ظاهرة قحت ومسألة إيغالها بكامل وعيها في خيانة الوطن، مبيوعةً لقوى الإمبرياليّة والشّرّ، أو عن غباءٍ أيديولوجيٍّ مستحكم (وكلا الحالتين تفضيان إلى نتيجة واحدة هي: خيانة الوطن وخيانة الشّعب)، ربّما تحتاج إلى تقليب فكري أكثر منه تقليباً سياسيّاً. أدناه أقدّم جهد المُقل! إذ بينما كنتُ منهمكاً في إنهاء كتابي: *منهج التّحليل الثّقافي: فشل مشروع الحداثة في السّودان وتحدّيات ما بعد الحداثة*، وبينما كنت أكتب عن مفهوم هيقل Hegel عن علاقة الفرد إزاء المجتمع في سياق مؤسّسة الدّولة، أحسستُ كما لو أنّه كان يتحدّث عمّا نعيشه الآن.

هنا عنّ لي أن أشرك القرّاء، بما في ذلك القحّاتة (سفهاء الأسافير يمتنعون وكذلك أغبياء الأسافير) وغير القحّاتة. إذن هلمّوا بنا إلى استعراضي لما قاله هيقل عن هذا الموضوع.
★★★
في معرض تحدّيات ما بعد الحداثة، من حيث علاقة الفرد بنفسه ثمّ علاقته بمجتمعه، ذلك في سياق مؤسّسة الدّولة، يقتضي الأمرُ منّا استعراض ما قاله هيقل هنا عن الإنسان إزاء الدّولة، ذلك في فلسفته عن التّاريخ. فهو يبدأ بالإنسان الفرد Individual، وهو الحالة الفردانيّة للإنسان، لكن ليس الإنسان المتوحّد Solitary، المستوحش أو المغترب alienated، بل ذلك الإنسان الذي بحكم بدائيّة الحياة في الأزمنة السّحيقة لم يكن يملك أيّ وعي بخلاف وعيه الذّاتي، حيث لم يكن هناك وعي آخر قد تبلور بعد بأيّ شيء خارج ذاته. بعد ذلك ينتقل هيقل إلى مرحلة تطوّريّة أخرى للإنسان، ألا وهو البطل Hero، ويعني به أولئك الذين تمكّنوا في مراحل تاريخيّة، أيضاً موغلة في القدم، من اصطناع الجماعة، أي المجتمع، ثمّ الدّولة الإمبراطوريّة، مثل الإسكندر الأكبر، ومثل بعانخي .. إلخ. بعد ذلك ينتقل هيقل إلى مرحلة تطوّريّة أخرى للإنسان، ألا وهي مرحلة الإنسان المواطن Citizen، وهذا المواطن قد بدأ أوّل ما بدأ في نظام “دولة المدينة” City-State في اليونان (أو ما يعرف باسم Polis)، ثمّ بعدها في الجمهوريّة الرّومانيّة (509 ق.م. ـ 27 ق.م.)، وبعدها في الإمبراطوريّة الرّومانيّة بقيادة (27ق.م. ـ 476م)، لتنقسم بعدها ما بين أوغسطس الإمبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة ًWestern Roman Empire وعاصمتها روما، مقابل الإمبراطوريّة البيزنطيّة Byzantine Empire (476م ـ 1453م) وعاصمتها القسطنطينيّة. وقد انتهت الأخيرة بسقوط القسطنطينيّة وبداية الإمبراطوريّة العثمانيّة. كلّ ذلك ريثما تطل على البشريّة شمس معاهدة ويستفاليا التي مهّدت الأرض والطريق لما كان يقصده هيقل، فكانت دولة المواطنة تأسيساً على الدستور لأولة دولة مستقلّة ذات سيادة.
★★★
في كلّ هذه الحقب السابقة كان المواطن (الحرّ طبعاً)، هو أساس الدّولة. بعد ذلك يتناول هيقل المستوى الذي يلي من حيث تطوّر الإنسان، ألا وهو الإنسان الشّخص Person، وهو هنا يعني به ذلك الإنسان الأخلاقي الذي يعمل من أجل تحقيق الأخلاق وخدمتها فيما يعني عمليّاً خدمة الآخرين وتقديمه لهم على حساب نفسه، وبذلك يحقّق ذاتَه من حيث انتمائه للآخرين ووعيه بأنه فرد بين مجوعة Communitarianism، أي مجتمع؟ وهذا نفسه مفهوم تحقيق الذّات، وعدم الاغتراب. وكل هذا الانتماء يتحقّق (وهذا هو الأهمّ) عبر مؤسّسة الدّولة (فاستقلاليّة الإنسان هي المدخل الذي تطوّرت عبره استقلاليّة الدّولة، لا غرو في ذلك فالدّولة هي صنيعة بشريّة في المقام الأوّل). ثمّ أخيراً يأتي هيقل لآخر تطوّر للإنسان، ألا وهو الإنسان الضّحيّة Victim، وهو مفهوم قد أخذه من الفيلسوف نيتشه Nietzsche، (مفهوم الإنسان الأخير The Last Man). وهيقل هنا لا يقصد الإنسان الذي يقع ضحيّة لظلم الآخرين وتجنّيهم عليه.
★★★
الضّحيّة هنا هو “ضحيّة التّاريخ”، ويقصد به هيقل ذلك الإنسان الفرد المذرّر Atomized Individualism الذي يتّصف بقدر كبير من الجهل بجوهر الحياة، فهو لا يعرف غير نفسه، وهو إنسان يجري وراء نزواته ومتعه المباشرة Hedonistic. وكما قال بول كراوس Paul Crause (2019) “الضّحيّة هو في جوهره النّموذج الأصلي archetype لليبرالي Liberal” (الآن الليبرالي الجديد Neoliberal).
★★★
يصف هيقل طبيعة الضّحيّة بقوله إنّه أُنقوضة Antithesis الإنسان الشّخص Person، وكذلك هو أنقوضة الإنسان المواطن Citizen، ثمّ، أخيراً وليس آخراً، هو أنقوضة الإنسان البطل Hero. فالضّحيّة يعزل نفسه عن المجتمع لأنّه لا يفعل شيئاً إلاّ لنفسه. وعليه، الضّحيّة ليس هو الشّخص Person، ذلك لأنّه لا يخدم إلاّ نفسه ولا يفكّر في خدمة الآخرين، دع عنك أن يجد نفسه في ذلك. والضّحيّة كلك ليس هو البطل Hero، ذلك لأنّه لا يفكّر في، كما ليس في استطاعته، اجتراح المكرمات وصناعة الشّعب ثمّ صناعة المجد لهذا الشّعب.
★★★
باقتباس كلمات بول كراوس في شرحه لما يعنيه هيقل بمفهوم الإنسان الضّحيّة: “في المشروع العام Larger Schema لرؤية هيقل، عندما يتحوّل المجتمع إلى مجتمع ضحايا a community of victims، عندها يقوم المجتمع بذرّرة نفسه atomizes itself وبالتّالي فإنّه يتفكّك disintegrates. وهذا يمثّل موت المجتمع، وكذلك موت النّاس ثمّ موت الثّقافة أيضاً. بهذا يكون المجتمع كلّه قد تمّ ترحيلُه وتجاوزه من قبل التّاريخ. فلضّحيّةُ لا يفهم التّاريخ! الضّحيّةُ لا يفهم المجتمع! الضّحيةُ لا يفهم السّلوك الأخلاقي! الضّحيّةُ لا يفهم بالمرّة معنى الحياة! بكلمات أخرى، الضّحيّةُ لا يفهم بالمرّة ماذا يعني أن تكون إنساناً”.
“In the larger schema of Hegel’s outlook, when a community because a community of victims the community atomizes itself and completely disintegrates. This represents the death of the community and the death of a culture and peoples too. The victim is entirely moved over by History. The victim doesn’t understand History. The victim doesn’t understand community. The victim doesn’t understand ethical behavior. The victim doesn’t understand the meaning of life at all. In other words, the victim doesn’t understand what it means to be human at all.”
★★★
لكأنّي بهيقل قد كتب ما كتبه أعلاه وهو ينظر إلى حال السّودان اليوم وكيف قد التقت كلمة بعض بنائه وبناته، رجاله ونسائه، المساخيط لتدميره، ذلك مقابل بدرةٍ من مال السُّحت والحرام يتلقّونه من رعاة الحرب من قوى الإمبرياليّة ووكلائها الإقليميّين، ذلك حتّى يتفانوا ويعملوا ضدّ الشّعب السّوداني وضدّ دولته. فمال السُّحت “على قفا من يشيل”، يتلقّونه كفاحاً، أو من مصروفات منظّمات المجتمع المدني، الدّوليّة والمحلّيّة. ★★★
فلو قيل لي ما هي الكلمة التي افتقدتَها فيما قاله هيقل أعلاه، لكانت مصطلح “الكمبرادورات” من طبقة الأفنديّة مقطوعي الطّاري، ممّن نالوا فرص التّعليم وفق المناهج غير الوطنيّة بحيث يفرّخ لنا التّعليم العالي هذه الطّبقة المسخوطة.
★★★
فمن يبيع وطنَه وشعبَه في سوق النّخاسة السّياسيّة عن خنىً وخضوع كن كمن يبيع أمّه وأباه في سوق الدّعارة والبغاء، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله! وكما رأينا فيما قاله هيقل، هؤلاء لا يفهمون ما يقومون به. فهم يظنّون أنّهم يحسنون صنيعا. انظروا كيف يترحّم مقاتلو مليشيات الجنجويد المجرمة على ضحاياهم، ويذرفون الدّموع، دون أن ينتبهوا إلى ما ارتكبوه في حقّ العباد والبلاد من جرائم تُخزي الإنسانَ إلى أبد الآبدين. ولنا في التّاريخ مندوحة دون أن نقلّب المواجع لضحايا مليشيات الجنجويد. فقد سبقهم إلى فعائلهم المُنكرة قبل مائتي عامٍ مجرم مثلهم اسمه الدفتردار. فماذا يعرف عنه النّاس الآن بخلاف اسمه واللعنات التي تلاحقُه؟ هذا بينما بقي الشّعب الذي استهدفه بآلة حربه دون رحمة ودون أيّ إحساس بالإنسانيّة. فمن فيهم الضّحيّة؟ الآن ونحن في حضرة التّاريخ بعد مئتي عامٍ، هل الضّحيّة هم من نكّل بهم الدفتردار، أم الضّحيّة هو الدفتردار نفسه؟
*محمد جلال أحمد هاشم
كمبالا – 25 سبتمبر 2024م

*MJH*

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الإمبراطوری ة ة الإنسان ة الد ولة الت اریخ لا یفهم

إقرأ أيضاً:

الإدارة الحكومية للإبداع

 

 

د. صلاح بن راشد الغريبي

أصل كل عمل إبداعي عقل قادر على الإيجاز والتفصيل إما بالكتابة أو الأداء أو الرسم أو بأي قالب يستوعب حصيلة التفكير في موضوع مُعين، وتنشط بعد ذلك المطابع ودور النشر أو شركات الإنتاج في إخراجه للجمهور المتلقي ذلك الجمهور المُتعدد في اتجاهاته والمتنوع في معارفه ورغباته.

ذلك الإخراج يستدعي عدة أمور منها تشريعات محددة ومفصلة، وأيضًا مؤسسات تعمل عليه، ولكن دعونا نسأل؛ هل ثمّة مُخرِجان اثنان لعمل فني ناجح أو رسّامان للوحة فنية واحدة أو شاعران لقصيدة واحدة نابعة من وجدان صادق غير متكلف؟!

كذلك لا تستطيع أي وسيلة نقل الاتجاه في طريقين مختلفين في الوقت نفسه إلا أن تكون النتيجة الدوران من نقطة والعودة إليها مرة أخرى أو الثبات التام في المكان نفسه.

كان لا بد من طرح مثل هذه التساؤلات للحصول على المغزى التالي:

لا يمكن الوصول إلى أي إنجاز واقعي وحقيقي ومفيد ما لم تستقل صناعة العمل الإبداعي سواء كان الكِتاب أو السينما أو الفنون المختلفة أو أي عمل إبداعي آخر في مؤسسة جامعة لكل مراحله من الألف إلى الياء من التشريع المنظم إلى إدارة عناصره البشرية والتقنية والفنية ومن بعد ذلك الوصول لتحقيق الأهداف ومراجعة ما أنجز منها وما لم ينجز في الإطارين الزماني والمكاني لهذه الأهداف.

وبذا نفهم أهمية ما تقوم به الحكومات في العالم والساعية للتقدم في جعل كل عمل إبداعي تحت إطار هيئة واحدة أو مؤسسة واحدة أو إدارة واحدة؛ من غير تشتيت أو تفريق لمفاصِلِه هذا المفصل لهذه الجهة وذلك لتلك والآخر لجهة أخرى كتوزيع الإرث الظالم أو توزيع فوضوي بلا ميزان ولا مبدأ.

يقع التشريع على هذه الجهة التي لا تدرك حقيقة العمل الميداني وتفاصيله المتغيرة أو تتدخل فيما لا تعيه من جوانب يعيها المتخصصون والتنفيذيون وحدهم؛ والذين يقع عليهم الكدح والبذل والتقريع والمحاسبة؛ في حين أن آخرين يحملهم الجشع لاختلاس ثمارهم الناضجة وحصادهم فيظلون كالذي يتلمظ اللقمة والثمرة التي بذرها وسقاها ولا يَطعَمُها أبدا أو يُعطى منها ما يجعلُ فمه مغلقا أو يده مزمومة عن جلّ حقه أو أكثره.

حينها تكون رغبة الموظف أو العامل الجاد في تجويد عمله في أدنى مستوياتها وتكون الحصيلة عملا سطحيا استعراضيا لا غير؛ ذلك إن تم العمل أصلا.

الخلاصة أنه لا بُدّ من مظلة واحدة تجمع كل صناعة إبداعية على حدة؛ بدءًا من المشاركة في وضع ضوابطها المجتمعية، وانتهاءً باستعراض نتائج العمل ومراجعته والعمل على تجويده وتطويره، وأن من يستحق أولًا ثمار الحصاد هو من يبذر ويزرع حتى تظل جذوة العطاء مشتعلة في نفسه وحتى لا يفقد همته وحرصه على ما يؤديه من عمل خدمة كان أو إنتاجًا.

التنظيم والعمل الجاد والمستمر والمتقن والتطوير الحقيقي لا يكون إلّا بوسيلة واحدة هي وجود هيئة أو مؤسسة مستقلة جامعة لكل عمل إبداعي مؤثر؛ سواء كان كتابًا (هيئة للكتاب) أو سينما ودراما (هيئة للسينما والدراما) وهكذا لأي عمل إبداعي بطابع إنتاجي كامل.

مقالات مشابهة

  • الإدارة الحكومية للإبداع
  • ورشة عمل في "كتاب جدة" حول فلسفة التربية
  • ورشة عمل في “كتاب جدة” حول فلسفة التربية
  • ماذا حدث للمصريين؟
  • الطمأنينة.. المعنى الحقيقي للحياة
  • معهد التخطيط القومي يعقد برنامج خدمة مجتمع حولاستراتيجية مصر 2030 ومبادرة بداية لبناء الإنسان
  • “قداسة البابا “: من الأسرة يخرج القديسون وهي التي تحفظ المجتمع بترسيخ القيم الإنسانية لدى أعضائها
  • فلسفة خاصة لمصمم هندي في تنظيم الحفلات الضخمة وتقديم الهدايا
  • كأس العرب ... وكأسك يا وطن!
  • النائب نصار القيسي يدعو الحكومة للانتباه للوجدان الأردني