فضيحة الحضارة.. لماذا يسكت الغرب عن مجازر إسرائيل؟
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
كان السابع من أكتوبر 2023 يوما مشهودا، فهو لا يشبه ما قبله من أيام، وقد شق العالم إلى نصفين. إن رؤية المقاومين الفلسطينيين وهم يطيحون بجنود الاحتلال الإسرائيلي ويلقون بهم من ظهور دبابات الميركافا قد هز غطرسة الغرب. تلك إهانة لم تحصل في تاريخ الكيان الصهيوني. وكانت تلك لقطة مؤسسة، هناك سيكتب التاريخ في الاتجاهين الصاعد والهابط، تاريخ الضحية وتاريخ القاتل.
قادة العالم الغربي تحولوا في لحظة إلى حالة من تضامن العصبة، كانوا يحضرون إلى دولة الكيان ليساندوا حلفاءهم الصهاينة، بالأحضان والتربيت وعبارات التعزية الخارجة من أطراف المناخير. لكن وفي الواقع الفعلي كانت الطائرات والبارجات تأتي في إثرهم محملة بآلات الجحيم الذي سيصب فوق رؤوس الفلسطينيين.
للغرب تاريخ طويل في فلسفة الأنوار وحقوق الإنسان وديباجات العدل والإنسانية، وتلك واجهة تنطلي على حسني النوايا أو المنبهرين بالعلمانية والثقافة الغربية. لقد قرّح الألم ضمائر المخدوعين بالغرب: كيف يرضى ويسكت الغرب المتحضر عن المجازر التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ثم اللبنانيين طوال عام؟
فلننظر بعين التاريخ لنرى إن كانت إسرائيل تمثل، في نواحٍ كثيرة، صورة مصغرة عن الغرب المتوحش الذي يحمل شعارات التنوير والحرية والإنسانية، لكنه في الممارسة يعتمد على سياسات القمع والاستغلال؟ هل إسرائيل استمرار للنمط الاستعماري الغربي الذي فرض السيطرة والهيمنة على الشعوب الأصلية، مع الإبقاء على واجهة من القيم الإنسانية؟
تاريخ التدمير العنيف في الحروب التي خاضها الغرب يمتد على مدى قرون طويلة، حيث شهدت تلك الحروب تأثيرات مدمرة على المجتمعات والمدن والبنية التحتية. إذا أردنا الحديث عن أبرز الأمثلة على هذا التدمير، فسنبدأ بالعصور الوسطى ونتقدم نحو الحروب الحديثة.
فقد شهدت الحروب الصليبية تدميرًا هائلًا للمدن والقرى في البلدان العربية والإسلامية، حيث قامت الجيوش الأوروبية بمهاجمة القدس ومدن أخرى، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية وقتل المدنيين. أحد أبرز الأمثلة كان سقوط القدس عام 1099 حيث ارتكبت مذابح مروعة بحق السكان العرب والمسلمين وتتحدث الأدبيات الصليبية نفسها عن قتل نحو سبعين ألف في القدس لوحدها.
أما فترة الاستعمار فقد شهدت دمارًا ثقافيًا واجتماعيًا واسع النطاق، حيث قام الأوروبيون بتدمير حضارات بأكملها في أمريكا الشمالية والجنوبية، أفريقيا، والهند. على سبيل المثال، تدمير إمبراطورية الأزتك عام 1521، بالإضافة إلى سياسات الأرض المحروقة في أفريقيا خلال فترات التوسع الإمبراطوري البريطاني والفرنسي.
إن فهم موقف الغرب تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين يستدعي النظر إلى تعقيد العوامل التاريخية، الدينية، والسياسية التي تؤثر على صنع القرار الغربي. إن الاستعمار، والسرديات الدينية، والتحالفات الجيوسياسية، والمصالح الاقتصادية كلها تلعب دورًا في تبرير دعم الغرب لإسرائيل على الرغم من التدمير الذي تمارسه. ولعل ما قام به الغرب من حروب إبادة في الأميركيتين هو صورة بانورامية موسعة عما تفعله إسرائيل ضد الفلسطينيين، ففي تاريخ الاستعمار الغربي لأمريكا اللاتينية، ارتكبت القوى الأوروبية إبادة جماعية بحق السكان الأصليين، مع تدمير حضاراتهم وإحلال مجموعات مهاجرة أوروبية محلهم. هذه الممارسات بدأت في أواخر القرن الخامس عشر واستمرت لعقود، وشهدت مستويات هائلة من القتل والتدمير، مما أدى إلى انقراض ملايين البشر وتفكك حضارات قديمة.
ومع انخفاض أعداد السكان الأصليين بشكل حاد بسبب القتل والأمراض، بدأت السلطات الاستعمارية بجلب العبيد الأفارقة لتعويض النقص في القوة العاملة. على مر القرون، أصبحت إفريقيا مصدرًا رئيسيًا للعبيد، وتم إحلالهم في مزارع ومناجم أمريكا اللاتينية.
وكان من نتائج الاستيطان الغربي في الأميركيتين أن انخفض عدد السكان الأصليين بشكل كارثي خلال القرنين الأولين من الاستعمار. وتشير التقديرات إلى أن ما بين 80% و90% من السكان الأصليين في الأميركتين ماتوا خلال تلك الفترة، سواء بسبب القتل المباشر أو الأمراض.
وكان من نتائج الاستيطان الغربي فقدان الهوية الثقافية للشعوب الأصلية حيث تم تدمير حضارات بأكملها بما في ذلك لغاتها وثقافتها وممارساتها الدينية. وتم استبدال هذه الثقافات بالحضارة الأوروبية المسيحية، وتم إجبار ما تبقى من السكان الأصليين على التحول إلى المسيحية والتخلي عن عاداتهم التقليدية. ونتيجة لهذه الإبادات، أصبحت المجتمعات الجديدة التي تشكلت في أمريكا اللاتينية مزيجًا من المستوطنين الأوروبيين والعبيد الأفارقة، حيث تم تهميش السكان الأصليين بشكل كبير في الهياكل الاجتماعية الجديدة.
إن التدمير الحضاري والإحلال القسري للسكان في الأميركيتين الشمالية والجنوبية هو واحد من أشد الفصول قسوة في تاريخ الاستعمار، حيث تم القضاء على شعوب بأكملها وتفكيك حضارات مزدهرة.
الحروب الأميركيةأما في الشرق فإن الحالة لم تكن أقل بؤسا وتوحشا ففي الفلبين وفيتنام، تركت التدخلات العسكرية والسياسية الأمريكية آثارًا عميقة على هاتين الدولتين من حيث الدمار، المعاناة الإنسانية، والتحولات الاجتماعية والسياسية. كل من الفلبين وفيتنام تعرضتا لتدخلات عسكرية كبيرة من الولايات المتحدة، وتبعات تلك التدخلات تستمر حتى اليوم.
فقد ألقت الولايات المتحدة كمية هائلة من القنابل على فيتنام تقدر بنحو 7.5 مليون طن من القنابل خلال حرب فيتنام، وهو أكثر من كمية القنابل التي أسقطت خلال الحرب العالمية الثانية بأكملها. واستخدم الجيش الأميركي الأسلحة الكيميائية مثل النابالم والعامل البرتقالي (Agent Orange) وهو مادة سامة استخدمت لإزالة الغابات. هذه الأسلحة تسببت في دمار هائل للبنية التحتية، الأراضي الزراعية، والغابات، إضافة إلى تأثيرات صحية طويلة الأمد على السكان.
لقد ارتكبت القوات الأمريكية عدة مجازر بحق المدنيين الفيتناميين، أشهرها مذبحة ماي لاي (1968)، حيث قتل الجنود الأمريكيون أكثر من 500 مدني، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، بطريقة وحشية. ويُقدر أن عدد القتلى خلال حرب فيتنام بحوالي 3 ملايين فيتنامي (معظمهم من المدنيين)، بالإضافة إلى 58,000 جندي أمريكي. ملايين آخرون جُرحوا أو نزحوا بسبب الحرب.
وبسبب القصف الكثيف والأعمال العسكرية، عانى الفيتناميون من نزوح جماعي وتدمير قرى بأكملها. كما شهدت البلاد انهيارًا في البنية التحتية، واضطر الملايين إلى العيش في ظروف قاسية لعقود بعد انتهاء الحرب.
ارتكب الاحتلالان البريطاني والفرنسي على مدار قرون طويلة سلسلة من الإبادات والمذابح بحق شعوب مختلفة خلال فترة الاستعمار. تلك الإبادات كانت مدفوعة بالتوسع الإمبريالي والرغبة في السيطرة على الموارد والمناطق الحيوية. وشكل الاستعماران البريطاني والفرنسي قوتين رئيسيتين في النظام الاستعماري العالمي، ولم تقتصر سياساتهما على الاستغلال الاقتصادي فحسب، بل شملت أيضًا القتل الجماعي والقمع العنيف لشعوب محتلة.
لقد كان الاستعمار البريطاني والفرنسي مسؤولين عن إبادة ملايين البشر عبر القارات من خلال سياسات القمع العنيف، التهجير القسري، الاستغلال الاقتصادي، ونشر الأمراض. وكان استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية منهجًا شائعًا في الإمبراطوريتين، ما أدى إلى تدمير الحضارات والثقافات المحلية وفرض هياكل اجتماعية وسياسية غير عادلة تستمر آثارها حتى اليوم.
ينظر العالم الغربي إلى إسرائيل وهي تدمر غزة وجنوب لبنان والضاحية الجنوبية ولا يحرك ساكنا، بل يشجعها ويمدها بالأسلحة. كيف نفهم ذلك من الناحية الفكرية والفلسفية والثقافية في العقل الغربي؟.
لفهم الموقف الغربي من دعم إسرائيل في ذلك، وتحليل هذا السلوك من الناحية الفكرية والفلسفية والثقافية، يمكن النظر إلى عدة عوامل مترابطة تسهم في تشكيل هذا الموقف، وهي تتداخل بين السياسة، التاريخ، الثقافة، والإدراك الغربي للأزمات في الشرق الأوسط. و هذه العوامل تشمل ما يلي:
كما ويمتلك العالم الغربي تاريخًا طويلًا في رؤية الشرق الأوسط من خلال عدسة استشراقية، تصور المنطقة على أنها متخلفة وغير متحضرة وتحتاج إلى توجيه غربي. يمكن أن يؤدي هذا المنظور إلى نقص في التعاطف والفهم لتجارب العرب والفلسطينيين.
يضاف إلى ذلك تمثيل الإعلام والتحيز، فغالبًا ما كانت التغطية الإعلامية الغربية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني سردًا متحيزًا، يركز على مخاوف الأمن الإسرائيلي ويقلل من معاناة الفلسطينيين وحقوقهم. يمكن أن يساهم ذلك في تصور عام مشوه للصراع.
التأثير الديني: يلعب الدين دورًا كبيرًا في تشكيل النظرة الغربية للصراع. بالنسبة للمسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة، مثلاً، هناك دعم أيديولوجي قوي لإسرائيل بناءً على تفسيرات كتابية تعتبر تأسيس دولة إسرائيل مقدمة لنهاية العالم أو عودة المسيح. هذا يساهم في إضفاء بعد مقدس على الدعم لإسرائيل، بغض النظر عن الانتهاكات أو الدمار الذي تتسبب فيه. الإرث التاريخي اليهودي-المسيحي: الغرب يشارك في سردية تاريخية وثقافية تعتبر اليهودية جزءًا من تراثه الديني والحضاري، وبالتالي يتم اعتبار إسرائيل امتدادًا طبيعيًا لهذا الإرث، في حين تُرى الشعوب العربية والإسلامية كخصوم تاريخيين. 3- العلاقة الاستراتيجية والمصالح الجيوسياسية التحالفات الاستراتيجية: تعدّ إسرائيل شريكًا استراتيجيًا قويًا للغرب، خصوصًا الولايات المتحدة. ومن منظور استراتيجي، يُنظر إلى إسرائيل كحليف مهم في الشرق الأوسط لمواجهة النفوذ الإيراني أو الحركات الإسلامية، وبالتالي يصبح دعم إسرائيل بغض النظر عن أفعالها جزءًا من استراتيجية حماية المصالح الغربية. وقد أقامت إسرائيل علاقات قوية مع الحكومات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، التي تقدم مساعدات عسكرية ودعمًا دبلوماسيًا كبيرًا. كما تؤثر مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الدول الغربية، مثل أيباك AIPAC في الولايات المتحدة، بشكل كبير على قرارات السياسة الخارجية. ويمكن القول إن اللوبي الإسرائيلي يحكم العقل السياسي في الولايات المتحدة، فهو متغلغل في بنى كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي. الأسلحة والتجارة: بالإضافة إلى ذلك، تمثل إسرائيل واحدة من أكبر المشترين والمستخدمين للتكنولوجيا العسكرية الغربية، ووجود نزاع مستمر يعني استمرار الطلب على الأسلحة والأنظمة الدفاعية، مما يعزز الصناعات العسكرية الغربية. هذه المصالح التجارية قد تساهم في التغاضي عن التدمير الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين. ويُعتبر الشرق الأوسط منطقة حيوية لأمن الطاقة العالمي، وموقع إسرائيل الاستراتيجي وقوتها العسكرية تجعلها شريكًا جذابًا للدول الغربية التي تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة.في الثقافة السياسية الغربية، تُعتبر إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهذه الصورة تعزز الدعم الغربي لها بوصفها "واحة من الديمقراطية" في منطقة مليئة بالديكتاتوريات والصراعات. هذا يخلق تناقضًا بين المبادئ الغربية التي تقوم على حقوق الإنسان والديمقراطية وبين دعمهم لسياسات إسرائيل العنيفة، ولكن يتم تفسير ذلك من خلال تفضيل "الحفاظ على الديمقراطية" حتى لو على حساب القيم الإنسانية.
6- النظرة البراغماتية للقوة والسلطة مفهوم القوة: الفكر الغربي، الذي تأثر بفلاسفة مثل نيكولا مكيافيلي وتوماس هوبز، ينظر إلى العلاقات الدولية من زاوية براغماتية واقعية تقوم على القوة والمصلحة. في هذه النظرة، يكون الهدف الأساسي هو الحفاظ على استقرار القوة الإقليمية وحماية المصالح الحيوية، دون النظر إلى الاعتبارات الأخلاقية. دعم إسرائيل رغم أفعالها التدميرية ينسجم مع هذه النظرة، حيث يُرى الحفاظ على التحالف الاستراتيجي معها كأولوية أعلى من المساءلة الأخلاقية.يمكن القول أخيرا إن العلاقة بين الغرب وإسرائيل نموذج معقد يعكس تناقضًا صارخًا بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية. فإسرائيل، ككيان استيطاني، تستند إلى سياسات الإحلال القسري للسكان الأصليين، مما يُعيد إلى الأذهان نمط الاستعمار الغربي الذي شهدته مناطق عديدة عبر التاريخ. على الرغم من ادعاءات الغرب حول قيم التنوير، الحرية، والعدالة، فإن ممارسات إسرائيل، بما في ذلك الاحتلال العسكري، التمييز العنصري، والممارسات القمعية، تعكس استمرارًا لمنهجية الاستعمار الغربي المتوحش. هذا السياق يبرز ازدواجية المعايير في السياسة الغربية، حيث تُحجب انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين تحت ستار الدعم الاستراتيجي لإسرائيل.
تتجلى هذه العلاقة في الدعم العسكري والاقتصادي الذي تقدمه القوى الغربية، والتي تُعتبر متواطئة في إدامة هذا الوضع. إن الأيديولوجيات الاستعمارية القديمة تستمر في الظهور في سياقات جديدة، مما يُسلط الضوء على ضرورة إعادة التفكير في الخطابات حول حقوق الإنسان والديمقراطية.
وفي النهاية، تُعتبر العلاقة بين الغرب وإسرائيل تجسيدًا لإرث الاستعمار الذي يتجاوز الحدود الجغرافية ويؤثر على حياة الملايين.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات فی الولایات المتحدة البریطانی والفرنسی السکان الأصلیین فی الشرق الأوسط فی الأمیرکیتین هذه النظرة تاریخ ا تدمیر ا ت عتبر فی ذلک
إقرأ أيضاً:
العين السابق عبدالحكيم محمود الهندي يكتب : بعد كلام الملك يسكت كل كلام
صراحة نيوز- لربما هو كلام كان قد أكد عليه جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، حفظه الله، قبل ذلك أكثر من مرة، لكنه تكرار الملك لذات الموقف وذات الكلام وذات المشاعر مرة أخرى اليوم، يؤكد بأن الأردن لم ولن يحيد عن ثوابته تجاه القضية الفلسطينية؟ القضية المركزية بالنسبة إلى المملكة الأردنية، وتجاة الأهل، كما يسميهم دائما الملك، في قطاعي غزة.
وفي الوقت عينه، فإن جلالته يؤكد بأن الأردن القوي، الأردن الثابت والمستقر، هو الداعم الأكبر والسند الأقوى لفلسطين، كل فلسطين، وأهلها.
في لقائه الأخير مع عدد من الصحفيين والإعلاميين، أعرب جلالة الملك عن مشاعر الحزن التي تسكن نفس كل أردني تجاه الجرائم الفظيعة والبشعة التي تجري في غزة، وفي الوقت الذي كانت فيه الإغاثات الأردنية الأخيرة عبر الإنزالات الجوية، محط اهتمام كبير، ومع الأسف محل انتقادٍ وهجومٍ مؤسف أيضا، من بعض قادة فصائل فلسطينية وبالتحديد من بعض قادة حماس، فإن الملك يؤكد بأن الأردن يعي تماماً ويعرف بأن هذه الإغاثات، ومع هول ما يجري في غزة، لا تكفي، لكن الأردن، وكما كان دائماً منذ اندلاع الحرب في القطاع، لم يُفوّت فرصة، ولم يتوانى عن استغلال أي إمكانية يمكن من خلالها أن يغيث الأهل هناك، فمن هم على الأرض، ومن يتلقون الرصاص والصواريخ والقنابل، هم من يدفعون الثمن الأغلى من دمائهم ومن خوفهم ومن تعبهم ومن شقائهم، فالأولى إذن أن تصل المساعدات لهم ما أمكن، وأن لا يُتركوا للمصير المجهول والمصير الدامي الذي ما زالوا يواجهونه عبر سنتين كاملتين.
وأما في الشأن المحلي، فإن جلالته قال وبوضوح، إنه لا بد من عزل هذا عن ذاك، فاستمرار الحياة في الأردن بمظاهرها الطبيعية، ودوران عجلة الاقتصاد الأردني، لا تعني أبدا بأن الأردنيين لا يشعرون بأشقائهم في فلسطين، لكن البناء والتطوير والتحديث في الأردن ليكون دائما أقوى، هو خير تعبير عن دعمه لكل القضايا الإنسانية في العالم، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
كلام الملك تقاطع تماماً مع الجهود الدبلوماسية الكبيرة التي قادها جلالته في العالم، والتي نتج عنها وعود باعتراف دولي واسع بالدولة الفلسطينية، ولعل أهم تلك الوعود هو الوعد الذي أكدت عليه بريطانيا بأنها ستعترف قريباً بالدولة الفلسطينية، وإذا ما عدنا إلى التاريخ وقرأناه جيداً، فإن موقف دولة مثل بريطانيا كانت فيما مضى الداعم الأقوى لقيام دولة الاحتلال مثلاً، يعني بأننا على موعد مع انقلاب دولي كامل في الاتجاه الإيجابي نحو الدولة الفلسطينية التي تمثل الحلم للفلسطينيين، والتي ستكفل تلاقي كل الفلسطينيين تحت مظلة دولة ناجزة قابلة للحياة على وجه الأرض.
مواقف الأردن لا يمكن أن تكون أبداً محط تشكيك طالما أنها بهذا الوضوح الذي ما فتئ الملك عبدالله الثاني بن الحسين يعبر عنه بكل جرأة وبكل شفافية، والخلاصة أن الأردن الأقوى هو السند والظهر والمعيل لكل فلسطيني على أرض فلسطين الحبيبة المباركة، وبعد كلام الملك، فإن كل كلام يسكت.