنيين بالطعون في هذا القضاء -على الضد من مواقفهم من القضاء العدلي المتهم حسب المعارضة بالتحول إلى "قضاء تعليمات"- فإننا أيضا نستبعد أن ترفض هيئة الانتخابات الأحكام النهائية للقضاء الإداري رغم كل الشكوك المتعلقة باستقلاليتها وحياديتها وشفافية أعمالها (خاصة فيما يتعلق بفرز التزكيات وغياب أي مراقب مستقل لهذه العملية).
بصرف النظر عن طبيعة الانتقادات الكثيرة الموجهة للمسار الانتخابي برمته، فإن مجرد القبول بشروط اللعبة السياسية كما فرضتها السلطة الحاكمة يُفقد تلك الانتقادات الكثير من مصداقيتها وشرعيتها أمام الرأي العام. فأن تدخل السباق الانتخابي بمنطق التداول على السلطة أو إسقاط "تصحيح المسار" عير صناديق الاقتراع في اللحظة النهائية التي تستكمل خارطة طريقه، فإن ذلك قد يجعل منك شجاعا أمام مناصريك، ولكنه لا يعني بالضرورة أنك تتحرك بمنطق "الواقعية السياسية"
بصرف النظر عن طبيعة الانتقادات الكثيرة الموجهة للمسار الانتخابي برمته، فإن مجرد القبول بشروط اللعبة السياسية كما فرضتها السلطة الحاكمة يُفقد تلك الانتقادات الكثير من مصداقيتها وشرعيتها أمام الرأي العام. فأن تدخل السباق الانتخابي بمنطق التداول على السلطة أو إسقاط "تصحيح المسار" عير صناديق الاقتراع في اللحظة النهائية التي تستكمل خارطة طريقه، فإن ذلك قد يجعل منك شجاعا أمام مناصريك، ولكنه لا يعني بالضرورة أنك تتحرك بمنطق "الواقعية السياسية". فأية واقعية هي تلك التي تجعل المترشحين يحلمون بالتنافس مع سردية سلطوية تعتبر الصراع مع الخصوم جزءا من "حرب التحرير"، وتعتبر استهداف المعارضين ضرورة لتظهير البلاد من الخونة والعملاء والمتآمرين؟ وأية واقعية في القبول بأن تكون الهيئة المعينة من الرئيس ذات ولاية عامة على الانتخابات؟ بل أية واقعية في الحديث عن حملات انتخابية في ظل عدم وجود هيئة تعديلية ورقابية لوسائل الإعلام العمومية والخاصة (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري)، وكذلك عدم وجود أغلب الأحزاب الوازنة في الديمقراطية التمثيلية بحكم استهدافها المُمنهج من "الديمقراطية القاعدية" التي تُبشّر بنهاية زمن الأحزاب؟
إننا لم نطرح أعلاه مسألة "الواقعية السياسية" لنقد التبرير الأهم للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، ولم نطرح تلك المسألة أيضا لبيان ما تعكسه من تناقضات تخدم السلطة الحاكمة (الاعتراف بشرعية النظام القائم وشرعية الانتخابات تحت سقف دستور 2022)، ولكننا أردنا أن نبين أن واقعية المعارضة تتقابل مع واقعية أخرى هي واقعية السلطة. فالسلطة -كما ذكر الرئيس نفسه- تعتبر أن المشاركة في الانتخابات الرئاسية دون ما سبقها من استحقاقات (الاستشارة الوطنية حول التعليم، الاستفتاء على الدستور، انتخابات غرفتي البرلمان.. الخ) هو ضرب من الانتهازية أو النفاق السياسي.
ولا شك عندنا في أن السلطة الحاكمة كانت تُفضّل أن تبقى المعارضة على رفضها الاعتراف بشرعية تصحيح المسار ومؤسساته، فهذا الرفض سيجعل التقابل بينها وبين خصومها صلبا وواضحا. أما المشاركة في الانتخابات الرئاسية فإنه يعني تحويل هذا الاستحقاق من "تفويض جديد" للرئيس إلى سباق انتخابي سيُظهر بالضرورة أن "تصحيح المسار" لا يحتكر تمثيل الإرادة الشعبية، ولا يمكنه بالتالي احتكار السلطة ورفض منطق التشاركية فيها.
تبرز واقعية السلطة في قدرتها إلى حد الآن على امتصاص الصدمة التي أحدثتها مشاركة شخصيات وازنة في الانتخابات. فرغم "تحييد" الأحزاب ذات العمق الشعبي واستهداف رموزها (خاصة حركة النهضة والحزب الدستوري الحر وحراك تونس الإرادة.. الخ)، فإن مشاركة بعض الشخصيات القريبة من تلك الأحزاب سيجعل من خزاناتها الانتخابية تصطف خلفها. ولذلك اقتضت "الواقعية السياسية" للسلطة القيام ببعض "التعديلات" على القانون الانتخابي استعدادا لهذه الفرضية. فالسلطة لا تبدي أي استعداد لمغادرة مربعها الأيديولوجي الصلب الذي يعتبر أننا في "جمهورية جديدة" لا مكان فيها لرموز الحكم ووسائطه خلال "العشرية السوداء"، وأننا في "حرب تحرير وطني" لا مكان فيها للعملاء والخونة والمتآمرين (أي لا مكان فيها لأي بديل أو شريك، لأن الحكم السلبي موجّه للمعارضة بشخوصها وأجسامها الوسيطة دون استثناء).
لقد حرص الرئيس التونسي في أكثر من مناسبة على تأكيد أنه لن يُسلّم السلطة إلا للوطنيين، وإذا كان خصومه بالضرورة غير وطنيين، فإن علينا أن نبحث عن أولئك الوطنيين في معسكر "تصحيح المسار". ولكنّ الإشكال هنا يطرح في مستويين:
لا نستطيع اختزال هذا الانتصار المتوقع للرئيس في سيطرة السلطة التنفيذية على العملية الانتخابية برمتها، بل نرده إلى بؤس الواقعية السياسية للمعارضة باعتبار تلك "الواقعية" هي الملجأ الأخير للفاشلين والمشتتين والعاجزين عن التوافق حتى على الحد الأدنى للعمل المشترك. بل إننا نعتبر تلك "الواقعية" هي اللحظة النهائية في الأزمة البنيوية للعقل السياسي المعارض، وعجزه عن بناء خطاب مطابق لرهانات السياق الحالي
أولا، نحن لا نجد في هذا النظام شخصا يمكن أن نعتبره "الرجل الثاني"، كما لا نجد "الرجال الثقات" أو "الصادقين" الذين لم يشملهم العزل الدوري للعديد من المحسوبين على الرئيس ومشروعه، والذين يمكن اعتبارهم مرشحين جديين لخلافة الرئيس.
ثانيا، لا يمكن بمنطق الرئيس (هو يعتبر نفسه مكلفا برسالة وأمانة) أن نفترض تنازله عن الحكم أو تسليمه لغيره من "الوطنيين" لأن ذلك سيكون نوعا من خيانة الأمانة، ولذلك سيكون علينا أن نعدل جزئيا في الجملة السياسية للرئيس لنتحدث عن "توريث السلطة" في مشروع تصحيح المسار لا تسليمها. فالرئيس سيبقى في الحكم -ما دام قادرا ذهنيا وصحيا- على ذلك، ولا معنى للتداول على السلطة في "الجمهورية الجديدة" بوجود صاحب المشروع ذاته. ذلك أن التفويض الشعبي نهائي ومطلق؛ لأنه يمثل إرادة غير متلاعب بها ومسنودة بتكليف إلهي لإصلاح عمل المفسدين (أي عمل كل السلطات السابقة في "العشرية السوداء" وقبلها).
يبدو أن انتصار واقعية السلطة على واقعية المعارضة هو الافتراض الأرجح مهما كانت الأحكام النهائية لمحكمة التعقيب. ونحن لا نستطيع اختزال هذا الانتصار المتوقع للرئيس في سيطرة السلطة التنفيذية على العملية الانتخابية برمتها، بل نرده إلى بؤس الواقعية السياسية للمعارضة باعتبار تلك "الواقعية" هي الملجأ الأخير للفاشلين والمشتتين والعاجزين عن التوافق حتى على الحد الأدنى للعمل المشترك. بل إننا نعتبر تلك "الواقعية" هي اللحظة النهائية في الأزمة البنيوية للعقل السياسي المعارض، وعجزه عن بناء خطاب مطابق لرهانات السياق الحالي. وهو ما يعني أننا لا نتفق مع المعارضة في قولها بأن قوة الرئيس ترجع إلى سيطرته على أجهزة الدولة (خاصة القوى الصلبة)، بل إننا نرى أن قوة الرئيس تعود أساسا إلى ضعف المعارضة، بل ضعف كل الأجسام الوسيطة الذي يعكس هشاشة الانتقال الديمقراطي وبؤس النخب التي تحكمت في مساراته ومخرجاته ومآلاته الحالية.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية الانتخابات المعارضة الديمقراطية مرشحين تونس المعارضة انتخابات الديمقراطية مرشحين مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الواقعیة السیاسیة هیئة الانتخابات القضاء الإداری السلطة الحاکمة فی الانتخابات تصحیح المسار
إقرأ أيضاً:
بين التجويع المنهجي والعقوبات الأوروبية.. كيف غيرت مأساة غزة الخريطة السياسية؟
تشهد الساحة الدولية تحولات جذرية في التعامل مع الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، حيث تسببت صور المجاعة والتجويع المنهجي في إحداث صدمة للضمير العالمي أجبرت الحكومات على إعادة النظر في مواقفها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ويمثل هذا التطور الذي وصفه رئيس شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة أمجد الشوا بأنه "إنذار حقيقي للمجتمع الدولي"، تحركا لم يقتصر تأثيره على الشارع الشعبي، بل امتد ليطال أروقة صنع القرار في العواصم الأوروبية والأميركية.
وفي تحذير جديد من عواقب كارثية للمجاعة في القطاع، قال مرصد عالمي للجوع إن السيناريو الأسوأ لحدوث مجاعة يلوح في الأفق حاليا في القطاع.
وأكد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في العالم، أن الأدلة المتزايدة تشير إلى أن انتشار الجوع وسوء التغذية والأمراض تسهم في ارتفاع الوفيات المرتبطة بالجوع.
ويضيف التحذير أن أحدث البيانات تشير إلى أن استهلاك الغذاء بلغ حد المجاعة لدى المواطنين في أنحاء قطاع غزة، وأن سوء التغذية الحاد يتركز في مدينة غزة.
ويكشف الوضع الراهن عن إستراتيجية تجويع ممنهجة بدأت منذ اللحظات الأولى للعدوان، كما يوضح الشوا الذي يشير إلى أن الاحتلال الإسرائيلي قام بحساب السعرات الحرارية والكميات التي تدخل إلى القطاع، ونفذ تدميرا ممنهجا للبنى الاقتصادية والاجتماعية لزيادة اعتمادية السكان على المساعدات.
ووصف هذه السياسة خبراء إسرائيليون أنفسهم بأنها الأكثر منهجية وتنظيما منذ الحرب العالمية الثانية، وقد تركت آثارا عميقة على النخب الإسرائيلية ذاتها.
حراك ضد نتنياهو
وفي هذا السياق، يشهد المجتمع الإسرائيلي حراكا متزايدا ضد سياسات حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية، حيث يؤكد الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور مهند مصطفى أن أكاديميين وفنانين وأدباء إسرائيليين بدؤوا يشاهدون كيف تغرق إسرائيل في وحل أخلاقي سيرافقها لعشرات السنوات.
إعلانوتجسد هذا الحراك في بيانات من 5 جامعات إسرائيلية ومطالبات بحل مشكلة قطاع غزة، مما يعكس قلقا متزايدا من انهيار الصورة الدولية لإسرائيل التي كانت تعتبر نفسها ضحية وممثلة للهولوكوست اليهودي.
وبينما يتصاعد الضغط الداخلي الإسرائيلي، تشهد الساحة الأوروبية تحركات جدية نحو فرض عقوبات على إسرائيل، كما يوضح أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنيف الدكتور حسني عبيدي أن أوروبا بدأت تقود حملة داخل الاتحاد الأوروبي لتعليق الاتفاقيات التجارية والتعاون العلمي مع إسرائيل.
ويحمل هذا التهديد بالعقوبات الأوروبية تأثيرا مضاعفا على إسرائيل، نظرا لأن البحث العلمي والتطوير الإسرائيلي مبني بالكامل على العلاقة العلمية مع الاتحاد الأوروبي، كما يشرح مصطفى، حيث إن التلويح بقطع هذا التعاون يعني انهيار عملية البحث العلمي والتطوير في إسرائيل نهائيا، مما يفسر الحراك الأكاديمي الإسرائيلي المتزايد ضد سياسات الحكومة.
وفي وقت سابق، قررت هولندا منع وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش من دخول أراضيها.
وكان وزير الخارجية الهولندي كاسبر فيلدكامب قد أعلن أمس، في رسالة وجهها إلى البرلمان أن الوزيرين لن يتمكنا من دخول هولندا بسبب تحريضهما على العنف ضد الفلسطينيين ودعوتهما إلى توسيع المستوطنات غير الشرعية، ودعواتهما كذلك إلى التطهير العرقي في قطاع غزة.
وعلى الصعيد السياسي، يشهد ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية تطورات مهمة، بدءا من الموقف الفرنسي وصولا إلى التصريحات البريطانية الأخيرة.
حيث أعلن رئيس الوزراء الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن بلاده ستعترف رسميا بالدولة الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، وهو نفس القرار الذي أعلن عنه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي ربطه بشرط عدم اتخاذ الحكومة الإسرائيلية خطوات جوهرية لإنهاء الوضع "المروع" في غزة.
بَيد أن النائبة السابقة في البرلمان البريطاني كلوديا ويب تنتقد بشدة ربط الاعتراف بشروط، معتبرة أن الدولة الفلسطينية حق لا يمكن إنكاره وليس وسيلة للمقايضة والمساومة مع إسرائيل.
تنامي الضغوط الشعبية
وتأتي هذه التطورات في ظل تنامي الضغوط الشعبية في الدول الأوروبية، حيث تشير ويب إلى أن الشعب البريطاني يخرج في مظاهرات كل يوم وفي كل عطلة نهاية أسبوع دفاعا عن فلسطين، لأن الناس لم يعودوا يتحملون رؤية هذه الفظائع تحدث أمام أعينهم يوميا.
وهو نفس الضغط الشعبي الذي يلاحظه عبيدي في جميع أنحاء أوروبا، لافتا إلى أنه بدأ يؤثر على قرارات المفوضية الأوروبية وحكومات القارة.
ورغم هذه التطورات الإيجابية، يبقى التحدي الأكبر في تحويل هذه المواقف إلى إجراءات فعلية على الأرض، حيث يؤكد الشوا أن الشعب الفلسطيني لن يفقد الأمل مهما حدث.
ولكنه يشدد على ضرورة أن تتحول هذه المواقف إلى إجراءات وتدابير حقيقية وليس فقط ربطها ببعض الأمور الإنسانية، مطالبا بمسار سياسي حقيقي لوقف العدوان وإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.