لجريدة عمان:
2025-06-01@18:54:32 GMT

أوهام الديمقراطية 2

تاريخ النشر: 1st, October 2024 GMT

انتهيت في مقالي السابق إلى القول بأنه على الرغم انتقاد أفلاطون اللاذع لفكرة الديمقراطية، فقد تم استدعاء الديمقراطية منذ العصر الحديث باعتبارها النظام الأمثل الذي يمكن أن يحكم حياة البشر، وباعتبارها غاية ما وصل إليه التطور البشري، ومن ثم باعتبارها أمارة على تقدم الدول التي تتبنى النظام الديمقراطي. ولكني رأيت أن الترويج للديمقراطية بهذا الاعتبار هو نوع من الدعاية الأيديولوجية التي تريد تبرير النظام العالمي الذي تتبناه دول الغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

ولهذا، فإن هذا التصور يستدعي تساؤلات عديدة تجعلنا نتشكك في مصداقيته. وسوف أحاول الإجابة عن هذه التساؤلات بالاستعانة بطريقة الفلسفة التحليلية للغة والمفاهيم المتداولة:

أول هذه التساؤلات وأهمها هو: هل الدول الديمقراطية هي الدول المتقدمة؟! الإشكالية هنا تكمن في أن "الدول التي تتبني نظمًا ديمقراطية هي دول متقدمة بالفعل"، ولكن هذه العبارة لا تعني من الناحية المنطقية أن "الدول التي تتبنى نظمًا ديمقراطية هي الدول المتقدمة بالفعل"، أعني: أنها ليست الدول الوحيدة التي تُعد متقدمة (وهذا هو الفارق الدلالي بين كلمة "دول" وكلمة "الدول"، وهو فارق كبير). ذلك أن هناك دولًا تتبنى نظمًا لا يمكن وصفها بأنها نظم ديمقراطية، ومع ذلك فإنها تُعد من أكثر الدول تقدمًا، بل تعد ضمن الدول الثلاث الأولى الأكثر تقدمًا على مستوى العالم. ولعل القارئ سوف يفطن على الفور إلى أن الدول التي أقصدها هنا في المقام الأول هي: روسيا والصين تحديدًا. وربما يجادل البعض في هذا بإثارة السؤال التالي: وما هو معيار التقدم هنا؟ إن دولة معينة قد تكون متقدمة في جانب أو جوانب ومتخلفة في جوانب أخرى. ولكيلا ندخل في مناقشات سوفسطائية عقيمة، فإنني أضع معيارًا بسيطًا للتقدم من خلال مفهوم "الغَلَبة"، وهو مفهوم قد استخدمه العرب، وعلى رأسهم ابن خلدون: فالدول المتقدمة هي الدول أو الأمم التي تكون لها "الغلبة" على غيرها، وهذه الغلبة هي تجعل لغتها غالبة على الشعوب الأخرى، وهذا هو أيضًا ما جرى حينما كانت اللغة العربية هي لغة الغالب في مرحلة تألق الحضارة العربية. حقًّا إن دولة مثل روسيا والصين يتحدث لغتها ملايين عديدة من أهلها، من دون سائر الشعوب الأخرى، ولكن اللغة هنا ليست هي المعيار الوحيد؛ لأن "الغلبة" هنا تتحقق في المقام الأول من خلال التقدم في الشؤون العسكرية والاقتصادية وفي شؤون التعليم والتكنولوجيا وفي الوفاء بالحاجات الاجتماعية. وإذا وضعنا هذا في الاعتبار، فإن دولة مثل روسيا أو الصين تنافس بقوة دول الغرب التي تدعي أنها متقدمة بسبب تبنيها نظمًا ديمقراطية. وعلى سبيل المثال، فإن دولة مثل روسيا تعد من أكبر القوى العسكرية في العالم، بل إنها تُعد أقوى دولة نووية في العالم، وهي متقدمة بشكل مذهل في شؤون التكنولوجيا والتعليم والفن، ويكفي أنها أعظم الدول في إرثها الفني والأدبي، حتى إنها تضم أعظم باليه في العالم: "البولوشوي". كما أنها تتمتع بتعليم متميز على الأصعدة كافة، وتتمتع الآن بحالة جيدة من القوة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية التي تكفل للمواطن حياة كريمة، من بعد معاناة طويلة في هذا الصدد حينما ارتمت في حضن منظومة الغرب. ومثل هذا يمكن أن يُقال عن دولة الصين التي أصبحت المارد العملاق الذي يهدد الغرب نفسه في عقر داره، باعتبارها قوة اقتصادية جبارة تهدد هيمنة الاقتصاد الأمريكي نفسه، بل تتنامى قوتها العسكرية بمعدلات سريعة، بما في ذلك قوتها النووية. دع عنك كوريا الشمالية التي تتبنى نظامًا ديكتاتوريًّا بحق، ومع ذلك فإن قوتها العسكرية قد تنامت بشكل مذهل. وإذا وضعنا في الاعتبار أن هذه الدول قد أصبحت متحالفة الآن، فإن هذا يعني ببساطة أن هناك نظامًا عالميًّا جديدًا يتشكل من جديد بحيث تكون "الغلبة" فيه لنظم مغايرة لا تتبنى نموذج الديمقراطية الذي يروج له الغرب.

والحقيقة أننا لو تأملنا الديمقراطية كما تُمارس في الغرب، فسوف نجد أنها أوهام، ليس فقط بسبب أن الغرب لا يزال ينظر إلى الشعوب الأخرى، خاصةً المسلمين، باعتبارها شعوبًا أدنى؛ وإنما حتى بسبب ان هذا الغرب لا يزال يمارس سياسات عنصرية ومتحيزة إزاء الأصول العرقية المغايرة التي تعيش بين جنباته، حتى إن كانوا يحملون جنسية الدولة التي ينتمون إليها. يعرف هذا جيدًا كل من يعيشون في الغرب من أصول عرقية إفريقية أو عربية أو مسلمة. ولننتقل الآن إلى مثال صارخ آخر على أوهام الديمقراطية، وهي حالة الكيان الصهيوني المسمى بدولة إسرائيل التي لا يعرف أحد حدودًا جغرافية لها؛ ببساطة لأنها قامت على الاحتلال واغتصاب أرض الأغيار:

إسرائيل دول ديمقراطية بالفعل على مستوى النظام السياسي في الحكم. ولا شك أيضًا في أنها دولة متقدمة على كثير من الأصعدة، لعل أهمها تصنيع الأسلحة والتكنولوجيا. ولكن هل يبرر ذلك وصفها بأنها دولة ديمقراطية؟ فإذا كانت الديمقراطية تفترض المساواة بين الناس، فهل يمكن تصور هذه المساواة باعتبارها مقصورة على اليهود الذين يعيشون داخل دولة إسرائيل، في الوقت ذاته الذي تنظر فيه هذه الدولة إلى الآخرين باعتبارهم "الأغيار"، وتنظر إلى العرب- أصحاب الأرض التي تحتلها- باعتبارهم حيوانات لا تنتمي إلى البشر وينبغي القضاء عليهم والتنكيل بهم بلا رحمة؛ وليس هذا الكلام من عندي، وإنما هو كلام شائع ومنشور على ألسنة كثير من الصهاينة على شبكة المعلومات! فأية ديمقراطية هذه التي تقوم على التمييز بين البشر وفقًا لمعتقدات دينية ونزعات عنصرية وحشية؟! زد على ذلك أن هذه العنصرية نجدها داخل دولة إسرائيل نفسها؛ إذ إن هناك مراتب في تصنيف من ينتمون إلى الدولة ويحملون جنسيتها، فيأتي اليهود الأفارقة وعرب إسرائيل في مراتب دنيا داخل الدولة. هذا وغيره مما سبق هو مجرد أمثلة على أوهام الديمقراطية.

هل يعني كل هذا رفض الديمقراطية أو معاداتها. كلا، فإنه لا يعني سوى شيء واحد هو أن الديمقراطية تظل نموذجًا طوباويًّا لم يتحقق يومًا في عالمنا هذا، وهو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت منهجًا في الفكر وأسلوب حياة في التعايش مع الذات ومع الآخرين.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الدول التی إن دولة التی ت

إقرأ أيضاً:

إيران تتحدى الغرب: لن نتخلى عن حقنا في التخصيب النووي

مايو 31, 2025آخر تحديث: مايو 31, 2025

المستقلة/- جددت إيران تأكيدها على تمسكها بحقها في تخصيب اليورانيوم، معتبرة أن أي محاولة لنزع هذا الحق تمثل شكلاً من أشكال الهيمنة الأجنبية، وذلك في تصريحات جديدة أطلقها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، اليوم السبت، وسط تصاعد الجدل الدولي حول برنامج طهران النووي.

رفض للهيمنة.. وتأكيد على السيادة

وقال عراقجي إن “سياسة إيران الخارجية تقوم على مبدأ أساسي يتمثل في رفض الخضوع لأي هيمنة خارجية”، موضحاً أن حرمان إيران من حقها في التخصيب هو بمثابة فرض للإملاءات السياسية الدولية، وهو ما لا يمكن القبول به، بحسب تعبيره.

وأكد أن التخصيب النووي يمثل حاجة استراتيجية وأساسية للبلاد، ترتبط بشكل مباشر بموقف طهران الرافض للتدخلات الأجنبية، مضيفاً: “لا نقبل أبداً أن يُقال لنا إنه ينبغي ألا نمتلك حق التخصيب، هذا مرفوض تماماً.”

أولوية في كل المفاوضات

وأشار وزير الخارجية إلى أن موضوع التخصيب كان وما زال أحد أولويات طهران في جميع جولات التفاوض، سواء في المحادثات الجارية أو السابقة، ما يدل على أنه ملف سيادي غير قابل للتنازل من وجهة نظر إيران.

معارضة للسلاح النووي.. وانتقاد للطرف المقابل

ورغم هذا التشدد في ملف التخصيب، شدد عراقجي على أن إيران لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية، مؤكداً التزام بلاده بمبادئ السلمية، لكنه بالمقابل وجّه انتقاداً للطرف الآخر في الاتفاق النووي، متهماً إياه بعدم الالتزام بتعهداته ضمن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

وفي ختام تصريحاته، قال عراقجي: “لا يحق لأي أحد، لمجرد شعوره بالقلق، أن يمنع شعبنا من حقه المشروع والمعترف به دولياً”، في إشارة إلى الضغوط الغربية التي تتعرض لها إيران بشأن برنامجها النووي.

مقالات مشابهة

  • الفوضى الرقمية بين أوهام الحرية والخصوصية المستباحة
  • إسرائيل وحربها الممنهجة
  • بريطانيا تعلن استعدادها لمواجهة مسلحة مع روسيا
  • زاوية قانونية:متى يتم تصنيف الدول أو الكيانات أو الأشخاص كمعتدين على الجمهورية اليمنية أو أي دولة عربية أو إسلامية
  • عاجل.. قرار من وزراء الخارجية العرب حول تأجيل زيارتهم إلى الضفة
  • التحول الغربي
  • إيران تتحدى الغرب: لن نتخلى عن حقنا في التخصيب النووي
  • هل نصر الله الحق بأيدي الغرب وأضاعه العرب؟
  • ما سبب الخلاف بين نتنياهو وقادة الغرب‎؟
  • أردوغان يحذر قوات سوريا الديمقراطية من "المماطلة"