الانسلاخ اللغوي وفقدان الهوية
تاريخ النشر: 10th, September 2024 GMT
عائشة السريحية
الكلمات مرآة الأفكار، ووعاء المعرفة اللغة، وثوبها الزاهي البلاغة والفصاحة، واللغة عنوان الهوية، وَدليل الحضارة، وتعريف الأمة، ومتى اغترب اللسان اغترب القلب، ومتى اغترب القلب اغترب الفكر، وانسلخ من جلده شيئا فشيئا، فيضمحل ويصبح أثرا من بعد عين.
وأُمَّتنا العربية قد أُكرمت بلغة القرآن، لسان البيان، قال تعالى: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف: 2).
لقد حفظ الدينُ اللغةَ وحفظت اللغةُ الدينَ، وعلى مر القرون التي توالت، كنا أمة عظيمة حتى وإن ضعفت في العصر الحديث إلا أن تاريخها لا يمكن بحال أن يتم نسيانه أو تجاهله، بيد أننا وبأيدينا نسيء دون أن نشعر لهذه العظمة ولهذا المجد التليد، وباتت هذه الأمة تتنازل عن كنزها وجوهرتها النفيسة، وتستبدلها بلسان آخر أعجمي وليتها استبدلت الضعيف بالجيد.
الأسماء الأجنبية في شوارعنا، كظاهرة أشبه بما يُسمى بتأثير الفراشة، تلك الحركة البسيطة التي قد تبدو للعين غير ذات شأن، لكنها تؤدي إلى تغييرات عظيمة.
إن تغريب اللغة العربية تحت وطأة تأثير اللغة الإنجليزية ليس مجرد استبدال كلمات بكلمات، بل هو انسلاخ من الذات، وانحراف عن مسار الأمة الذي رسمته أقلام العرب وسطور التاريخ، يقول الشاعر جاك صبري :
أنا لن أخاطب بالرطانة يعربا // أو أستعير مترجمًا لبياني
أودعت فيك حشاشتي ومشاعري // ولأنت أمي والدي وكياني
لغة حباها الله حرفًا خالدًا // فتوضعت عبقًا على الأكوان
وتلألأت بالضاد تشمخ عزةً // وتسيل شهدًا في فم الأزمان
فاحذر أخي العربي من غدر المدى // واغرس بذور الضاد في الوجدان
وإذ نشعر بالأسى حيال ما يحدث من حولنا كجريان جدول ماء صغير لن يلبث حتى يصبح طوفانا كبيرا لن نقدر على صده إلّا بعد فوات الأوان، وكأننا نفتقر للغة ومفرداتها فتسمي شوارع ومناطق بأسماء ذكرتنا بقصة الغراب الذي قلد مشية الحمامة، ففقد هويته ولم يعد لا غرابَ ولا حمامة.
وذاك يتفنن بتسمية المحال تجارية والعلامات التجارية، ولوحات تصلب بلا خجل في الشوارع تحمل مسميات لاهي معربة ولا مغربة، كأن لغتنا لا تستطيع ترجمتها، أو كأن بلادنا حديثة العهد فلا تستطيع إلا استنساخ ماهو خارجها، فنقرأ وقلوبنا تعتصر ألماً، على سبيل المثال بوليفارد، سكوير، سيتي، داون تاون، آب تاون؛ بل هو شعور أصفه بالاشمئزاز، ولا نعرف كيف يتم تجريدنا من الهوية العربية العُمانية ونحن نرى تسلل هذه اللوحات إلى شوارعنا، فلم يعد يكفي أننا نتحدث في معظم يومنا باللغة الإنجليزية في العمل والشارع، وباتت لغتنا الأصيلة ضعيفة وهشة في أوساط المجتمع بالذات الشبابي، وربما يكون اللسان الأعجمي هو الأكثر شيوعاً بل أصبح بمثابة علامات التقدم والتمدن.
ورغم مدح اللغة من كثير من الشعراء واللغويين الذين لا يسعنا أن نذكر جميع ما قالوا، إلا أن تأثير العولمة والانفتاح قد أثر تأثيرًا مُباشرًا، تأثير القوي على الضعيف، والناجح على الفاشل، والمستعمر على المُستعَمر، وجعلوا من استخدام المفردات الأعجمية دليلًا على التطور والانفتاح والتمدن، وهم من كانوا في عصر الظلمات ونحن نقبع وسط النور.
وتراجع استخدام اللغة العربية في التعليم والحياة اليومية والعملية، يوهم أن اللغة العربية ضعيفة فقيرة، بينما نجد الأجانب يهرعون لتعلمها وإتقانها ودراستها، لمعرفتهم التامة بعظمة هذه اللغة وأهميتها وشموليتها.
وبنتيجة منطقية ولأنَّ اللغة هي أساس مرجعي ديني وثقافي، فإنَّ التغريب للغة يمكن أن يشعر البعض بفقدان هويتهم الوطنية، وهذا تدريجيا يأتي من الشعور بالاغتراب والانفصال عن الجذور الثقافية.
ولست في هذا المقال أعترض على تعلم اللغات الأجنبية أو عدم استخدامها، فأنا شخصيا أجيد التحدث والكتابة بها بطلاقة، لكن هذا ليس معيارا لأن استبدل هويتي لمجرد أنني استخدمت معجما آخر.
إنَّ سلطنة عُمان، من خلال تاريخها وأمجادها، ونشرها للغة العربية وللدين الإسلامي، خارج حدودها اليوم وسيطرتها على مساحات شاسعة وعظيمة كإمبراطورية لها ثقلها ووزنها، لا تتساوى مع غيرها فلكل قدر وميزان، ومن أجل هذا فتأثيرها يجب أن يكون إيجابيًا، وحفاظها على موروثها اللغوي والتاريخي، ذي أولوية وأهمية، حتى وإن رأى البعض أن تسميات اللوحات في الشوارع ومسميات المناطق، والتجمعات والمشاريع هي مجرد لوحات لا قيمة لها أو تأثير.
وكيف لمن يعتقد ذلك أنه لا تأثير ولا ضير، فهل وجدت في الدول المتقدمة التي تظنها أكثر مدنية مِنّا وتحضرًا، استخدموا لوحات الشوارع ومسمياتها الرسمية بلغتنا العربية؟
هل كانت المسميات الأجنبية صعبة لدرجة أن ترجمتها أصبحت غير ممكنة أو مستحيلة؟ هل كان هناك اعتلالا لغويا في فهم الكلمة وترجمتها باللغة الإنجليزية؟ فكل اللوحات السابقة بها معنيين الأول عربي والآخر للإجانب مكتوب بالإنجليزية.
ثم إن كتابة المفردة بنفس نطقها هو أمر غير مريح ولا مستحب.
يقول الشافعي: "ما جَهلَ الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب، وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس".
ولم يمدح اللغة العربية وجمالها العرب فقط؛ بل ذاب في عشقها المستشرقون، تقول الألمانية زيجريد هونكه صاحبة كتاب شمس العرب تسطع على الغرب: "كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة".
كما قال المستشرق الإنجليزي وليم بدويل: "إنها لغة الدين الفريدة، وإنها أعظم لغة للسياسة، من الجزائر السعيدة إلى بحر الصين".
فرفقًا بنا، وبقلوبنا التي تهيم عشقا في نعمة هذه اللغة، وراعوا فينا محبتنا وغيرتنا على لغتنا وهويتنا وإرثنا الثقافي والتاريخي والحضاري.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الترجمة الأدبية.. جسر غزة الإنساني إلى العالم
في عالم تعج فيه الأخبار العاجلة والصور القاسية، تقف الترجمة الأدبية كجسر إنساني حساس، يربط بين القلوب والعقول، وينقل معاناة الشعوب من وراء الجدران والصمت الدولي. غزة، هذه الرقعة الصغيرة التي أصبحت عنوانا للألم والمعاناة والجوع، تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أدوات تعبير تتجاوز الحصار، وتصل إلى وجدان الشعوب، لا سيما من خلال الأدب المترجم.
فالترجمة الأدبية ليست مجرد نقل لغوي، بل فعل مقاومة ثقافية وأخلاقية، تتحول عبره القصص والقصائد والنصوص الشعرية والنثرية من أصوات محلية إلى شهادات عالمية، تكسر التعتيم، وتعيد للإنسان الغزي صورته الحقيقية كفرد لديه أحلام وأوجاع.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"غرق السلمون" للسورية واحة الراهب عبرة روائية لبناء الوطنlist 2 of 2من كلكتا إلى نوبل.. طاغور شاعر الطبيعة والحزن وفيلسوف الحياةend of listفي حديثه للجزيرة نت، يرى أستاذ الأدب والنقد الإنجليزي في جامعة الأزهر بغزة، مروان حمدان، أن الترجمة الأدبية تلعب دورا حيويا في إبراز البعد الإنساني بعيدا عن التجاذبات السياسية، وكشف التفاصيل اليومية للمعاناة من منظور شخصي وعاطفي، وتعزيز التضامن الدولي عبر إشراك القراء في معاناة وآمال الكتاب الغزيين، وإحياء الذاكرة الغربية حول النكبة والإبادة والحصار من خلال الأدب.
وتهدف الترجمة إلى نقل الأدب الفلسطيني إلى جمهور عالمي متنوع، لا سيما أعمال الكتاب من غزة، وبناء شبكات تضامن ثقافي عالمية عبر أعمال أدبية مترجمة، وتمكين الكتاب الفلسطينيين من التواجد في محافل أدبية دولية، وتعزيز الصورة الثقافية لغزة بوصفها حاضنة للإبداع، لا مجرد مسرح للحرب.
إن الترجمة الأدبية من غزة ليست عملا ثقافيا فحسب، بل شهادة على واقع إنساني يجب أن يسمع. وهي دعوة للعالم كي ينصت، لا إلى دوي الطائرات والصواريخ فقط، بل إلى صوت الشاعر والروائي.
وقد أكد على أهمية تسليط الضوء على الأصوات الأدبية والأعمال الإبداعية في قطاع غزة، من خلال ترجمة مختارات منها إلى لغات عالمية، لنقل صورة أعمق عن القضية الفلسطينية إلى العالم بلغات مختلفة، وفتح آفاق جديدة أمام المترجمين المهتمين بها، ودعم الكتاب والمترجمين الشباب، وتوفير منصات لنشر أعمالهم.
تمثل الكتابة الإبداعية في السياق الفلسطيني ضرورة ملحة، وسلاحا يعبر الأجيال ويخترق حدود اللغة نحو العالم، فهي ليست ترفا أدبيا، بل فعل مقاومة، وصرخة وعي، وذاكرة تحفظ ما يحاول المحتل طمسه.
إعلانإنها أداة لاسترداد الحق، وتثبيت الهوية، وعين لا تغفو في زمن المسخ الإعلامي والتزييف السياسي. فالكاتب الفلسطيني ليس مجرد راو، بل شاهد ومقاتل، وناقل لنبض شعبه بلغة لا تهادن ولا تساوم.
الشاعر حيدر الغزالي، الذي كانت له إسهامات جليلة في تسليط الضوء على أهمية القضية الفلسطينية، ومظلومية الشعب الفلسطيني، وتعزيز السردية القائمة على الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه، شارك في فعاليات أدبية كبيرة في فرنسا وإيطاليا والبرازيل والولايات المتحدة.
وقال في حديثه للجزيرة نت: "كانت لي مشاركات أدبية من خلال نصوص شعرية عن القضية الفلسطينية والإبادة في غزة، فقد أسهمت مع مجموعة من الشعراء الغزيين، منهم يوسف القدرة، هند جودة، مروان مخول، علي أبو خطاب، الشهيد رفعت العرعير، نعمة حسن، الشهيدة هبة أبو ندى، دارين الطاطور، ويحيى عاشور، الذين شعروا بمسؤوليتهم تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الإبادة في غزة، في إصدار مجموعة شعرية مشتركة باللغة الإيطالية بعنوان (صراخكم من صوتي)، وكانت واحدة من أكثر المجموعات الشعرية مبيعا في إيطاليا".
وأضاف: "ترجمت لي قصيدة (أعدني إلى صباي) ونشرت على صفحات مجلة Ord Bild السويدية، وهي أقدم مجلة أدبية في السويد، كما ترجمت قصيدة (كلما خرجت من البيت أودعه) إلى اللغة المالايالامية، ونشر نص قصيدة (انتفاضة الشباب الحر في الجامعات) في جريدة (The New York War Crimes) الأميركية، التي كانت تصدر في وقت اعتصام طلاب الجامعات في أميركا ضد الحرب على غزة".
مقاومة الصمت واختراق الحدودوفي معرض رده على سؤال حول جدوى هذه الفعاليات الأدبية ودورها، أضاف: "الترجمة الأدبية ضرورة ملحة، وأداة لا بد منها لعبور المسافات واختراق الحدود نحو نبض الشارع، وصوت الإنسان البسيط، وحكاية الوطن المسلوبة. إنها الكلمة التي تقاوم الصمت، وتمنح اللغة حرارة الرفض، وكرامة البوح في وجه القهر.
وهي التي تواجه سردية الكذب الإسرائيلية، وتوقع على القاتل صفة الإجرام والدموية. فالكتابة في زمن الإبادة تتطلب انغماسا تاما في الوجع، للدفاع عن الروح البشرية، واقتحام أغوار آلامها، إلى درجة تتطلب أحيانا أن يتجاهل النص خلفيته القومية والوطنية، لصالح ما هو أعم وأشمل. والترجمة هي التي توصل النص إلى حده العالمي، وتطوع اللغات لخدمة أهدافها".
جوديث كيزنر، كاتبة وفنانة تشكيلية ألمانية، وعضو أكاديمية قصر العزلة في برلين، ومن أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية ومساعدة اللاجئين الفلسطينيين، أسهمت في إقامة مدرسة "زهرة أمل" للطلاب الفلسطينيين في منطقة المواصي.
ورأت في تصريحها للجزيرة نت أن "الكتابة الأدبية وترجمتها تمنح أهل غزة صوتا غالبا ما يتم تجاهله في السياسة. فمن خلال الكتب والقصص والقصائد، يتمكن الغرب من التعرف على تجاربهم الشخصية ومشاعرهم، وفهم معاناتهم بشكل أعمق، مما يسهم في اتخاذ مواقف أو القيام بأفعال من أجلهم".
وأضافت: "الترجمة الأدبية لا تنقل فقط أخبار الحرب والدمار في غزة، بل تكشف عن تفاصيل الحياة اليومية التي تستمر رغم كل شيء، وتجعل المعاناة ملموسة، وتعيد للضحايا أسماءهم وملامحهم، وتذكرنا بمسؤوليتنا تجاههم كأفراد ومجتمعات".
حكايات حية وشهادات موروثةإن الترجمة الأدبية من غزة ليست عملا ثقافيا فحسب، بل شهادة على واقع إنساني يجب أن يسمع. وهي دعوة للعالم كي ينصت إلى صوت الشاعر، والروائي، والأديب، لأن الأدب هو المصدر الإنساني الصادق لرصد ما يجري عبر العصور.
إعلانهذا ما قالته رئيسة الملتقى الثقافي وملتقى الأدب الفلسطيني في أوروبا، والمختصة في الترجمة الأدبية، نجوى غانم، وتروي للجزيرة نت كيف أسهمت في ترجمة جميع قصائدها التي كتبتها خلال الحرب على غزة إلى الإنجليزية والألمانية، تحت عنوان: "أغنية الحياة على تلة الذبح، قصائد الإبادة"، كما ترجمت القصيدة التي كتبتها ابنتها نيسان أبو القمصان بعنوان "خان حرب" إلى اللغة الإنجليزية.
كما شاركت في ترجمة كتاب "الوصايا: شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في مواجهة الموت" (2024)، الذي يضم 17 نصا لعدد من الكتاب الفلسطينيين، وقد جاء إهداء لروح الفنانة التشكيلية الفلسطينية هبة زقوت، التي ارتقت مع طفلها جراء قصف غادر في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد تضمن الكتاب لوحاتها كتعزية فنية وعاطفية.
كذلك ترجمت كتاب "الكتابة، كل ما ظل لي" للكاتبة الغزية الشابة دانا فليفل إلى الإنجليزية والفرنسية (2025)، وكتاب "48 قصة قصيرة فلسطينية" لـ 48 كاتبا فلسطينيا من الوطن والشتات إلى اللغة الإنجليزية، وغيرها الكثير مما لا يتسع المجال لذكره.
واعتبرت غانم أن هذه الترجمات الأدبية تمثل شهادات موروثة للغربيين، عرفوا من خلالها "قصة أبي اللاجئ المنكوب، وجدي الذي عاش ومات رافضا الخنوع والاعتراف بأنه لاجئ، ومعاناة جدتي، وقصصي على الحواجز العسكرية، والإبادة التي يعيشها شعبي".