هل تطمح «الدعم السريع» لأن تكون جيش السودان؟
تاريخ النشر: 30th, August 2024 GMT
هل تطمح «الدعم السريع» لأن تكون جيش السودان؟
عثمان ميرغني
مَن يريد أن يعرف كيف تفكر قيادات «الدعم السريع» بشأن مستقبلها ومستقبل قواتها عليه أن يتمعن فى تصريحات رئيس وفدها إلى محادثات جنيف الأخيرة، عمر حمدان، لهذه الصحيفة (٢٥ أغسطس ٢٠٢٤)، وبشكل خاص الجزء المتعلق بمسألة الإصلاح الأمنى والعسكرى، فهذا الموضوع يدخل فى لُب الصراع الدائر، وكان ولا يزال من بين أهم القضايا المثارة بشأن أى ترتيبات لمرحلة انتقالية تنظم الوضع السياسى، وتضبط ظاهرة تعدد الجيوش وانفلات السلاح من خلال عملية الدمج فى القوات المسلحة النظامية، بما يقود إلى جيش مهنى موحد يركز على مهامه الأساسية فى حماية حدود الوطن، وينأى عن السياسة التى حرفته وشغلته عن مهماته الأساسية.
عندما سُئل الرجل عن إمكانية العودة إلى وثيقة الاتفاق الإطارى، التى كانت محور الكثير من النقاشات والجدل قبل اندلاع الحرب، قال إنه بعد مرور ١٦ شهرًا على الحرب، «تصعب العودة إلى الاتفاق الإطارى لأنه يتحدث حول قضايا محددة، منها الإصلاح الأمنى والعسكرى، والآن لا يمكن إصلاح مؤسسة مختطفة». وشدد على هذا الموقف بأن أضاف قائلًا: «لا يمكن أن نعود إلى إصلاح مثل هذه المؤسسة، وهذا يعنى إعادة الحرب فى السودان».
تفكيك هذا الكلام يقودنا إلى فهم طريقة تفكير «الدعم السريع» سواء فى الفترة التى سبقت اندلاع الحرب، وما بعدها وحتى هذه اللحظة، فقيادات «الدعم السريع»، بعد أن تضخمت وتمدّدت وكبرت طموحاتها، بدأت تحلم بأنها يمكن أن تحل محل الجيش السودانى، ودعمتها فى هذا التفكير أطراف فى القوى السياسية تحدثت فى فترة من الفترات عن أن «الدعم السريع» يمكن أن تصبح نواة الجيش الجديد، عبر مشروع «الدمج» وإعادة الهيكلة.
وفق هذه الرؤية، أيّدت قيادة «الدعم السريع» الاتفاق الإطارى فى الفترة التى سبقت الحرب، لكنها كانت تريده بالطريقة التى تحقق لها مشروعها وطموحاتها فى السيطرة على البلد. واليوم، بعد أن تمدّدت قواتها فى رقعة كبيرة من البلاد من خلال الحرب، لم تعد ترى فائدة فى العودة إلى «الإطارى»، الذى كان يعدها تابعة للجيش، وينص على دمجها فى القوات المسلحة. وكما قال العميد عمر حمدان، فإن الاتفاق يتحدث عن الإصلاح الأمنى والعسكرى، وهم لا يريدون الآن العودة إلى مسألة إصلاح الجيش.
يُستنتج من هذا الكلام أنه مادام الإصلاح غير وارد فى نظرهم، فإن الحل هو تفكيك الجيش، وأن تصبح «قوات الدعم السريع» هى البديل، أو هى النواة، لجيش جديد يكون تحت سيطرتها وقيادتها.
ليس سرًّا أن قيادة «الدعم السريع» كانت فى الفترة السابقة للحرب تريد توجيه الاتفاق الإطارى وفق رؤيتها فيما يتعلق بمسألتى الدمج وإصلاح القوات المسلحة، فقد ساومت، وماطلت فى مسألة الجدول الزمنى للدمج، وقدّمت مقترحات خيالية تريد إفراغ الدمج من مضمونه بجعله يتم فى غضون عشرين عامًا، خُفضت إلى نحو عشرة أعوام فى سياق المفاوضات، وفق ما ذُكر حينها فى التصريحات والتسريبات الكثيرة التى طغت على الأجواء المتوترة. فى المقابل كان الجيش يصر على تنفيذ الدمج فى أقرب الآجال وفى إطار زمنى لا يتجاوز خمس سنوات.
قيادة «الدعم السريع» لم تكن قط فى وارد التفريط فى السيطرة على قواتها التى تراها مصدر نفوذها وبوابة طموحاتها وثروتها، وبالتالى فإن الاتفاق الإطارى كان ورقة مرحلية لشراء الوقت، وبناء المزيد من عناصر القوة والحشد وصولًا إلى اللحظة المناسبة للسيطرة على البلد سواء عبر التحالفات السياسية والاجتماعية مقرونة بالنفوذ المالى والعسكرى، أو من خلال بوابة الانقلابات، التى كانت دائمًا مشرعة فى السودان.
بعد أن انفجرت الحرب، من دون الخوض هنا فى جدل مَن أشعلها، باتت قيادة «الدعم السريع» ترى أنها يمكن أن تحقق مشروعها عبر القوة الخشنة، المدعومة من أطراف خارجية، فمنذ اللحظات الأولى للحرب، حاولت هذه القوات أسر أو تصفية قيادات الجيش، وفى مقدمتها الفريق عبدالفتاح البرهان، وهو أمر كان يعنى وضع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتى) فى مقعد إدارة دفة الأمور عبر رئاسة مجلس السيادة والتحالفات التى كوّنها فى الداخل والخارج، أو بانقلاب عسكرى صريح. بعد فشل تلك المرحلة، تراهن «قوات الدعم السريع» الآن على أنها تستطيع حسم المعركة عسكريًّا «وتحرير ما تبقى من أرض البلاد»، على حد تعبير قادتها. لكنها مثلما ظلت تصطدم بعقبة الجيش، الذى لم ينكسر وظل يقاتل، فإنها ربما لم تستوعب تمامًا أنها وضعت بينها وبين أكثرية الشعب السودانى حاجزًا نفسيًّا كبيرًا من شأنه أن يُربك كل حساباتها.
الوسومالإصلاح الاتفاق الإطاري الجيش الدعم السريع بديلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الإصلاح الاتفاق الإطاري الجيش الدعم السريع بديل
إقرأ أيضاً:
حين يصير الموت مزدوجًا.. الكوليرا تُكمل ما بدأته الحرب في السودان
في زمنٍ تتداخل فيه رياح الحرب مع رياح المرض، يتحول السودان إلى ساحةٍ مفتوحة لأزمات مزدوجة تنهش جسد الوطن المتهالك. فبينما تتصاعد المعارك في المدن الكبرى، وتُقصف المستشفيات وتُستهدف الأحياء المدنية، يتفشى وباء الكوليرا كضيف ثقيل في وطن لا يقوى على استضافة الأوبئة.
وفي ظل البنية الصحية المنهارة والدمار الذي طال المرافق الطبية، يجد الأطباء أنفسهم في سباق يائس مع الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فكيف تسير خارطة انتشار الكوليرا؟ وما أبرز التحديات التي تواجه جهود احتوائه في قلب المعارك؟ هذا التقرير يرصد التفاصيل الدقيقة للوضع الميداني والصحي في السودان، في لحظة مفصلية من تاريخه الحديث.
تشهد ولاية شمال كردفان، وتحديدًا مدينة الأبيض، تصعيدًا عسكريًا خطيرًا بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حيث اندلعت معارك ضارية في محاور مختلفة من إقليم كردفان الكبرى، الذي يضم ولايتي شمال وجنوب كردفان. ووفقًا لمصادر عسكرية ميدانية، فإن قوات الدعم السريع تمكنت من استعادة السيطرة على عدد من المدن الاستراتيجية، بعد أن كانت تحت سيطرة الجيش السوداني.
وتُعد مدينة الخوي من أبرز المناطق المتنازع عليها، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية كمفترق طرق حيوي. غير أن أخطر تطور ميداني وقع في مدينة الأبيض، حيث قصفت قوات الدعم السريع مستشفيين رئيسيين هما مستشفى الضمان والسلاح الطبي، ما أدى إلى دمار واسع وخسائر بشرية، من بينهم كوادر طبية وعاملون في القطاع الصحي.
كما استخدمت قوات الدعم السريع طائرات مسيّرة لاستهداف منشآت مدنية، من بينها محطة الكهرباء، ما تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن أجزاء واسعة من المدينة. وأعلنت إدارة مستشفى الضمان تعليق العمل وإغلاق أبواب المستشفى لمدة أسبوعين بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت به جراء القصف، وسط تحذيرات من تفاقم الوضع الإنساني والصحي.
انتشار وباء الكوليرا وسط انهيار المنظومة الصحيةفي موازاة التصعيد العسكري، يواجه السودان كارثة صحية متفاقمة بسبب تفشي وباء الكوليرا، الذي استشرى في عدة ولايات بشكل يهدد بكارثة إنسانية وصحية كبرى. وبحسب اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، فقد تم تسجيل أكثر من 1540 حالة وفاة خلال ثلاثة أيام فقط في ولاية الخرطوم وأم درمان، في رقم صادم يعكس عمق الأزمة.
وأكد المتحدث باسم اللجنة، الدكتور سيد محمد عبد الله، أن هناك مخاوف جدية من انهيار المنظومة الصحية بشكل كامل، خاصة في ظل توقف العمل في نحو 45% من المنشآت الصحية، وتدمير أو تعطل 80% من المستشفيات بسبب الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين.
كما سُجلت 91 حالة إصابة بالكوليرا في مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور، من بينها 10 وفيات مؤكدة، بينما تم نقل 26 حالة إلى مراكز العزل الصحي. وتشير البيانات المتوفرة حتى الآن إلى انتشار المرض في ما لا يقل عن 7 ولايات سودانية، وسط غياب كامل للبنية التحتية الصحية، ونقص شديد في الأدوية والمحاليل الوريدية ومستلزمات العزل.
ويعاني الأطفال بشكل خاص من هذا التفشي، في ظل عدم توفر حملات تطعيم، وتردي خدمات الإصحاح البيئي، وعدم انتظام إمدادات المياه النظيفة.
تحديات الاستجابة المحلية والمناشدات الدوليةتُعد الكوليرا مرضًا يمكن السيطرة عليه نسبيًا في حال توفر نظام صحي فعّال ومياه نظيفة، غير أن الحالة في السودان تختلف تمامًا. فمع غياب السلطة المركزية القادرة على تنسيق الجهود، وتهدم المؤسسات الصحية، وانتشار النزوح الجماعي داخل المدن وخارجها، تبدو محاولات السيطرة على الوباء غير كافية.
وقد ناشدت نقابة أطباء السودان وناشطون في المجال الإنساني المجتمع الدولي للتدخل العاجل، وعلى رأسهم منظمة الصحة العالمية، لتوفير الإمدادات الطبية اللازمة، وتنسيق حملات تطهير المياه، وتوزيع محاليل الإماهة الفموية ومضادات العدوى.
ويُعد توفر مراكز العزل المناسبة وتدريب الكوادر الصحية من أبرز الأولويات، إلى جانب دعم المناطق المتضررة بمولدات كهرباء ووسائل نقل إسعافي، خاصة بعد استهداف محطات الكهرباء والمرافق الحيوية.
وفي خضم صراع دموي طاحن بين قوات متنازعة، ينبثق وباء الكوليرا كعدو خفي لا يقل فتكًا عن الرصاص، متسللًا إلى أزقة المدن وبيوت النازحين ومراكز الإيواء. وبين القصف والعطش، وبين الجوع والمرض، يختنق المواطن السوداني بحلقات متشابكة من المعاناة. إنّ ما يحدث اليوم في السودان ليس مجرد أزمة صحية أو صراع مسلح، بل مأساة وطنية شاملة تستوجب استجابة دولية عاجلة، قبل أن تتحول البلاد إلى مقبرة جماعية للصحة والحياة معًا.