يعيش المعلمون اليمنيون، ظروفا معيشية واقتصادية غاية في التعقيد والصعوبة، جراء تدهو الأوضاع المعيشية والإقتصادية في البلاد الغارقة بالحرب منذ عشر سنوات.

 

يحتفل العالم باليوم العالمي للمعلم، اليوم السبت، في الوقت الذي لا يجد المعلم اليمني ما يسد رمقه فضلا عن أطفاله وأسرته التي يعولها، بالتزامن من استمرار قطع مرتبات المعلمين وبقية موظفي الدولة منذ أكتوبر 2016م، في مناطق سيطرة الحوثيين.

 

يتشابه الحال للمعلم اليمني في مناطق سيطرة الحكومة، إذ أن الحكومة الشرعية تقوم بصرف المرتبات بعكس جماعة الحوثي التي قطعت الرواتب منذ قرابة تسع سنوات، غير أن راتب المعلم في مناطق الحكومة تضاءلت قيمته الحقيقة وتراجعت بشكل غير مسبوق نتيجة الغلاء وانهيار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، في الوقت الذي لم يطرأ على الرتب أي زيادة توازي الغلاء وانهيار العملة الوطنية.

 

اليمنيون بكل مكوناتهم الإجتماعية المختلفة بمن فيهم شريحة المعلمين، ومنذ عقد كامل من الإنقلاب والحرب التي تشهدها البلاد، عانوا الكثير من الأزمات المختلفة والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها من ضمن أسوأ الأزمات في العالم.

 

حياة هي الأقسى

 

"أمين البعداني" أحد المعلمين بمحافظة إب وسط اليمن، قال لـ "الموقع بوست"، إن حياة المعلم باتت مفضوحة أمام الملأ حيث لا رواتب ولا كرامة للمعلمين منذ عقد كامل، مشيرا إلى أن توقف صرف المرتبات ألقت بتبعاتها الكارثية على حياة المعلمين خلال السنوات الماضية.

 

البعداني أكد أن استمرار قطع المرتبات جعل حياة المعلمين هي الأسوأ والأقسى داخل المجتمع المحلي، وأن مواصلة قطع الرواتب يقود لأجيال تعيش الجهل، حيث تسرب آلاف التلاميذ من مدارسهم للعمل في مهن لا عائد حقيقي منها، غير أن تبعات الوضع جعلت الأسر ترضى بالقليل من العوائد المادية، لافتا إلى الرسوم التي تفرض داخل المدارس تحت مسمى المشاركة المجتمعية جعلت الكثير من الأسر تخرج أبناءها من المدارس وتزج بهم في العمل بالشوارع لمساعدة الآباء في توفير لقمة العيش.

 

حراك قابله قمع وتنكيل

 

حاول العديد من المعلمين خلال السنوات الماضية، إيجاد حراك حقوقي لنيل مرتباتهم المتوقفة، غير أن القبضة الأمنية الكبيرة لجماعة الحوثي وعمليات القمع حالتا دون نجاح الحراك الحقوقي لصرف مرتبات المعلمين وجرى الزج بقيادة نادي المعلمين في السجون خلال مطلع العام الماضي، الأمر الذي ساهم في زيادة المعاناة للمعلمين الذين لم يجدوا أي وسيلة ضاغطة لصرف مستحقاتهم المالية.

 

بدأ العام الدراسي في مناطق الحوثيين هذا العام باكرا، بعكس مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وسط دعوات خافتة للإضراب للمطالبة بصرف المرتبات، غير أن الأصوات الخافتة ضاع تأثيرها في ظل عمليات القمع والتنكيل التي طالت قيادة نادي المعلمين العام الماضي، الأمر الذي ساهم في إنهيار العملية التعليمية بشكل واسع.

 

حياة بين المنافي والسجون والمقابر

 

نقابة المعلمين اليمنيين، قالت في بيان لها، "يحتفل العالم اليوم بمناسبة اليوم العالمي للمعلم (5 أكتوبر) وهي مناسبة يُشيد بها الجميع بمكانة المعلم وبما يقدمه من بذل وعطاء لرفعة الشعوب وتقدم الدول إضافة إلى تكريم المعلم بما يتواكب مع نضاله وتضحياته".

 

وأضافت النقابة، بأنه ومع احتفال العالم بيوم المعلم إلا أن المعلم اليمني وللأسف الشديد يعيش منذ 9 سنوات وضعا ماديا مأساويا تجاوز فيه مستويات المعاناة والألم التي لم تقف عند شخص المعلم فقط وإنما تجاوزته إلى مئات الآلاف من الأسر التي يعولونها والتي تعدت خط الفقر إلى خط القبر.

 

 

وأوضحت النقابة أن غالبة منتسبي المجال التعليمي والتربوي يعيشون حياة توزعت بين المنافي والسجون والمقابر، ومن كُتبت له الحياة فإنه يُمارس مهنته المقدسة محروما من أبسط حقوقه وهو الراتب الشهري والذي لا يستلمه اصلا في مناطق سيطرة الحوثي وإن صُرف نصف الراتب الزهيد ففي أوقات غير منتظمة وقد تمر الثلاثة الأشهر وأكثر من ذلك والمعلم يقتات المعاناة والألم".

 

وأكدت أن المعلم اليمني ورغم المعاناة التي يكابدها، فإنه يظل مؤديا لواجبه في تربية وتعليم النشء إيمانا منه بالواجب الوطني والإنساني وحرصا منه على ديمومة الحياة التعليمية في ظل الوضع الكارثي الذي حل باليمن والأزمة التي عصفت بحقوق المعلم المشروعة والتي كفلها الدستور والنظام والقانون المحلي والدولي والعهود والمواثيق الدولية في أوقات السلم والحرب.

 

وبينت النقابة، أن المعلم اليمني في مناطق سيطرة الشرعية وان صرف له راتبا كاملا ومنتظما الا انه لا يسد الحاجة بحكم تدهور العملة وضعف القيمة الشرائية للريال اليمني.

 

ودعت نقابة المعلمين اليمنيين في هذا اليوم العالمي للمعلم، المجتمع الدولي والضمير العالمي فيه والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية ذات العلاقة الى ممارسة كافة أشكال الضغط على الجماعة المتحكمة في صنعاء بسرعة صرف رواتب المعلمين ومنتسبي قطاع التربية والتعليم وفق القانون الدولي والتي تم حرمانهم منها منذ تسع سنوات وإعادة جميع المعلمين والمعلمات الذين اسقطت أسماؤهم من كشوفات الراتب وحرمانهم من وظائفهم دون أي مسوغ قانوني وصرف مستحقاتهم كاملة باثر رجعي ومستمر.

 

مطالبات بزيادة الرواتب

 

وطالب بيان نقابة المعلمين، سلطات الدولة الشرعية ممثلة برئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي واعضاء المجلس؛ ورئيس الوزراء أحمد عوض بن مبارك بإيلاء المعلم اليمني في جميع ربوع البلاد كافة الاهتمام والرعاية مؤكدا أن أقل هذا الاهتمام هو "اعتماد راتبا يوفر له حياة إنسانية كريمة ليتمكن من مواجهة شبح الجوع والفقر الذي يحيط به وبأسرته وحتى يتمكن من اداء واجبه التربوي والتعليمي بإيجابية أكثر محققا الأهداف التربوية والتعليمية والقيم النبيلة".

 

كما طالبت النقابة الحكومة اليمنية، بسرعة صرف مستحقات المعلمين والمعلمات النازحين، في عدد من المحافظات الخاضعة للشرعية اليمنية.

 

وجددت النقابة، مطالبتها بسرعة إطلاق سراح المختطفين من المنتسبين لقطاع التربية والتعليم مشيرة إلى المختطفين في سجون الحوثيين، والذين يقبعون في المعتقلات منذ تسع سنوات وعلى رأسهم النقابي البارز الأستاذ سعد النزيلي نقيب المعلمين بأمانة العاصمة إضافة إلى الذين تم اختطافهم مؤخرا بالتزامن مع احتفالات الشعب اليمني بالذكرى الثانية والستين لثورة 26 سبتمبر بسبب تعبيرهم عن فرحتهم بهذه المناسبة الخالدة في نفوس كل اليمنيين

 

167 ألف معلم

 

ويهدد توقف الرواتب لقرابة 167 ألف معلم ومعلمة بمناطق الحوثيين، منذ قرابة تسع سنوات، بمواصلة التراجع غير المسبوق في العملية التعليمية والتحصيل الدراسي للطلاب وتسرب التلاميذ من المدارس.

 

ومنذ نقل البنك المركزي في أكتوبر 2016م، من صنعاء إلى العاصمة المؤقتة للحكومة الشرعية عدن، بعد استنزاف جماعة الحوثي للاحتياطي الأجنبي، لم يتقاضَ 166 ألف و443 معلما ومعلمة في 13 محافظة خاضعة لسيطرة الحوثيين رواتبهم، خلافا للمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة.

 

معاناة وسجون

 

الشاب منير المنجري، سرد معاناة والده المعلم، حيث كتب في صفحته على منصة فيسبوك: في يوم المعلم سأحكي لكم قصة والدي المعلم اليمني والانسان التربوي الذي جاهد معظم حياته في تنشئة الأجيال وتعليمهم لأكثر من 20 عاما وجزاء لذلك انقطعت مرتباته منذ حوالي 9 سنوات مما أوصل حالة هذا المعلم الى اصابته بذبحة قلبية حادة واضطرارنا لتركيب قسطرة قلبية ليستمر معها في حياة لا تفرق عن الموت شيء ، ولكنه وبرغم ذلك كان حامدا شاكرا لربه ولم تهزمه الظروف قط".

 

 

المنجري أضاف بالقول: "لم تنتهي الحكاية بعد، هذا المعلم وبرغم صبره والتزامه لمنزله تم اعتقاله ـ من قبل الحوثيين ـ في 20 سبتمبر من العام 2024 والزج به بسجن لا نعلم عنه شيئاً ولم يسمح لنا بزيارته او الاطمئنان عليه حتى لحظة كتابة هذه الكلمات".

 

وأشار إلى أنهم تجنبوا الكتابة عن اختطاف والده بغية الإفراج عنه غير أن تلك المحاولات والوساطات المحلية لم تنجح بالإفراج عنه بالرغم من وضعه الصحي، مطالبا الحوثيين بسرعة إطلاق سراح والده، محملا إياهم كامل المسؤولية عن سلامة وصحة المعلم "عبد الخالق المنجر".

 

تدهور التعليم وتفشي الجهل

 

الشبكة اليمنية لروابط الضحايا أكدت أن الأوضاع المأساوية للمعلمين اليمنيين، أدت إلى تدهور حاد في مستوى التعليم في اليمن، وتفشي الجهل والأمية بين صفوف الشباب.

 

وطالبت الشبكة اليمنية لروابط الضحايا في بيان لها، بصرف مرتبات المعلمين ومستحقاتهم بشكل منتظم، لضمان استقرارهم المعيشي وتمكينهم من أداء مهامهم التعليمية على أكمل وجه، بالتزامن مع اليوم العالمي ليوم المعلم والذي يصادف الخامس من أكتوبر من كل عام.

 

وقال بيان صادر عن الشبكة اليمنية لروابط الضحايا: "يحتفل العالم في الخامس من أكتوبر من كل عام باليوم العالمي للمعلم، تقديراً لدوره المحوري في بناء الأمم وتطوير المجتمعات. إلا أن المعلم اليمني يستقبل هذه المناسبة وهو يعاني من انتهاكات جسيمة لحقوقه الأساسية، مما يحول هذه الذكرى إلى يوم حزين بدلاً من يوم احتفاء".

 

وأضاف البيان أنه ومنذ ما يقارب عشر سنوات من الحرب التي تسبب بها إنقلاب جماعة الحوثي على الدولة ومؤسساتها، يعاني المعلم اليمني من أزمة إنسانية متفاقمة، تتمثل في حرمانه من حقوقه المالية والمدنية والسياسية، وتعرضه لمختلف أشكال العنف والانتهاكات، بما في ذلك الاعتقال التعسفي والاختطاف والتهجير القسري.

 

وأدانت الشبكة اليمنية لروابط الضحايا، بشدة جميع أشكال الانتهاكات التي يتعرض لها، خاصة في مناطق سيطرة الحوثيين، مطالبة المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بالتحرك العاجل لإنهاء هذه الانتهاكات، وضمان حصول المعلمين على حقوقهم كاملة غير منقوصة.

 

ودعا البيان، لتوفير بيئة عمل آمنة للمعلمين، حفاظًا على حياتهم وكرامتهم، ولتشجيعهم على الاستمرار في عملهم، والإفراج الفوري عن جميع المعلمين المعتقلين والمختطفين من سجون الحوثيين وضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات. مطالبا بتوفير الدعم اللازم لإعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية التي تأثرت بسبب الحرب، والعمل على تطوير المناهج الدراسية بما يتناسب مع احتياجات المجتمع اليمني.

 

رشاد الراشدي كتب قائلا: 5 أكتوبر يوم المعلم العالمي، وبهذه المناسبة اتوجه بالتحية لكل معلم، أينما كان وتحت أي سماء، سلام إلى أعظم شريحة في المجتمع إلى كل معلم ومعلمه، الى صناع الامل وصناع المستقبل، سلام إلى من زين العقول بأروع المعاني، وألف سلام الى صناع المستقبل المشرق".

 

وأضاف الراشدي: "مما يؤسف أن يأتي هذا اليوم والمعلم اليمني يمر بظروف قاهرة بالغة الصعوبة خلافا على معلمي الأرض كلها، أنهكته الأوضاع، وأصبح في عداد الأشد فقراً، لم يعد يحلم بامتيازات ولا علاوات ولا تحسين وضع بقدر ما يحلم براتبٍ يسدُ بِه جوع أبنائه..".

 

وأردف: "ما نهض بلد ولا ازدهرت أرض إلا وكان  المعلم أُس البناء ولبنة النهضة، مطالبا بمعاملة المعلم بما يليق بمكانته ومنحه راتب وزير، وأن تكون له امتيازات لا يحصل عليها غيره، حد قوله.


المصدر: الموقع بوست

كلمات دلالية: نقابة المعلمين اليمن التعليم مليشيا الحوثي الحرب في اليمن الیوم العالمی للمعلم فی مناطق سیطرة سیطرة الحوثی یوم المعلم تسع سنوات غیر أن

إقرأ أيضاً:

رئيس قسم البرامج بـ «قطر للتطوير المهني» في حوار لـ «العرب»: التوجيه السليم مرتكز بناء هوية المعلم القطري

رحلة التمكين المهني تبدأ من المراحل التعليمية الأولى
الوعي المبكر يجعل التعليم خياراً مهنياً نبيلاً وهادفاً
الإرشاد يضمن استدامة الكادر الوطني بالحقل التربوي
الدولة تسعى لبناء اقتصاد معرفي يجعل التعليم ركيزة أساسية

 

أكد السيد محمد علي اليافعي، رئيس قسم البرامج والخدمات المهنية في مركز قطر للتطوير المهني، من إنشاء مؤسسة قطر، أن وجود نظام توجيه مهني فعّال داخل المدارس أحد المرتكزات الأساسية لاستقطاب الشباب القطري نحو سلك التعليم، مشدداً على أن رحلة التمكين المهني تبدأ من المراحل التعليمية الأولى، منوها بضرورة الاستكشاف المبكر لمسار التدريس.
وقال في حوار مع «العرب» إن وعي الطلبة المبكر بالمهن وبيئات العمل، يعزّز فرص تبنّيهم لمسارات تتماشى مع قيمهم الشخصية، وان إتاحة فرصة الاطلاع على واقع العمل التربوي للطالب في سن مبكرة يكون صورة واقعية وإيجابية عن التعليم كخيار مهني نبيل وهادف، مشيراً إلى أن نظام التوجيه المهني السليم يؤدي إلى بناء الهوية المهنية للمعلم القطري، ويُسهم في القدرة على التكيّف مع المتغيرات السريعة في بيئة التعليم.. إلى نص الحوار..

◆ كيف يُساهم وجود نظام توجيه فعّال داخل المدارس في دعم المعلّمين القطريين الجدد؟
¶ يُعدّ وجود نظام توجيه مهني فعّال داخل المدارس أحد المرتكزات الأساسية لاستقطاب الشباب القطري نحو سلك التعليم، إذ تبدأ رحلة التمكين المهني منذ المراحل التعليمية الأولى، وتُبنى تدريجيًا عبر منظومات متكاملة تصقل الهوية وتُعزّز الانتماء للمهنة التربوية.
فأولًا، يساهم هذا النظام في الاستكشاف المبكر لمسار التدريس، إذ تشير نظريات التطوير المهني الحديثة إلى أن وعي الطلبة المبكر بالمهن وبيئات العمل المرتبطة بها يعزّز من فرص تبنّيهم لمسارات تتماشى مع قيمهم الشخصية. وهذا ما يُعزز دور طموحاتهم الفردية في تشكيل ملامح مستقبلهم المهني. فعندما تتاح للطالب فرصة الاطلاع على واقع العمل التربوي في سن مبكرة، أو يشارك في تجارب واقعية كبرامج «المعايشة المهنية» التي يقدّمها مركز قطر للتطوير المهني ضمن مبادراته المختلفة، تتكوّن لديه صورة واقعية وإيجابية عن التعليم كخيار مهني نبيل وهادف، مما يُسهم في توسيع قاعدة المُقبلين على هذه المهنة من أبناء الوطن.
علاوة على ذلك، يؤدي نظام التوجيه إلى بناء الهوية المهنية للمعلم القطري، لأن توفير منظومة توجيه متكاملة تدمج بين التدريب الفردي، والتوجيه الجماعي داخل الصفوف، بالإضافة إلى برامج المعايشة في بيئة العمل الحقيقية داخل المدارس، يُسهم في تسهيل المرحلة الانتقالية من الدراسة إلى سوق العمل. كما يمنح المعلم الجديد دعمًا مهنيًا متواصلاً خلال سنواته التأسيسية، والتي تُعدّ من أدق وأهم مراحل المهنة، نظرًا لتأثيرها الكبير على قراره بالاستمرار في المسار التربوي أو الانسحاب منه. ومن هنا، يصبح التوجيه وسيلة استراتيجية لمواجهة ظاهرة التسرب الوظيفي وتعزيز الاستقرار المهني.
أما على صعيد المهارات الشخصية والمهنية، فإن التوجيه المهني السليم والفعّال يُسهم أيضًا في تعزيز مهارات التكيّف المهني، مثل المرونة، والابتكار، والقدرة على التكيّف مع المتغيرات السريعة في بيئة التعليم. فالتوجيه المهني الصحيح يقلل من صدمة الواقع التي قد يواجهها المعلم عند الانتقال من التصوّرات النظرية إلى التجربة العملية، لا سيما إذا كانت تلك التصوّرات مبنية على انطباعات مغلوطة أو معرفة مجتزأة. ومع خفض هذه الفجوة، تزداد فرص تحقيق الرضا المهني، ويترسّخ الالتزام بالمهنة، ما ينعكس إيجابًا على البيئة التعليمية بأكملها.

◆ ما دور الإرشاد الأكاديمي والمهني في تعزيز استدامة الكادر القطري؟
¶ في ظلّ التحولات المتسارعة التي يشهدها قطاع التعليم حول العالم، بات من الضروري النظر إلى الإرشاد الأكاديمي والمهني ليس كخدمة مكمّلة، بل كعنصر جوهري لضمان استدامة الكادر الوطني في الحقل التربوي، خصوصًا في دولة مثل قطر تسعى إلى بناء اقتصاد معرفي يعوّل على التعليم كركيزة أساسية.
ويتمثل أحد أبرز أدوار الإرشاد الأكاديمي والمهني في تصميم مسارات تقدّم مهنية واضحة للمعلمين. فقد أظهرت الأبحاث أن غياب الرؤية الواضحة حول آفاق التطور المهني يشكل عاملًا أساسيًا في انخفاض الرضا الوظيفي، بل وقد يؤدي إلى تسرب الكوادر من المهنة. وهذا الواقع لا يستثني المعلمين، بل يُعدّ أكثر إلحاحًا في القطاع التربوي. ومن هنا، يبرز دور الإرشاد المهني في رسم خارطة واضحة للمسار الوظيفي، تُظهر الكفاءات والمهارات التي يحتاج المعلم إلى تطويرها تدريجيًا للانتقال من موقع المعلم المبتدئ إلى موقع القائد التربوي.
علاوة على ذلك، فإن الإرشاد المهني الفعّال يسهم في الربط بين القيم الفردية للمعلمين وأهداف التنمية الوطنية. فعندما يحصل المعلم على توجيه يوضح كيف يتقاطع دوره اليومي داخل الفصل الدراسي مع رسالة الدولة الكبرى في بناء مجتمع قائم على المعرفة والتنمية المستدامة، يشعر بأهمية مساهمته في دفع عجلة التقدم الاجتماعي والاقتصادي. وهذا الشعور بالجدوى يشكل محفزًا داخليًا قويًا يدفعه للاستمرار والعطاء في مهنته على المدى الطويل.
ولأنّ استدامة الكادر الوطني لا تتحقّق دون تأسيس ثقافة مؤسسية محفّزة، يُعد ترسيخ ثقافة التعلم مدى الحياة من خلال التطوير المهني خطوة محورية. فالإرشاد لا يهدف فقط إلى تحسين المهارات الحالية، بل إلى بناء عقلية النمو والتطور المستمر. وعندما يصبح التطوير المهني جزءًا لا يتجزأ من البيئة التعليمية، وليس مجرد مبادرة مؤقتة، يصبح المعلم القطري أكثر قدرة على التكيّف مع التحولات التربوية والتكنولوجية. بل ويغدو مؤهلًا لتوسيع نطاق أثره، فينتقل من أداء المهام التدريسية إلى شغل أدوار قيادية وإدارية داخل المنظومة التعليمية.
في المحصلة، فإن بناء منظومة إرشادية قوية وديناميكية لا يقتصر أثره على دعم الأفراد، بل يمتد ليضمن بقاء الكفاءات الوطنية في صميم العملية التعليمية، ويعزز من جاهزيتها للمساهمة في تحقيق رؤية قطر الوطنية وتنمية رأس المال البشري المستدام.

◆ كيف يسهم ربط التدريب المهني باحتياجات الخريجين في تقليص الفجوة مع سوق العمل؟
¶ الخريج حول العالم، ودولة قطر ليست استثناءً، لم يعد قادرًا على الاكتفاء بالمعرفة النظرية فحسب، بل يحتاج إلى بناء باقة من المهارات والخبرات العملية التي تتيح له دخول السوق بثقة وكفاءة. وتعزيز قابلية التوظيف والاستعداد المهني الفعلي للخريجين يبدأ بمرحلة تصميم البرامج الأكاديمية. فعندما يستند التدريب الجامعي إلى احتياجات فعلية ومباشرة في سوق العمل، يتحوّل من كونه تجربة تعليمية نظرية إلى مسار تأهيلي عملي وموجه. وهنا، يظهر الفارق الكبير بين خريج تلقى تدريبًا عامًا، وآخر أُعدّ داخل بيئة تحاكي واقعه المهني المستقبلي. الخريجون الذين يتلقون هذا النوع من التدريب يكونون أكثر إدراكًا لطبيعة الوظيفة، ويحتاجون وقتًا أقل للتكيّف بعد التعيين، مما ينعكس إيجابًا على معدلات استقرارهم واستمرارهم الوظيفي، لا سيما في القطاع الخاص، الذي يتطلّب مرونة وكفاءة عالية. هذا التوجه يقلل من معدلات التسرب الوظيفي، ويُسهم في خلق جيل من الكوادر الوطنية الجاهزة للعمل بمجرد تخرّجها.
كما يجب الاعتراف بأن سدّ الفجوة بين التعليم وسوق العمل لم يعد خيارًا، بل أولوية وطنية. فمن أبرز التحديات التي قد تواجه المنظومات التعليمية في أي دولة اليوم هو التباين بين ما يتلقاه الطالب من معارف داخل المؤسسة الأكاديمية، وبين المهارات المطلوبة في بيئة العمل الحقيقية. وتُشجع هذه الفجوة، التي قد تؤدي إلى بطالة مقنّعة أو الحاجة إلى إعادة تأهيل الخريجين، المؤسسات التعليمية على تحديث برامجها وتطوير مناهجها. ويأتي ذلك بالتنسيق الوثيق مع سوق العمل، لضمان توافق المخرجات الأكاديمية مع الواقع العملي، وإدماج مهارات قابلية التوظيف والمهارات الشخصية القابلة للنقل ضمن محتوى التدريب الجامعي.

◆ ما دور المبادرات القائمة على التطوير المهني في فتح آفاق جديدة أمام الخريجين القطريين؟
¶ في ظلّ التحديات المتزايدة التي تواجه الخريجين القطريين في سوق العمل، تبرز أهمية المبادرات التي تركز على التطوير المهني كوسيلة فعّالة لإعادة توجيه الكوادر الوطنية، وتمكينها من الانخراط في مسارات وظيفية متنوعة تواكب تطلعات التنمية الوطنية. فهذه المبادرات لا تقتصر على تقديم مهارات تقنية فقط، بل تُعيد تعريف العلاقة بين التعليم وسوق العمل، وتفتح آفاقًا جديدة أمام الشباب القطري لتبنّي مهن كانت قد تبدو سابقًا بعيدة عن تخصصاتهم الأكاديمية.
ومن بين هذه المبادرات الناجحة التي يمكن الاستشهاد بها كنموذج يحتذى به، تأتي مبادرة «علّم لأجل قطر»، التي تُعد مثالًا رائدًا في تأهيل الخريجين من مختلف التخصصات الأكاديمية للانخراط في مهنة التعليم، عبر اعتماد نهج علمي واستراتيجي يجمع بين التدريب الأكاديمي والتطوير المهني المستمر. وقد حققت المبادرة نجاحًا ملحوظًا في تحفيز الكفاءات الوطنية للانضمام إلى هذا المجال الحيوي.
وساهمت المبادرة في تغيير التصورات التقليدية عن التدريس، فأصبح يُنظر إليه ليس فقط كمهنة، بل كرسالة ذات أثر مجتمعي مباشر، ما ساعد في جذب الكفاءات الوطنية التي ربما لم تكن تفكر سابقًا في هذا المسار. ويرجع الفضل في نجاح هذه التجربة إلى تبني مفهوم التطوير المهني كعنصر محوري، إذ وفّر الإطار المنهجي والتوجيه المستمر للخريجين الجدد، ودمجهم في بيئة تعليمية داعمة تعتمد على ثقافة التعلّم مدى الحياة، ما ضمن لهم بداية مهنية قوية ورؤية واضحة لمسارهم الوظيفي.
وانطلاقًا من هذه التجربة الناجحة، ومن القناعة الراسخة بأهمية التخطيط المهني المستدام، يعمل مركز قطر للتطوير المهني، بالتعاون مع مختلف الشركاء، وفي مقدمتهم وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي ووزارة العمل، على بناء منظومة متكاملة للتطوير المهني على المستوى الوطني. وتهدف هذه المنظومة إلى تعميم النهج المتبع في «علّم لأجل قطر» ليشمل قطاعات متعددة، وتعزيز ثقافة التخطيط المهني والتعلّم المستمر، بما يمكّن الأجيال القادمة من اتخاذ قرارات مهنية مدروسة تتماشى مع متطلبات سوق العمل، وتخدم أهداف رؤية قطر الوطنية 2030 في إعداد رأس مال بشري عالي الكفاءة.

قطر مركز قطر للتطوير المهني المعلم القطري

مقالات مشابهة

  • «تشات جي بي تي» يغير قواعد التعليم.. هل انتهى عصر المعلم؟
  • سطيف.. 10 سنوات حبسا لمحطم المعلم التاريخي عين الفوارة 
  • المحرّمي: سقوط الحوثيين بات أمراً وشيكاً
  • اليمن لن يسكت على الخونة والمتواطئين .. السيد القائد يوجه الشعب اليمني بهذا الأمر
  • ادراج 26 موقعًا تراثيًا وطبيعيًا في اليمن بالقائمة التمهيدية للتراث العالمي
  • رئيس قسم البرامج بـ «قطر للتطوير المهني» في حوار لـ «العرب»: التوجيه السليم مرتكز بناء هوية المعلم القطري
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس الشرع تعمل بشكل متواصل لحل جميع المشكلات التي تواجه الشعب السوري، وخاصة الاقتصادية منها، بهدف دفع عجلة التنمية وتحسين نوعية حياة المواطنين
  • اليمن يُحيي اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر
  • الفلبين تطلب من "الدول الصديقة" المساعدة في تحرير 9 بحارة محتجزين لدى الحوثيين في اليمن (ترجمة خاصة)
  • وزير الدفاع اليمني يكشف عن خطة استراتيجية بمشاوكة أربع دول لإقتلاع الحوثيين من اليمن لكنه أصيب بالصدمة .. عاجل