صحيفة الاتحاد:
2025-07-05@13:47:03 GMT

في الفلسفة: تأمل في النقطة اللانهائية

تاريخ النشر: 6th, October 2024 GMT

في 1 ديسمبر 1930 استقل الأديب الفرنسي أنطوان دو سانت اكزوبيري طيارته. كانت صبيحة جميلة، وغطى سراب المجهول على أنفاسه. حلق عالياً ثم اختفى كشعاع من الضوء، ابتلعه ظلام المجهول. لم يعرف لحد الآن مصير صاحب «أرض البشر». هل اجتاز حاجز الزمن وانتقل إلى عالم آخر؟ أم أنه ذهب يحلق بأجنحة الحرية، مستكشفاً سر الوجود.

ففي ظل هذا الكون المليء بالألغاز والغموض تتحول الحياة إلى متاهة كبيرة. وكما قال في روايته تلك: «القوة الحقيقية للإنسان تنبع من داخله، من إرادته وتصميمه على التحليق عالياً».
لطالما تم النظر إلى الوجود، خصوصاً في الفلسفة الأنوارية العقلانية، على أنه مجال معطى قابل للحساب. فالغموض والالتباس هما أمران عارضان سيتمكن العقل من استجلائهما. والحال أنه بداية من الفلسفة المعاصرة سيبدأ هذا الاعتقاد في التزحزح. لقد أصبح الغموض والتعقيد بنية أساسية مكونة للوجود. فالحياة تشبه متاهة لا نهائية مليئة بالعراقيل والتحديات، على عكس النسق الهيجيلي الخاضع للترتيب المنطقي الصارم، يبدو عالمنا مليئاً بالتناقضات غير القابلة للحل، والاختلافات الصعبة المعالجة. «الهوية اللانهائية» كما سماها جيل دولوز والتعدد الذي يستحيل اختزاله داخل وحدة متطابقة. في المتاهة لا توجد قواعد أو ترتيبات محددة، بل فقط تدفق لا نهائي للتعدد والاختلاف. هيراقليطية من دون هدف محدد تسعى إليه، باستثناء التحرر والنمو الذاتي. 
في كتابهما «ألف هضبة»، يؤكد جيل دولوز وفليب غواتاري، أن الواقع ليس كياناً مستقراً وثابتاً، بل هو عبارة عن شبكة من الأسطح المتعددة، المتداخلة والمترابطة مع بعضها بعضاً. لذلك يستخدم الكاتبان فكرة الريزوم أو الجذمور، والمقصود به أن الأفكار والمفاهيم تمتد على شكل جذور متفرعة وعرضية، تماماً كما تفعل النباتات، عندما تمد جذورها بشكل متشابك ومعقد داخل التربة، منتجة تبرعمات وتفرعات لا نهائية. وإذا كان الحال كذلك فهذا معناه أن قراءتنا للواقع، لا يمكن أن تكون خطية ومباشرة. لابد من تطوير طرق جديدة وغير تقليدية، من أجل فهم الوجود والتفاعل معه. 
هل الوعي مرض؟ يقول الفيلسوف الإسباني أونامونو: «إن الإنسان لكونه إنساناً، لكونه يمتلك الوعي، هو قياساً بالحمار أو السرطان حيوان مريض، والوعي مرض». إن ما يود أن يكشف عنه أونامونو في هذا القول، هو الطابع المزدوج للوعي البشري. إنه من ناحية يجلب الألم والمعاناة للإنسان، عكس باقي الكائنات التي تظل سعيدة في لا وعيها، وفي اندماجها التام مع الطبيعة. لكنه من ناحية أخرى يمكننا من فهم الوجود، وفهم مأساتنا في هذه الحياة، بل وتحقيق العديد من الإنجازات بفضله. قد يظهر كما لو أن أونامونو يقوم بتجريح غير مبرر للوعي، عندما يعتبره مرضاً. سيتفق الجميع على أن الوعي ليس دائماً مصدراً للتعاسة والألم، لأنه بفضله انتقلنا من الكهوف إلى التفكير في تعمير النجوم. ولكن في الحقيقة فإن نقطة القوة في فكرته، هي إشاراته إلى الطابع المفارق للوعي، والذي يحول دون أن يتم اختزاله فقط في مجرد الإدراك الذهني، أو الصيغ العقلانية الحسابية، التي يمكن أن يقدمها العلم على سبيل المثال.
يرتد الوعي في بعض لحظاته كي يكون عبارة عن تجربة باطنية، غير أنه في حقيقته لا بد أن يكون عبارة عن إحاطة شاملة واستطلاع واسع للسراديب المكونة لهذه المتاهة. فالوعي في علوه لا يعني أنه انفلات خارج العالم، أو رفضا للمعطى. بل هو رحلة شاقة أحياناً، ومشوقة في أحايين أخرى. شاقة لأنها تمتزج بالخوف والألم والمعاناة. ومشوقة لأنها أيضاً تمتزج بالإرادة والشجاعة والحرية. 
الوعي كانفصال الخروج من المتاهة يعني تحقيق الحرية، واكتشاف الحقيقة، وتطوير النمو الشخصي، عبر الصبر واكتساب الحكمة والمعرفة. كما يشير إلى فك الارتباط، والتحرر من الحجب والقيود التي يفرضها الواقع المزيف. اكتشاف طرق مختلفة وجديدة للتفكير والتصرف. الأمر لا يعني إذاً الهروب من الواقع ورفضه، بل توسيع أفقنا المعرفي، وتفتيح أذهاننا من أجل فهم ما هو قائم. بطريقة أخرى يقتضي الخروج من المتاهة، الشك في طبيعة الواقع المفروض علينا، مما يستلزم حضور قوة الإدراك.
إن الحرية تحيل بداية إلى تشكيل وعي جديد، يتجاوز الحدود المفروضة علينا. الغوص في طبقات الأسطح المتعددة، والاستعداد لاستكشاف المجهول. إدراك الترابطات الخفية بين كافة العناصر. فما الفلسفة سوى جاهزية الوعي لاستقبال الجديد.
يجب أن نتذكر هنا نقطة أساسية وهي أننا إذا كنا قادرين على الهروب من المتاهة، فهذا يعني أن وعينا لا يتطابق مع العالم المعطى، بل هو يعلو عليه. إن كل وعي هو وعي بالانفصال عن العالم المادي والمعطى المباشر. هذا المنظور للوعي يختلف تماماً عما تحاول العلوم التجريبية، وبالضبط علم الأعصاب تطويره حالياً. عندما تختزل الوعي إلى مجرد عمل للجهاز العصبي وللنورونات، مما يعني في نظرها أنه يمكننا أن نفك شفرته، بل تخزينه داخل الشرائح الإلكترونية، ومحاكاته في الذكاء الاصطناعي.
الوعي والعلو أن الحياة رحلة معقدة، مؤلمة، لكنها في الآن ذاته مشوقة، لأنه رغم الألم والمعاناة فهي تسمح لنا بإمكانية عيش تجربة الانفصال عن المتاهة التي تطوقنا، والاتصال بمبدأ أعلى وحقيقة سامية، تعلو على عالم الظاهر. التأمل في النقطة اللانهائية للألف التي بحث عنها خورخي بورخيس.
كل وعي هو وعي بشيء أكبر، شيء يتجاوز حدود ونطاق الوعي ذاته. ثمة نظريات كثيرة تؤكد اليوم هذا الطرح: نظرية الوعي الكوني. والوعي الكمومي. ثم نظرية الوعي الروحي. إضافة إلى العديد من الظواهر التي لا يمكن إنكارها، لأنه تمت معاينتها تجريبياً، بل تم قياسها بواسطة أجهزة طبية دقيقة. مثل تجارب الاقتراب من الموت Near death expérience والخروج من الجسد، وتجارب التخاطر وتحريك الأشياء عن بعد Psychokinésie وتجارب الاستشفاء الذاتي.
نفس الفكرة كذلك نجدها عند الفيلسوف الأميركي طوماس ناجل الذي يؤكد أن هناك جوانب من الواقع لا يمكن فهمها بالكامل، باستخدام المنهج التقليدي للمعرفة، فهي جوانب ستظل تفوق قدراتنا على الفهم والتفسير، متجاوزاً بذلك التفسيرات الاختزالية للعقل. ستظل دائماً هناك أشياء غير قابلة للحل، خاصة في ضوء النموذج المعرفي التقليدي. إن هذا هو ما يمكن أن نسميه بالغموضية الجديدة أو الإلتباسية the ambiguity التي ترفض كون العالم المادي، هو المعطى الفيزيائي الوحيد الذي يمكن للعقل التعامل معه. في مقاله الشهير: ماذا يعني أن يكون شعورك كوطواط؟ يتناول طوماس ناجل لغز الوعي البشري ويستكشف الفجوة الحاصلة بين الإدراك العلمي الموضوعي للعالم، وتجربة الوعي الذاتية. إن بعض الظواهر على سبيل المثال، أن يفكر الإنسان كوطواط قد لا تكون قابلة للفهم بالكامل من خلال العلم لأن هذا الطائر يعيش تجربة وعي خاصة مختلفة جذرياً عن تجربتنا، حتى وإن عرفنا كل شيء عن الطبيعة البيولوجية لدماغ الوطواط. هذا الالتباس الأنطولوجي، هو ما نعيشه اليوم وهو ما ستزداد حدته في المستقبل. المجهول على تخوم المتاهة، بل هو في قلب المتاهة الجديدة. 

أخبار ذات صلة في الأدب: خروج المنتصر من التيه في السينما: نمو داخلي للعقل والروح

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الفلسفة الثقافة السرطان

إقرأ أيضاً:

عاشوراء في اليمن.. الإمام الحسين بين الوعي الثوري والامتداد المقاوم

يمانيون | تقرير
شهدت العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات خلال الأيام الماضية فعاليات ثقافية وخطابية واسعة في الجامع الكبير، ومحافظات صنعاء وريمة وحجة، وذلك إحياءً لذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، تحت شعارات عبّرت عن استمرار التمسك بالنهج الحسيني في مواجهة الظلم والطغيان.

هذه الفعاليات لم تكن مجرد فعاليات دينية، بل مثلت محطات تعبئة ثورية، وربطاً واعياً بين الماضي والحاضر، في معركة ما زالت مفتوحة بين قوى الحق والاستكبار، من كربلاء إلى فلسطين.

الجامع الكبير بصنعاء.. عاشوراء بين الثورة والجهاد
في قلب العاصمة صنعاء، وتحديداً في الجامع الكبير الذي يحمل رمزية تاريخية وروحية خاصة، نظّمت دائرة الثقافة القرآنية ندوة توعوية حملت عنوان: “عاشوراء ثورة وجهاد”، لتضع المناسبة في سياقها القرآني والتاريخي المتجدد.

الناشط الثقافي زياد الرفيق، افتتح الندوة بالتأكيد على أن التمسك بعترة آل البيت هو جوهر الدين الإسلامي ومصدر الهداية، معتبراً أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام ليست حدثاً عابراً في الزمن، بل منهاج دائم لمقارعة الطغاة ومواجهة الانحراف عن مبادئ الإسلام المحمدي الأصيل.

واستعرض الرفيق في محوره، أبرز المواقف البطولية للإمام الحسين، لافتاً إلى أن كلماته الخالدة كانت إشارات متقدمة في مقاومة الظلم والاستكبار، وأن الشعب اليمني اليوم، وهو يحيي هذه الذكرى، إنما يجدد ارتباطه بالقيم التي خرج من أجلها سبط رسول الله، وفي مقدمتها نصرة المظلومين ورفض الخضوع لقوى الطغيان، كما هو حال اليمن في موقفه المبدئي والثابت إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم.

أما العلامة طه الحاضري، فقد حذّر في محوره من عواقب التفريط في كل زمان ومكان، مؤكداً أن ما حدث في كربلاء كان نتيجة لصمت الأمة وتخاذلها أمام الانحراف السياسي والديني، في مشهد يتكرر اليوم بأدوات ووجوه جديدة.

وشدد الحاضري على أن المشروع الأمريكي الصهيوني ليس إلا امتداداً لطغيان يزيدي جديد، يستهدف الأمة في عقيدتها وهويتها واستقلالها، داعياً إلى التمسك بخيار المقاومة والقيادة القرآنية المتمثلة في السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، الذي أعاد البوصلة إلى مركزها الإسلامي المقاوم.

ريمة.. عاشوراء منصة لتجديد العهد ورفض الذل
وفي محافظة ريمة، نظّمت السلطة المحلية والتعبئة العامة فعالية خطابية كبرى تحت شعار: “هيهات منا الذلة”، شارك فيها عدد من القيادات المحلية والشخصيات الاجتماعية، تأكيداً على الموقف الثابت المستلهم من ملحمة كربلاء.

وخلال الفعالية، شدد مسؤول التعبئة العامة محمد النهاري على أن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام كان نتيجة حتمية لتخاذل الأمة، وأن دروس كربلاء لا تزال حاضرة في كل مرحلة من مراحل الصراع بين الحق والباطل.

وأوضح النهاري أن استلهام الموقف الحسيني يعني الاستمرار في الصمود والثبات في مواجهة العدوان، ورفض أي محاولة للهيمنة أو التطبيع أو الانصياع لمشاريع الغزاة، مؤكداً أن الإمام الحسين كان ولا يزال الملهم والقائد لكل الأحرار الذين اختاروا العزة على الذل.

حجة.. الأمن والهوية الحسينية في مواجهة المشروع الاستكباري
أما في محافظة حجة، فقد نظّمت إدارة أمن المحافظة فعالية خطابية تحت الشعار ذاته، بحضور عدد من المسؤولين الأمنيين، لتؤكد أن الهوية الحسينية ليست مجرد إحياء مناسبات، بل إطار للثبات والعقيدة الجهادية في مواجهة التحديات الأمنية والسياسية.

مدير الأمن العميد حسن القاسمي، أشار إلى أن فاجعة كربلاء تمثل مأساة كبرى في تاريخ الأمة، لكنها أيضًا منارة يهتدي بها الأحرار في مواجهة الظلم والطغيان.. وأكّد أن الأجهزة الأمنية اليمنية تستمد من روح كربلاء الصبر، والبصيرة، والصلابة في مواجهة المؤامرات التي تستهدف أمن البلاد واستقلالها.

عضو رابطة علماء اليمن، عبدالمجيد شرف الدين، اعتبر أن الاحتفاء بعاشوراء هو تجديد للولاء لخط الحسين، والتأكيد على أن دماء الشهداء ستظل حاضرة في معركة الأمة ضد المستكبرين، وفي مقدمتهم أمريكا و”إسرائيل”.

مديرية همدان.. النساء في قلب المعركة الحسينية
وفي مديرية همدان بمحافظة صنعاء، كانت المرأة اليمنية حاضرة بقوة في إحياء هذه الذكرى، من خلال فعاليتين خطابيتين نظّمتها الهيئة النسائية في قريتي شمال السودة والقنحة، حيث عبّرت الكلمات والأنشطة الإنشادية عن وعي نسائي متجذر بجوهر المعركة الحسينية.

الفعالية ربطت بين مظلومية الإمام الحسين ومظلومية الشعب الفلسطيني، مؤكدة أن نصرة غزة امتداد طبيعي لثورة كربلاء، وأن المرأة اليمنية كانت ولا تزال شريكة في خيار المقاومة من خلال التوعية، والتحريض، والدعم المعنوي والمادي.

وقد تُوّجت الفعاليتان بوقفتين نسائيتين تضامناً مع الشعب الفلسطيني وتنديداً بالجرائم الصهيونية بحق غزة، لتؤكد أن كربلاء ليست مجرد ذكرى، بل حالة وعي ثوري يتجدد في كل موقف مقاوم للعدوان.

عاشوراء في اليمن… حالة وعي
ما يميّز إحياء اليمنيين لذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، هو أنهم جعلوا من عاشوراء حالة وعي، ومرتكزاً ثورياً، ودافعاً لتعزيز الصمود والمواجهة مع أعداء الأمة.

في هذا السياق، يصبح شعار “هيهات منا الذلة” ليس مجرد شعار تاريخي بل هوية مقاومة ومشروع حياة، يتجلى في المواقف السياسية، والتحركات الميدانية، والاصطفاف الشعبي مع قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين.

وعليه، فإن عاشوراء في اليمن لم تعد مناسبة دينية فحسب، بل تحولت إلى رافعة استراتيجية تعبوية، تكرّس ثقافة الرفض، وتجذّر روح التضحية، وتعيد صياغة العلاقة بين المعتقد والواقع، بين الذكرى والموقف، بين كربلاء وغزة، بين الإمام الحسين والشعب اليمني.

مقالات مشابهة

  • شاهد بالفيديو.. الناشطة وسيدة الأعمال السودانية الشهيرة “رانيا أربجي” تغمر إحدى مطربات الدلوكة بأموال النقطة بالعملة الصعبة “الدولار”
  • نائب حزب الله: لا يمكن لأحد أن ينتزع منا سلاح المقاومة!
  • شيرى عادل تخترق المتاهة النفسية في حكاية «ديچافو»... عندما تصبح الذكريات فخًّا دراميًا في الأوف سيزون
  • وفاة الفيلسوف الليبي نجيب الحصادي.. مسيرة أكاديمية وفكرية حافلة
  • تفاصيل استقالة كرم جبر وعمرو الشناوي من حزب الوعي
  • عاشوراء في اليمن.. الإمام الحسين بين الوعي الثوري والامتداد المقاوم
  • هل يمكن أن تصبح دبي عاصمة الويب 3 العالمية؟
  • الحماية المدنية: انطلاق مشروع إنجاز مركز إسعاف الطرقات بالطريق الوطني رقم 49
  • هل يمكن استخراج برنت تأميني أونلاين؟
  • اللعب باللغة واكتساح الوعي