زهير عثمان

منذ قرون، شهدت دولة سنار القديمة صراعًا بين العرب وقبائل الفونج على السلطة والنفوذ، في محاولة لتحديد هوية وسيادة تلك المنطقة. ورغم التحالفات التي تشكّلت حينها، بقيت الانقسامات العرقية والقبلية تلقي بظلالها على تلك الفترة. واليوم، يُعيد السودان الحديث إنتاج تلك التوترات والصراعات، حيث تتشابك النزاعات على الهوية والسلطة، وتجددها في سياق مختلف لكنه يحمل نفس الأسئلة حول التوزيع العادل للسلطة والموارد.

يبدو أن الفشل في بناء دولة قومية تتجاوز هذه الانقسامات التاريخية ما زال ينعكس في المشهد السياسي الراهن، مما يضع المثقفين والكتاب السودانيين أمام تحديات جديدة لتفسير وتجاوز هذا الإرث الثقيل.
نقد الأصوات التي تهاجم الكتاب والمثقفين السودانيين دون نظرة نقدية للسياق التاريخي
تظهر في المشهد الأدبي والفكري السوداني بعض الأصوات التي توجه انتقادات حادة للكتاب والمثقفين السودانيين، متهمةً إياهم بالتكرار والمحدودية في الإنتاج الفكري. لكن هذه الانتقادات غالبًا ما تفتقر إلى رؤية نقدية شاملة تأخذ في الحسبان السياق التاريخي، الثقافي والاجتماعي، الذي يمر به السودان. بدلاً من تحليل التحديات التي تواجه العقل السوداني، تستند هذه الأصوات إلى أحكام سطحية دون دراسة عميقة لمسار الإبداع السوداني عبر الزمن.

إغفال السياق التاريخي والثقافي
من أكبر الأخطاء التي تقع فيها هذه الانتقادات هو تجاهل السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الثقافة السودانية. فقد عانى السودان من استعمار، أزمات سياسية، وحروب أهلية، مما أثر على الإنتاج الفكري بشكل طبيعي. ومع ذلك، نجح السودانيون في إنتاج مفكرين وأدباء تركوا بصمات عميقة في الثقافة العربية والإسلامية. الهجوم على المثقفين دون الاعتراف بهذا السياق يُظهر عدم إدراك للعوامل التي أثرت على تطور الفكر السوداني.

التقليل من الإبداع السوداني
رغم الظروف الصعبة، السودان غني بمفكرين ساهموا في تشكيل الفكر العربي والإسلامي والعالمي. مثلًا، محمود محمد طه كان رمزًا للفكر التجديدي في الإسلام، ودعا إلى المساواة والعدالة الاجتماعية. طه قدّم قراءة جديدة للتفسير الإسلامي تستند إلى رؤيته للحداثة والعدالة، وهي رؤية ما زالت تثير الجدل والنقاش حتى اليوم.

كذلك، الأديب عبد الله الطيب لم يكن مجرد كاتب بل ناقد أدبي مبدع، وكتابه "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها" يعتبر عملًا مهمًا في فهم الأدب العربي من منظور نقدي عميق. الصادق المهدي، السياسي والمفكر الإسلامي، جمع بين التحليل الفكري والعمل السياسي، وقدّم رؤى نقدية تتناول قضايا الفكر والسياسة من منظور معاصر.

نقص النقد البناء للعقل السوداني
ما تفتقده هذه الأصوات هو النقد البناء الذي يسعى لتحليل العقل السوداني وتطوره عبر التاريخ. لا يمكن الحديث عن "محدودية الفكر" دون الإشارة إلى المفكرين السودانيين مثل حيدر إبراهيم علي، الذي ركّز على دراسة المجتمع السوداني وتحليل التغيرات الاجتماعية والسياسية بعمق، ومحمد أبو القاسم حاج حمد الذي قدم أطروحات فكرية حول الفكر الإسلامي والتجديد. حاج حمد لم يكن ينطلق من ملاحظات سطحية بل من تحليل تاريخي ونقدي عميق للفكر الإسلامي وأثره في الواقع المعاصر.

الانفصال عن الواقع الثقافي المعاصر
تظهر العديد من هذه الانتقادات وكأنها منفصلة عن الواقع الثقافي السوداني الحالي. في حين أن الساحة السودانية تعاني من تحديات، هناك جهود حقيقية من المثقفين والمفكرين السودانيين لاستكشاف قضايا الهوية والثقافة في ظل المتغيرات العالمية. النور حمد في كتابه "تشريح بنية العقل الرعوي" يقدم نقدًا عميقًا للثقافة السودانية وتأثيراتها الرعوية على المجتمع السوداني، في محاولة منه لقراءة هذا التأثير في ضوء الحضارة الحديثة.

إسهامات الفكر الشيوعي والنقدي
لا يمكن الحديث عن الفكر السوداني دون الإشارة إلى محمد إبراهيم نقد، الذي كان زعيمًا سياسيًا وأحد أبرز المفكرين السودانيين في قضايا الديمقراطية والعلمانية. كتبه مثل "قضايا الديمقراطية في السودان" و"حوار حول النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" تقدم تحليلات دقيقة لقضايا الفكر السياسي والاجتماعي في السودان، مما يجعله واحدًا من المفكرين البارزين الذين ساهموا في إثراء النقاش حول التحديث والديمقراطية.

من الإجحاف أن يتم وصف الإبداع والإنتاج الفكري السوداني بالمحدودية أو التكرار. السودان غني بالمفكرين الذين أثروا الفكر والثقافة السودانية بشكل كبير، رغم التحديات التاريخية والاجتماعية. الأسماء البارزة مثل محمود محمد طه، عبد الله الطيب، الصادق المهدي، حيدر إبراهيم علي، محمد أبو القاسم حاج حمد، النور حمد، ومحمد إبراهيم نقد، تقدم أدلة قوية على أن الإنتاج الفكري السوداني ليس مجرد تكرار للأفكار، بل هو نتاج سياق تاريخي معقد وأسئلة فلسفية عميقة.

الإبداع الفكري والأدبي في السودان يشتمل على تنوع كبير من الأفكار والرؤى التي تغطي مجالات الفكر الديني، النقد الأدبي، السياسة، والاجتماع. من هنا، لا يمكن النظر إلى الإنتاج الفكري السوداني بمعزل عن السياقات الثقافية والتاريخية التي مر بها السودان. هؤلاء المفكرون يمثلون إشراقات ينبغي الاعتراف بها ودعمها، لأنهم قدموا إسهامات لها تأثير كبير في فهم المجتمع السوداني وتطوير فكره وحضارته. الحديث عن "محدودية الفكر السوداني" يتجاهل هذه الإسهامات الكبيرة ويختزل تجربة فكرية غنية ومعقدة في أحكام سطحية لا تستند إلى رؤية نقدية شاملة.

في النهاية، المطلوب ليس التبسيط والتعميم، بل فهم السياق الكامل الذي نشأ فيه هذا الفكر السوداني العميق والمتنوع، وتقدير الإسهامات التي قدمها المثقفون السودانيون للنقاش الفكري العربي والعالمي.
و يجب علينا أن نعيد تقييم تاريخنا الفكري ونُقدّر عطاء أبناء السودان منذ الاستقلال حتى اليوم. هذا التاريخ ليس مجرد سجل للأحداث، بل هو سجل للإبداع والفكر والعقل الذي يعكس همومنا الوطنية وتطلعاتنا للمستقبل. من خلال تقدير أعمال هؤلاء المفكرين والمثقفين، يمكننا فهم مدى تأثيرهم على تشكيل الهوية الوطنية والتعامل مع التحديات الراهنة. إن مراجعة وتقدير الإسهامات الفكرية السودانية هي خطوة ضرورية نحو بناء مستقبل يعترف بقيم العقلانية والإبداع التي قدمها أبناء السودان، ويعمل على تعزيز تلك القيم في سياقنا المعاصر.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإنتاج الفکری الفکر السودانی فی السودان

إقرأ أيضاً:

ذعادل الباز يكتب: الرباعية في خبر كان… لماذا؟ (2/2)

فيما أرى

عادل الباز

الرباعية في خبر كان… لماذا؟ (2/2)

1

في نهاية الحلقة الأولى من هذا المقال، تساءلت: لماذا تصر أبوظبي على إبعاد الجيش من الفترة الانتقالية؟ ولماذا استماتت في حشر موضوع حكومة “تأسيس” في بيان الرباعية في واشنطن، لدرجة أنها تتجشم عناء مواجهة مصر والسعودية في هذا الملف، وللدرجة التي نسفت معها الرباعية؟

2

تعتقد حكومة أبوظبي أن الجيش يسيطر عليه الإسلاميون الذين تطاردهم بلا غبينة، وبقاء الجيش في المشهد يعني استمرار تأثير الإسلاميين على أي وضع سياسي قادم، فحتى لو نجحت في إعادة استزراع عملائها في سدة الحكم، فإن الأوضاع لن تستتب لهم!!

إبعاد الجيش من الحكم يمكنها من إضعاف البلاد بصورة عامة، وقد يساعد في تفككها، وبذا يسهل السيطرة عليها. تعتقد أبوظبي أن إبعاد الجيش عن الحكومة يتيح للمليشيات أن تنمو من جديد وتسيطر على أجزاء من البلاد، ريثما تستعيد قوتها لتنقض مرة أخرى على المركز.

إذا نجح مشروع “إبعاد الجيش”، وتحولت قوات الدعم السريع إلى واجهة سياسية معترف بها، فإن السودان سيذهب إلى سيناريو يمني بامتياز:

ميليشيا – نفوذ أجنبي – فراغ دستوري – تقسيم فعلي. الإصرار على إبعاد الجيش من المرحلة الانتقالية، وفرض واقع مزدوج لحكم البلاد، ليس سوى نسخة كربونية من الخطة اليمنية: إضعاف الجيش، تمكين المليشيا، ثم إغراق الدولة في انقسامات لا نهائية.

في اليمن، كان سقوط الجيش بوابة سقوط الدولة. وفي السودان، يريد البعض إسقاط الجيش كي يسقط السودان. لكن ما لم يدركوه هو أن التاريخ لا يُستنسخ بالذكاء الاصطناعي… فالسودانيون ما زالوا يحملون جينات المقاومة التي اسقطوا بها امبراطوريات كانت لاتغيب عنها الشمس. الجيش السوداني صمد أمام مشروع الاسقاط والتفكيك، الآن بعد أن فشل الدعم السريع في الحسم العسكري، جاء وقت الخداع السياسي، عبر حيلة “حكومة تأسيس” التي يُراد لها أن تصبح غطاءً سياسياً للميليشيا يُراد لقوات الدعم السريع أن تستلم الدولة بصيغة تصوغها أبوظبي ويصادق عليها الغافلون أو المتواطئون.

3

أما لماذا تصر أبوظبي على نفخ الروح في جثة اللقيطة أو حكومة “تأسيس”، فلقد قدم د. أمجد فريد إفادة جيدة تجيب على بعض من هذا السؤال، حين قال في مقال له أمس: (موقف الإمارات هذا هو محاولة لإضفاء طابع رسمي على الدعم السريع، لتُقدَّم في المحافل الدولية كحكومة، لا كمليشيا، والهدف أن تتحول الحرب من صراع بين حكومة شرعية ومتمردين إلى نزاع بين “حكومتين”، فتجلس قوات الدعم السريع لاحقًا على طاولة المفاوضات كطرف مساوٍ).

ويمكنني أن أضيف: إذا نجحت أبوظبي في تسويق حكومة “تأسيس”، فمن شأن ذلك أن يفرض وجوداً للميليشيات في الساحة السياسية بدون “كدمول”… وهذه الخطوة مهمة، لأنها في ظل المناخ الدولى الحالى ، لا أحد سيقبل المليشيا التي دمغت بـ”الإبادة” و”جرائم الحرب” على رأس أي سلطة مدنية أو عسكرية أو أسرية.

فأبوظبي تحتاج لموطئ قدم في الحكم في المستقبل القريب، أي في الفترة الانتقالية، لهندسة المشهد سياسيًا بالداخل باستخدام المال السياسي، التكتيك الذي اتبعته في تونس، فأطاحت بحكومة الثورة، وجاءت بحكومة تابعة لها (قيس سعيد).

أبوظبي تدرك أن حلفاءها في “صمود” من الوهن السياسي وخفة الوزن، بحيث لن يستطيعوا خدمة أجندتها أياً كانت، سواء في محاربة الإسلاميين أو نهب الموارد، فالأصلح لهذه المهمة هم “الجنجويد”، فهم أساتذة في “الشفشفة” وقتلة محترفون، وهم أقدر وأنسب لتنفيذ أجندة أبوظبي كاملة، بعد خلع الكدمول ولبس البدلة تحت مظلة حكومة وهمية، هي مظلة “تأسيس”، ولذا هي حريصة على وضع “تأسيس” في البيان، لتكسبها شرعية دولية باكرة، ولكن لا يحيق المكر السوء إلا بأهله، فإذا بالعالم كله يرفض الاعتراف بالحكومة اللقيطة، لتموت في مخدعها قبل أن تتنفس.

4

السؤال الأول الذي طرحناه في مقدمة هذا المقال، يمكن طرحه بذات الصياغة على الموقف المصري: لماذا تقف مصر مع الجيش السوداني؟ ما مصلحتها؟

مصر تعلم أن المليشيا لا يمكن أن تحكم دولة، ومن تجربتها مع الجيش السوداني، أن وحده قادر على صنع الاستقرار، وذلك عبر التاريخ، ومنذ الاستقلال وما قبله، لم تؤتَ مصر من الجنوب، وظلت حدودها الجنوبية آمنة تمامًا، بل هي، في لحظات الخطر، أصبح السودان هو ظهرها الذي تتكئ عليه.

وهذا الجيش، الذي تقف مصر مدافعة عن حقه في الوجود، مؤسَّسٌ وطنيًّا، هو ذات الجيش الذي قاتل جنوده كتفًا بكتف مع الجيش المصري في كل حروبه عبر التاريخ.

تدرك مصر أنها إذا تركت حدودها الجنوبية نهبًا للمليشيات والدول التي تدعمها، فإن أمنها القومي سيصبح في مهب الريح، إسرائيل التي تتربص بها، رغم اتفاقات السلام، ستكون في خاصرتها، أضف إلى الفوضى في ليبيا، لتكون مصر بذلك في دائرة اللهب: فإسرائيل فوقها، وتحتها، وبالجنب.

5

تُراهن الإمارات على منطق النفوذ السريع والمال السياسي، بينما تراهن مصر على منطق الاستقرار التاريخي وشبكات الأمن القومي المتجذرة.الصراع هنا ليس فقط على السودان، بل على من يقود الإقليم في هندسة ما بعد الفوضى.

الرباعية التي لم تنعقد، كانت أصدق من كل البيانات. فقد قالت بانسحابها، إن التزوير السياسي لا يُفرض بالمال، وإن الخرائط تُرسم بالتاريخ لا بالشيكات.

6

مصر تقف هذا الموقف ليس دفاعًا عن السودان وجيشه فحسب، إنما دفاعًا عن نفسها، وريادتها، وأمنها، وهي في ذلك قد تخسر الإمارات، الحليف الداعم بالمليارات، والمستثمر الأول، ولكن كل ذلك لا يمكن أن تقايضه مصر بتاريخها، وخاصة أن “الطارئين على التاريخ” يحاولون أن يغيروا مجراه بفلوسهم، لكن الأموال لا تشتري تاريخًا، قد تصنع واقعًا مزيفًا تتسيده أوهام القوة وأحلام السيطرة والنفوذ، لكن لا تمنحها جذورًا في أرض لم تعرف لها يومًا ظلاً ولا انتماء.

الإماراتالجيش السودانيالرباعية

مقالات مشابهة

  • الرباعية في خبر كان… لماذا؟ (2/2)
  • إزالة “741” مقذوفا من مخلفات الحرب بولاية في وسط السودان
  • السوداني يوجه بإزالة جميع المعوقات التي تعترض مشاريع الطاقة
  • الزراعة النيابية:السوداني غير مكترث بالجفاف الذي يحصل في العراق
  • ذعادل الباز يكتب: الرباعية في خبر كان… لماذا؟ (2/2)
  • الرباعية في خبر كان… لماذا؟
  • لماذا يريد الغرب تعميم نموذجه الفكري والسياسي؟
  • الهادي آدم.. الشاعر السوداني الذي كتب لفلسطين و غنت له أم كلثوم
  • رحلة جديدة.. القطار الثاني يغادر القاهرة لإعادة السودانيين لوطنهم
  • نائب:لماذا لايوافق السوداني على ايداع خارطة المجالات البحرية لدى الامم المتحدة؟؟!!