سوريا بلاد الفقهاء وحاضرة العلماء
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
#سوريا #بلاد_الفقهاء و #حاضرة_العلماء
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
ذهبت لأداء صلاة المغرب في مسجد الحسن بدمشق، كعادتي في كل زيارةٍ إلى سوريا، أحرص على الصلاة في مساجدها العامرة، وأتابع دروس العلماء فيها، تماماً كما كنت طوال فترة إقامتي فيها، كما أغلب أهلها وزوارها، الذين يحبون مساجدهم، ويقدرون علماءهم، ويحرصون على حلقات الذكر ومجالس العلم فيها، ويلتزمون أوقاتها ويتواصون مواعيدها، ويتزينون عند كل صلاة، ويصطحبون إليها الصبية والأطفال، يعلمونهم ويعودونهم على أن بيوت الله عز وجل في أرضه، هي بيوت الأمان والسلام والإيمان.
مساجد دمشق كثيرة وجميلة، وواسعةٌ كبيرة، وبهيةٌ نظيفةٌ، تشعر فيها بالطمأنينة والراحة، والخشوع والسكينة، ويطمئن قلبك وأنت فيها، وتسمو روحك وتزكو نفسك وأنت تذكر وتقرأ، وتشعر فيها بشوق الوصل وأنت تنتظر إقامة الصلاة، وتجول بعيونك فترى فيها أغلب أحبابك وأعز أصدقائك، ومن غابوا عن ناظريك طويلاً، ومن كانوا يوماً جيرانك، وفيها تجد العائدين من سفرهم، والغائبين لسنواتٍ عن بلادهم، وكأنها تجمع الجميع بين أروقتها وصحونها، وتعيد الكل إلى أحضانها.
مقالات ذات صلةفوجئت قبل أن أصل إلى بوابة مسجد الحسن، بمئات الدراجات الهوائية المصفوفة على امتداد الطريق المؤدي إلى المسجد وداخل فنائه، ورأيت المئات من المصلين يزحفون إلى المسجد، يدخلون إليه فرادى وجماعاتٍ، وقد غص بهم الفناء وامتلأت المداخل، واصطف المئات على الأدراج والسلالم، وأغلق المصلون مدخل المسجد، إذ امتلأت باحته الداخلية بالمصلين، ولم يعد فيه متسعٌ لجديدٍ، وبقي المئات واقفين ينتظرون أن تتاح لهم الفرصة للدخول إلى المسجد، أو أن يجدوا لهم متسعاً خارجه، وإن بدا ذلك صعباً لكثرة المصلين والوافدين.
رغم أن المسجد بكل زواياه وأركانه كان يغص بالمصلين، إلا أن الجميع كان صامتاً هادئاً، فلا فوضى ولا اضطراب، ولا صخب ولا جدال، ولا همهمة ولا غمغمة، ولا أحاديث جانبية ولا مزاحمة على الأماكن التي بدت عزيزة ونادرة لكثرة المصلين الذين وصلوا باكراً واحتلوا أماكنهم في كل أنحاء المسجد.
تساءلت بيني وبين نفسي، لماذا كل هذه الجموع، وهم لفيفٌ من الشبان والشيوخ، والصبية والكهول، ممن يبدو على أكثرهم أنهم سراةٌ أغنياء، وأساتذةٌ وطلابٌ، وتجارٌ وعمالٌ، وفقراءٌ ومتوسطو الحال، حرت وأنا بينهم وتساءلت، أتراهم قد تنادوا للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولكنني أعلم أن اليوم هو الأول من ربيع الأول وليس الثاني عشر منه، وهذا يعني أن الجمع ليس احتفالاً بالمولد.
أم أنهم قد جاؤوا لسببٍ آخر لا أعلمه، إلا أنني لم أجد من المناسب أن أسأل أحداً عن سبب جمعهم فأبدوا غريباً بينهم، أو جاهلاً لا أعرف سبب اجتماعهم، لكنني قررت مشاركتهم، وحجزت لي مكاناً بصعوبةٍ بينهم، وجلست أنتظر بدء برنامجهم، ولفت نظري تواصل احتشاد المصلين والتصاق صفوفهم وتراصها، ورغم ذلك فقد بقيت جموع الناس تقف حتى بوابة المسجد الخارجية ولم تجد لها مكاناً فيه، فاكتفوا من الحضور بالإصغاء.
تقدم إلى المنصة شيخٌ وقورٌ جليلٌ لم يسبق لي أن رأيته، واتخذ مكانه أمام المصلين، وبدأ حديثه مرحباً بالحاضرين القدامى والملتحقين الجدد، وتمنى للبلد وأهله السلم والأمن والرخاء، والرزق الواسع والسخاء، وشكر الله عز وجل على النعماء في السراء والضراء، وحمده على العطاء والابتلاء، وسأله سبحانه وتعالى أن يرفع عن الأمة البلاء والغلاء وتسلط الأعداء.
ثم بدأ محاضرته، التي خصصها لشرح بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا الجميع خلال درسه إلى الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرح للناس وبين لهم فضل الصلاة على الرسول، ويكفي أن من يصلي على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، أنه يشترك مع الله سبحانه وتعالى وملائكته في الصلاة والسلام على نبيه، وهذا شرفٌ عظيم تنكسر الأعناق دونه.
صمتٌ شديدٌ خيم على المسجد وران على المصلين بينما الشيخ يلقى درسه عليهم، والكل يرنو إليه ويتطلع، ويصغي إليه ويسمع، وكأنهم يتلقون كلماته ويحفظونها، ويسمعون شروحاته ويرددونها.
عرفتُ من شاشة العرض أن الشيخ الذي جاء ليستمع إليه مئات المصلين في مسجد الحسن بدمشق الفيحاء، كان هو الشيخ الطبيب الدكتور خير الدين الشعَّال، الذي هالني بعلومه، وسلبني حضوره، وأدهشني شرحه، وشدني إليه أسلوبه، ولفت نظري إقبال المصلين عليه وزحفهم إلى مسجده من كل حدبٍ وصوبٍ، ومنهم من جاء إليه من كل فجٍ قريبٍ وبعيد، وقد علم أن اليوم هو يوم الاثنين، يوم درس الشيخ الشعار وحلقة علمه.
رغم ما أصاب سوريا وأهلها، وما حل بها وبأبنائها، وما نزل بها وبمؤسساتها، ورغم الفقر والجوع، والحصار والحرمان، والقصف والغارات والعدوان، فإن الخير ما زال معقودٌ بنواصيها، والرزق في ركابها، والأمل ما زال يسكن قلوب أهلها، ويمنيهم بالغد الآتي والمستقبل الواعد القريب، لتعود الحصن المنيع والقلعة الشامخة والأسوار العالية، وما ذلك على الله بعزيز.
حفظ الله دمشق وعلماءها، وسوريا وأهلها، ومساجدها ودور العلم فيها، وجعلها منارة هدى وجامعة رشاد، وأعاد إليها الأمان الذي كان، والسلم الذي ساد، وكتب لها الخير والسداد، والتوفيق والرشاد، وجعلها بلاد علمٍ وعملٍ، وسلامٍ وأمانٍ، وسخاءٍ ورخاء.
دمشق في 10/9/2024
moustafa.leddawi@gmail.com
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
حكم اختصار الصلاة على النبي عند الكتابة إلى (ص) أو (صلعم).. الإفتاء تجيب
تلقت دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه: ما حكم كتابة حرف الصاد (ص) أو لفظ (صلعم) بدلًا من كتابة (صلى الله عليه وسلم) بعد الاسم الشريف؟
وأجابت دار الإفتاء عبر موقعها الرسمى عن السؤال قائلة:
لا ينبغي للمسلم أن يستبدل الإشارة بحرف (ص) أو لفظ (صلعم) أو غيرهما بالصلاة والسلام على سيد الوجود صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يَحْسُنُ به فعل ذلك؛ فهو أمرٌ منهيٌّ عنه كما قرره العلماء، كما أن فاعل ذلك يُخشى عليه أن يكون ممن حُرِمَ من فضل الله تعالى ورحمته؛ لما في ذلك من التكاسل عن تحصيل الثواب العظيم والأجر الجزيل، ولما فيه أيضًا من سوء الأدب والجفاء والتهاون مع جنابه الرفيع صلى الله عليه وآله وسلم.
وأوضحت أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل القربات عند الله تعالى؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]؛ قال الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" (14/ 235، ط. دار الكتب المصرية) قولَ سهل بن عبد الله: [الصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل العبادات؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك] اهـ.
وتتأكد هذه العبادة الجليلة عند ذكر اسمه المنيف صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى إن مَن يتراخى عنها عند ذكر الاسم الطاهر يُتَوَجه إليه الذم واللوم؛ لسوء صنعه؛ قال العلامة الصالحي الشامي في "سبل الهدى والرشاد" (12/ 421، ط. دار الكتب العلمية): [ينبغي أن تكون الصلاة عليه مُعْقَبَةً بِذِكْرِهِ عنده؛ حتّى لو تراخى عن ذلك ذُمَّ عليه] اهـ.
واشارت الى ان كلُّ الأعمال بين القبول والرد إلَّا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنها مقبولة قولًا واحدًا.
قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته على الدر المختار" (1/ 520، ط. الحلبي): [مطلب في أنَّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل ترد أم لا؟ قال الفاسي في "شرحه": ومن تمام كلام أبي سليمان عند بعضهم: وكل الأعمال فيها المقبول والمردود إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنها مقبولة غير مردودة، وروى الباجي عن ابن عباس: إذا دعوت الله عزَّ وجلَّ فاجعل في دعائك الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنَّ الصلاة عليه مقبولة، والله سبحانه أكرم من أن يقبل بعضًا ويرد بعضًا، ثم ذكر نحوه عن الشيخ أبي طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي.. والذي يظهر من ذلك أن المراد بقبولها قطعًا أنها لا ترد أصلًا مع أن كلمة الشهادة قد ترد فلذا استشكله السنوسي وغيره.
والذي ينبغي حمل كلام السلف عليه أنه لما كانت الصلاة دعاء، والدعاء منه المقبول ومنه المردود، وأن الله تعالى قد يجيب السائل بعين ما دعاه وقد يجيبه بغيره لمقتضى حكمته: خرجت الصلاة من عموم الدعاء؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56] بلفظ المضارع المفيد للاستمرار التجددي مع الافتتاح بالجملة الاسمية المفيدة للتوكيد وابتدائها بإن لزيادة التوكيد، وهذا دليل على أنه سبحانه لا يزال مصليًّا على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ثم امتن سبحانه على عباده المؤمنين حيث أمرهم بالصلاة أيضًا؛ ليحصل لهم بذلك زيادة فضل وشرف، وإلا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مُسْتَغْنٍ بصلاة ربه سبحانه وتعالى عليه، فيكون دعاء المؤمن بطلب الصلاة من ربه] اهـ.
وقد جرت عادة علماء المسلمين قاطبةً أنهم إذا كتبوا أو نطقوا أو سمعوا أو شاهدوا اسمه المُعظم صلى الله عليه وآله وسلم بادروا بالصلاة والسلام عليه.
حكم اختصار الصلاة والسلام على سيدنا النبي عند الكتابة إلى (ص) أو (صلعم)
أما عن كلمة (صلعم)؛ فهي منحوتة من قولنا: "صلى الله عليه وآله وسلم"؛ ومعنى النحت أن تؤخذ كلمتان أو أكثر، وتنحت منهما كلمةٌ تكون مأخوذةً منهما جميعًا ومعبرةً عنهما؛ ينظر: "معجم مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (1/ 328-329، ط. دار الفكر)، و"المزهر في علوم اللغة وأنواعها" للإمام السيوطي (1/ 372، ط. دار الكتب العلمية)، وقد ذكر العلامة الطاهر ابن عاشور أن القصد من النحت هو الاختصار أو التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة؛ ينظر: "التحرير والتنوير" (1/ 137، ط. الدار التونسية).
وهذه الكلمة وغيرها من نحو (ص) ممَّا يُقصَد به الاكتفاء والإشارة إلى الصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكر اسمه الكريم يُعدُّ من العادات السيئة والخصال المذمومة، سواءٌ قُصد بها الاختصار أو التخفيف لكثرة ورودها أو غير ذلك، ولا يفعل ذلك إلا محرومٌ من بركة الصلاة والسلام على سيد الكونين صلى الله عليه وآله وسلم.
نصوص العلماء في هذه المسألة
قد تواردت بكثرة نصوص العلماء التي تدل على الكراهة الشديدة لهذا الصنيع والتحذير منه.
قال الإمام ابن الصلاح في "معرفة أنواع علوم الحديث" (ص 298-300، ط. دار الكتب العلمية) في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده: [ينبغي له أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره؛ فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حُرِمَ حظًّا عظيمًا، وقد روينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه؛ فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية ولا يقتصر فيه على ما في الأصل.. ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورةً رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك. والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب (وسلم).. سمعت أبا القاسم منصور بن عبد المنعم، وأم المؤيد بنت أبي القاسم بقراءتي عليهما قالا: سمعنا أبا البركات عبد الله بن محمد الفراوي لفظًا، قال: سمعت المقرئ ظريف بن محمد، يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الحافظ، قال: سمعت أبي يقول: سمعت حمزة الكناني، يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي: (صلى الله عليه)، ولا أكتب (وسلم)، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام؛ فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة عليَّ؟ قال: فما كتبت بعد ذلك (صلى الله عليه) إلا كتبت (وسلم)؛ قلت: ويُكره أيضًا الاقتصار على قوله: (عليه السلام)، والله أعلم بالصواب] اهـ.
وقال الإمام النووي في "التقريب والتيسير" (ص: 68، ط. دار الكتاب العربي): [وينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يَسْأم من تكراره، ومن أغفله حُرم حظًّا عظيمًا، ولا يتقيد فيه بما في الأصل إن كان ناقصًا، وهكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى: كعزَّ وجلَّ، وسبحانه وتعالى، وشبهه، وكذا الترضي والترحم على الصحابة والعلماء وسائر الأخيار، وإذا جاءت الرواية بشيء منه كانت العناية به أكثر وأشد، ويُكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم والرمز إليهما في الكتابة، بل يكتبهما بكمالهما] اهـ.
وقال الإمام جمال الدين الإسنوي في "المهمات" (1/ 33، ط. مركز التراث الثقافي المغربي): [أمَّا الصلاة على النبي فيجب أن تكتب كاملة، وقد كره الفقهاء اختصارها، وقد اختصرها بعض العجم على هذا الشكل: (صلعم، ص م)؛ أي: صلى الله عليه وآله وسلم، و (ع م)؛ أي: عليه السلام] اهـ.
وقال الإمام الْجَعْبَري برهان الدين [ت: 732] في "رسوم التحديث في علوم الحديث" (ص: 122، ط. دار ابن حزم): [ويحافظ على تكرار: سبحانه، وتبارك وتعالى، وعزَّ وجلَّ، وصلى الله عليه وآله وسلم، وعليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنه، ورحمه الله تعالى، وإن حذفت في الأصل، وفاقًا للعنبري وابن المديني؛ لأنه تعظيم ودعاء، وقصره أحمد على ما في الأصل (الخطيب): ولفظ بها، وكره إفراد الصلاة أو السلام، ورمز (صلعم) أشدُّهُ أي: أشد كراهة- و(رضعنه) خَطَأ] اهـ.
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في "شرح التبصرة والتذكرة" (1/ 477، ط. دار الكتب العلمية): [ويُكْرَهُ أن يَرْمِزَ للصَّلاة على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في الخطِّ بأن يقتصرَ من ذلك على حرفينِ، ونحو ذلك كمن يكتُبُ (صلعم) يشيرُ بذلك إلى الصلاة والتَّسْلِيمِ] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين ابن عمار [ت: 844هـ] في "مفتاح السعيدية في شرح الألفية الحديثية" (ص: 298، ط. مركز النعمان): [«واجتنب» يعني: أنه كَرِه الرَّمز للصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخَطّ، فيقتصر على لفظين ونحوه فيكتب: (صلعم) إشارةً إلى الصلاة والتسليم] اهـ.
وقال الإمام الكافِيَجي [ت: 879هـ] في "المختصر في علم الأثر" (ص: 181، ط. مكتبة الرشد): [وَالرَّمْز بالصلاة مَكْرُوه؛ كأن يكْتب (صلعم) ويشير بذلك إلى الصَّلَاة والسلام] اهـ.
وقال الحافظ السخاوي في "القول البديع" (ص: 247-248، ط. دار الريان): [ولا ينبغي أن يُرمز بالصلاة كما يفعله الكسالى والجهلة وعوام الطلبة؛ فيكتبون صورة (صلعم) بدلًا من صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.
وقال أيضًا في (ص252-254): [وعن أبي علي الحسن بن علي العطار قال: كتب لي أبو طاهر المخلص أجزاءً بخطه فرأيته فيها إذا جاء ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا؛ قال أبو علي: فسألته عن ذلك، وقلت له: لِمَ تكتب هكذا؟ فقال: كنت في حداثة سني أكتب الحديث، وكنت إذا جاء ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أصلي عليه؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم؛ فأقبلت إليه.. قال: فسلمت عليه؛ فأدار وجهه عني، ثم دُرْتُ إليه من الجانب الآخر، فأدار وجهه ثانية عني؛ فاستقبلته ثالثة؛ فقلت: يا نبي الله لِمَ تدير وجهك عني؟ فقال: لأنك إذا ذكرتني في كتابك لا تُصَلِّي عليَّ؛ قال: فمن ذلك الوقت إذا كتبت النبي؛ كتبت: صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا. رواه ابن بشكوال، وبالله التوفيق، ونسأله أن يلهمنا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلما ذكر خطًّا ونقطًا صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا كثيرًا آمين] اهـ.
وقال العلامة العلموي الدمشقي الشافعيّ [ت: 981هـ] في "العقد التليد في اختصار الدر النضيد" (ص: 255، ط. مكتبة الثقافة الدينية): [وجرت عادة السلف والخلف بكتابة: صلى الله عليه وآله وسلم، ولعل ذلك لموافقة الأمر في الكتاب العزيز في قوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا﴾ [الأحزاب: 56]، ولا يختصر الصلاة في الكتابة، ولا يسأم من تكريرها كما يفعله بعض المحرومين: من كتابة: صلعم أو صلع أو صلم أو صم أو صلسلم، فإن ذلك مكروه كما قال العراقي] اهـ.
وقال الإمام محمد بن بلبان الدمشقي الحنبلي [ت: 1083هـ] في "مختصر الإفادات" (ص: 348، ط. دار البشائر الإسلامية): [ويكره الرمز للصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يقتصر من ذلك على حرفين، ونحو ذلك ككتابة "صلعم" إشارة إلى الصلاة والسلام] اهـ.
ما قاله العلماء فيمن يقوم باختصار الصلاة والسلام على سيدنا النبي
ومن شناعة هذا الأمر أن العلماء قد وصفوا مَن يقوم بهذا الفعل بأنه متهاونٌ كسولٌ محسوبٌ على الجهلة، وأنه إنما يفعل ذلك لقلة أدبه مع الجناب النبوي الشريف صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام شمس الدين السَّفِيري [ت: 956هـ] في "المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية" (1/ 80، ط. دار الكتب العلمية): [ويتجنب أن يكتب (صلعم) مكان صلى الله عليه وآله وسلم كما يفعله الكسالى والجهلة وعوام الطلبة، يأخذون من كلِّ كلمة حرفًا: الصاد من صلى، واللام من الله، والعين من عليه، والميم من وسلم، ويجمعونها (صلعم)] اهـ.
وقال العلامة ابن علان في "الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (3/ 320، ط. جمعية النشر والتأليف الأزهرية): [ويخشى على الكاتب إذا رمز للصلاة بصورة (صلعم) أن يندرج في هذا القبيل أي: ممن باء بغضب الله ومقته وطرده- لتهاونه وقلة أدبه] اهـ.
ومما يدل على شُؤم هذا الأمر وأنه قبيحٌ غير محمود ما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي في "تدريب الراوي" (1/ 507، ط. دار طيبة) حيث قال: [(و) يُكره (الرمز إليهما في الكتابة) بحرف أو حرفين، كمن يكتب (صلعم) (بل يكتبهما بكمالهما) ويقال: إن أول من رمزهما ب(صلعم) قطعت يده] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "فتح الباقي بشرح ألفية العراقي" (2/ 44، ط. دار الكتب العلمية): [(واجتنب) أنت (الرمز لها)؛ أي: للصلاة مع السلام في خَطِّكَ، كأن تقتصر منها على حرفين، كما يفعله أبناء العجم، وعوَامُّ الطلبة، فيكتبون بدلها: (صم)، أو (صلعم)؛ فذلك خلاف الأولى، بل قال الناظم: إنه مكروه، ويقال: إن من رمز لها بـ(صلعم) قُطِعَتْ يده] اهـ.
التحذير من الاستهانة باختصار الصلاة والسلام على سيدنا النبي إلى لفظ (صلعم)
بالإضافة لكلِّ ما سبق فإن لفظة: (صلعم) بخصوصها قد تُجرِّئُ بعض السفهاء المتربصين بالجناب النبوي الشريف أو غيرهم على الاستهانة بمقامه الرفيع؛ كأن يقولوا على سبيل الاستهزاء أو الاستهانة أو غير ذلك: "قال صلعم كذا" أو نحو ذلك؛ وهذا ممتنعٌ بالإجماع؛ فقد أنكر الله تعالى على من يفعل ذلك وخاطبه موبخًا له بقوله: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ [التوبة: 65]، وقد انعقد إجماع الأمة على منع وتحريم الاستهانة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ينظر: "الإقناع في مسائل الإجماع" للعلامة ابن القطان الفاسي (2/ 270، ط. الفاروق الحديثة)، و"الإجماع" للإمام ابن المنذر (ص: 132، ط. دار الآثار).
فيُؤخذ من مجمل ما قرره العلماء مما ذكرنا أن هذه الكراهة المنصوص عليها بلفظ الاجتناب، وغيرها من التغليظ والتأكيد في النهي عن إتيان هذا الأمر واقترافه، وأنه يُتوقع أن يكون بابًا للاستهانة بالجناب النبوي العظيم: أن كتابة رمزٍ بدلًا من الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم أو الإشارة إليها بنحو لفظ (صلعم) أو غيره أمرٌ منهيٌ عنه؛ أي: لا ينبغي فعله.
قال العلامة أبو الوفاء نَصْر الهُوريني [ت: 1291هـ] في "المَطَالعُ النصرية للمطابع المصرية في الأصُول الخطية" (ص: 397، ط. مكتبة السُّنَّة): [كما أن للعجم في الكتب العربية رموزًا معروفة عندهم، مثل: (مم): ممنوع.. (عـ م) عليه السلام، وكذا (صلعم) أو (ص م)؛ لكن نَهَى العلماء عن تقليدهم في ترك كِتابة التَّصْلية] اهـ.
وأكدت بناءً على ذلك إنه لا ينبغي للمسلم أن يستبدل الإشارة بحرف (ص) أو لفظ (صلعم) أو غيرهما بالصلاة والسلام على سيد الوجود صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يَحْسُنُ به فعل ذلك؛ فهو أمرٌ منهيٌّ عنه كما قرره العلماء، كما أن فاعل ذلك يُخشى عليه أن يكون ممن حُرِمَ من فضل الله تعالى ورحمته؛ لما في ذلك من التكاسل عن تحصيل الثواب العظيم والأجر الجزيل، ولما فيه أيضًا من سوء الأدب والجفاء والتهاون مع جنابه الرفيع صلى الله عليه وآله وسلم.