لجريدة عمان:
2025-06-06@13:45:21 GMT

أحلم بمدينة تتكلم كلُها بالعربية

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

يفتتح عبد الفتاح كيليطو كتابه «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» بالإشارة إلى مقطعٍ يرد في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، متحدثا فيه عن لغة الإنسان الأول، آدم، في سياق وصفه للآخرة. ما يهمنا، هنا، هو تعليق كيليطو على ذلك المقطع «المثير» بقوله: «نعلم من خلاله أن آدم كان يتكلم اللغة العربية في الجنة، كما نقرأ أنه عندما هبط من الفردوس، نسي العربية فأخذ يتكلم السريانية.

وهكذا اقترن عنده تغيير المكان بفقدان لغةٍ واكتساب أخرى؛ ندرك أن نسيان اللغة الأصلية يعتبر عقابا. وبطبيعة الحال، بعد البعث والعودة إلى الجنة، سينسى آدم السريانية ويستعيد اللغة العربية». ويخلص الناقد المغربي للقول: إنه «لا تغيير للمكان من دون عقاب: فقد ينسى المرء لغته، وبعبارة أخرى، قد يصبح آخر».

نعم، إن قصة آدم مع العربية تشبه قصص كثير من العرب اليوم، ممن غادروا أماكنهم -طوعا أو كُرها- إلى بلاد أجنبية، فغادروا معها لغة المكان ليستوطنوا في لغات أجنبية. هكذا ينسى المهاجرون والمنفيون العرب، تدريجيا، لغتهم في بلاد الآخرين. وهكذا تتفاقم المسافة جيلا بعد جيل بين المرء والمكان الأصلي. وتلك إذن إحدى الضرائب الباهظة التي يدفعها ابن آدم لقاء تبديل المُقام.

نفهم من ذلك أيضا مدى اشتباك العلاقة بين لغة الإنسان ومكانه الموصوف «وطنا». فاللغة ليست مجرد عنصر من عناصر المكان أو صفة رسمية من صفات دولته المنصوص عليها في الدستور، كلا. لكنني أستطيع القول: إن اللغة شرطُ المكان، شرط حقيقي من شروط الانتماء الكامل إليه والاستيطان فيه. فلا يمكن أن تدخل المكان تماما وأن تبقى خارج لغته في الوقت نفسه، أو على هامشها. وكي أرصف المعنى في عبارة أدق سأقول إن «إتقان المكان» لا يكتمل إلا بإتقان لغته. (ولاستيضاح معناي من هذا التعبير، إتقان المكان، أتمنى من القارئ مراجعة مقال نشرتُه قبل مدة على هذه الزاوية من جريدة «عُمان»، بعنوان: « تبديل المكان: المُقام كأنه قيد»).

إلى جانب اغتراب السحنة والملامح وانقطاع اليد الغريبة عن أسباب رزقها وممتلكاتها، أثقلت على أبي الطيب المتنبي، شاعر العربية الكبير، غربته اللغوية في بلاد فارس. تصف لنا قصيدته في مديح عضد الدولة ما تنَّعمت به عينه من متنزهات شِعب بَوّان البديعة في طريقه إلى شيراز، إلا أن «الفتى العربي» ظل مع ذلك «غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان». لم تكتمل تلك الجنة البصرية للمتنبي؛ لأن ازدهار العين رافقه طمس لثلاثة أعضاء وجودية في غربتها عن مكانها الأليف، من بينها لسان الفتى البليغ. وكيف لشاعرٍ كالمتنبي ألا يكون كائنا لغويا بامتياز، يضطرب وجوده إذ يغترب خارج جغرافيا اللغة العربية!

اللغة بوصفها شرطا للمكان تعني أيضا أنها تمثل جانبا من مناعته وتمنعه على الغرباء القادمين من خارج لغته، أكانوا سُياحا أم مهاجرين، أو كانوا أعداء أجنبيين. إنها آخر غشاء خفي يقي خصوصية الهوية المحلية من الانتهاك السافر للفروقات والتمايزات بين البشر الذي تشنه العولمة المتوحشة على مختلف الصُعد، وما ينتج عنه من اقتلاع للجذور واقتطاع للأنساب ومحوٍ وإحلالٍ ثقافيين.

ولكن هل يحدث، في عصر ارتطام العوالم هذا والانكشاف الكلي المخيف، أن ينسى المكان -نفسه- لغته وأن يتغرَّب ويتغربل في لغة أجنبية بديلة؟ كيف أصبحت المدن العربية إذن مهددة بنسيان لغتها والتحول التدريجي والطوعي إلى ما يشبه المنفى المحلي في قلب إنسانها العربي الذي يرفض الهجرة معتصما بخيار الوطن لأسباب كثيرة، ربما يكون أحدها خوفه من ذلك العقاب الذي وصفه كيليطو؛ نسيان اللغة الأم؟

يمكننا أن نفهم الظاهرة الأولى التي ينسى فيها العربي لغته في بلاد من المهجر والمنفى. فدوامة العنف والحرائق وانهيار العواصم لم تتوقف عن طرد العرب من جغرافيا اللغة العربية لأكثر من قرن من الزمان. ويمكننا أن نعدد، منذ شعراء المهجر حتى اليوم، ما لا يُحصى من أسماءٍ بارزة في ثقافتنا العربية المعاصرة كتبت وتكتب بحبر غير عربي، ومن بينهم كيليطو نفسه. بل يمكننا أن نسلّم بأن نسيان اللغة «عقاب» طبيعي يتعرض له أي إنسان يغادر جغرافيا لغته ليندمج في مجتمع جديد يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهو عقاب لا يطال العرب وحدهم، فالبشر منذ أن تكلم الإنسان الأول ما زالوا يهاجرون ويغتربون وينسون لغاتهم ويستبدلونها. ولكننا لا نستطيع أن نستوعب نسيان المكان العربي للغته إلا كانقلابٍ قاسٍ ومخيف على سكانه الأصليين. ففي حين تمسَّك بعض العرب بمدينته رافضا إغراءات المنفى، وجد مدينته تستبدل لغته وتنقلب عليه بلغة جديدة وتتحول إلى منفى محلي.

إن نظرة عابرة على لوحات المحال وأسماء العلامات التجارية في شوارع مدينة عربية تكفي لتصيب العربي بالشك في موقعه من الزمان والمكان. فالحروف اللاتينية التي تغزو معالم المكان وملامحه ليست إلا بداية الإصابة بالمنفى والإحساس بالاغتراب عن المكان في قلب المكان، ليكتمل المنفى المحلي بطغيان اللغة الإنجليزية على لغة التعليم والتجارة والأعمال والفن ومختلف مجالات الحياة. مهنٌ كاملة تمت مصادرتها من اللغة العربية. أما كلام الناس في الأسواق والمقاهي والمؤتمرات، في البيت والمدرسة والوظيفة، فضرب من الكلام الهجين الذي لا تميز فيه جملة عربية من جملة إنجليزية. ويصبح هذا النوع من الكلام مدعاة للاستفزاز حين يصدر في الإعلام من شخصية تحمل الصفة الرسمية.

هي حالة من حالات التشوه الكثيرة التي تتفشى في حياتنا الثقافية والسياسية، لكنها لا تمنعك من الضحك الباكي على جملة تسمعها لم يبق فيها من العربية إلا أسماء الأشخاص أو حروف الجر أحيانا. بوسعك أن تفهمها عَرَضا طبيعيا لا يهدد هويتك، ويحق لي أن أراها كما يراها المدافعون التقليديون عن اللغة العربية: غزوا أجنبيا ناعما وبأدواتٍ وموارد محلية.

ولا تغيب عن بالي معاناة شريحة كبيرة في المجتمع ممن لم تحالفهم الفرص لتعلم اللغة الإنجليزية. أليس من حقهم أن يطلبوا القهوة بكلمات عربية في مقهى ما في شاطئ القرم؟ أليس من حق كبار السن أن يشرحوا علتهم الصحية بكلمات عربية للطبيب في مستشفى من مستشفيات البلاد؟ أليس من حقي وحق الأجيال العربية القادمة أن يحلموا بدراسة الهندسة والطب والعلوم في جامعات بلادي وبلاد العرب باللغة التي درس وألف بها أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في بغداد القرن الثالث الهجري؟

في صلب مهمتي الشعرية إصرار «سياسي»، أجل أستطيع أن أقول ذلك، إصرار سياسي لتذكير العرب بأن لغة قصيدتي لغة حياة، علما وعملا، وليست مجرد لغة للشعر، أو لغة مقدسة محفوظة في الكتاب، حالها كما كانت اللغة العبرية يوما ما لغة صلاة وعبادة لا غير. وبوسعي أن أحلم في قصيدتي بمدينة تتكلم كلها بالعربية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللغة العربیة

إقرأ أيضاً:

عصابات صهيونية لا تؤمن بالتعايش

 

أثبتت وتثبت مجريات الأحداث والحروب الصهيونية مع العرب أن الكيان الصهيوني كيان دخيل ومحتل لأرض ليست أرضه وسماء ليست سمائه منذ الوهلة الأولى لتواجد ذلك الكيان اللقيط في العام 1948للميلاد المجمع من كل أقطار العالم.

ليتحول إلى عصابات صهيونية دموية إجرامية لا تؤمن بالتعايش تقتل الشجر والحجر والبشر.

عصابات لا تستطيع التعايش والانسجام مع محيطها وجيرانها بسبب سياساتها التوسعية والاستيطانية القائمة على العنف والقتل والإرهاب وتدمير المنازل وجرف المزارع والاعتقالات والإخفاء القسري لكل من يناهض تواجدها العنصري وأعمالها الإجرامية والبربرية وأهدافها اليهودية التلمودية اليمينية المتطرفة التي سعت وتسعى إلى تهويد كل المدن والبلدات الفلسطينية العربية المحتلة.

وبنفس العام اقتطعت أراضي عربية شاسعة وهجرت سكانها وجرفت منازلها وأقامت المستوطنات فيها.

فيما عرف بنكبة 48 ومحاولاتها المتكررة لتغيير معالم المسجد الأقصى من خلال الحفريات العبثية في محيط وحرم المسجد الأقصى منذ سبعين عاماً وماتلاها من أحداث عسكرية واحتلال للمدن والبلدات الفلسطينية وصولا إلى سيناء المصرية فيما عرف بنكسة حزيران 1967للميلاد، وأكبرها جريمة إحراق المسجد الأقصى عام 1969للميلاد.

الحقيقة الغائبة التي يجب ان يعرفها العالم العربي والإسلامي مفادها أن الكيان اللقيط الغاصب أسس مدعوما ومسنودا عسكريا وسياسيا واقتصاديا منذ الوهلة الأولى من قبل قوى الاستكبار العالمي أمريكا وبريطانيا وحلفائهم من الغرب والشرق وبتواطؤ من الأمم المتحدة التي اعترفت بالكيان اللقيط كدولة مثلت خنجرا مسموما في حنجرة العرب والمسلمين وسرطانا توسعيا مكونا من عصابات لقيطة متعددة اللغات والجنسيات متحولا إلى كيان عسكري يتفوق على الدول العربية عسكريا وفنيا وتقنيا واستخباراتيا.

برغم المواجهة العربية المباشرة مع الكيان المحتل الذي استطاعت في أكتوبر 1973 تحرير واستعادة أجزاء واسعة من الأراضي العربية المحتلة بما فيها سيناء وبعض المدن الفلسطينية واللبنانية.

وفي كل الحروب والعمليات العسكرية الذي شنها الكيان المسمى إسرائيل على المنطقة العربية اعتمد في معاركه على المعارك السريعة والقصيرة والمزمنة والعمليات السريعة والخاطفة والمفاجئة، وتحت شعارات الدفاع عن النفس حصل على الدعم والإسناد الدولي حتى وصل إلى إمتلالك الأسلحة النووية والتصنيع العسكري والحربي لكل معداته العسكرية بتعاون وتسهيلات ومساعدات فنية وتقنية من دول الاستكبار وتبرعات مالية من قبل المتطرفين اليهود في العالم.

بالتوازي قامت الدول الكبرى بحظر الدول العربية من حقها في التسلح للدفاع عن نفسها أمام عربدة الكيان المصتنع لابتزازها وتحويلها إلى سوق لمنتجات مصانع الأسلحة الغربية والشرقية ومنح الكيان الأسلحة الأحدث من الأسلحة المباعة للعرب ليستمر كقوة اكثر واحدث تسليحا من الدول العربية.

وحينما تشكلت حركات المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن وبدأت الدول العربية بتصنيع احتياجاتها العسكرية والدفاعية بنفسها جن جنون دول الاستكبار فسعت إلى حياكة المؤامرات الإسقاط الأنظمة واختلاق الفوضى لتدمير الدول وانهاك مؤسساتها لتغرقها في الفوضى والصراعات الداخلية كما حدث في العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن وتونس ومصر الذي افشل المؤامرة فكانت النتيجة سقوط الأنظمة وتلاشي الجيوش النظامية وتواريها عن الأنظار وبروز حركات مقاومة مسلحة قوية لقنت الكيان الصهيوني والأمريكي والبريطاني دروسا قاسية وهزائم نفسية وعسكرية وخسائر اقتصادية.

فمثل السابع من أكتوبر 2023 رسالة قوية كشفت المستور، وزرعت الرعب والهلع في الداخل الصهيوني والغربي والشرقي وأوضحت للعالم اجمع من يقف خلف الكيان ومن يساند الكيان ومن الذي أوجد الكيان الصهيوني.

فظهر جليا ان أمريكا وبريطانيا هما اللتان تحاربان العرب والمسلمين منذ 77عاما، الكيان فقط يمثل قاعدة عسكرية متقدمة في الخاصرة العربية لتدمير العرب وابتزازهم وتخويفهم والهيمنة عليهم وابرزها فضيحة صفقة القرن ودعوات التهجير للشعب الفلسطيني ومشروع القناة البديلة وكلها مصيرها الفشل أمام الوعي العربي وثقافة المقاومة للهيمنة والاستكبار والعربدة.

 

مقالات مشابهة

  • ما كنت أحلم شوف هيدا المبلغ قدامي... تعرفوا إلى الفائز بجائزة اللوتو الأولى
  • إيران تتكلم بلسان ترامب.. دبلوماسية بطابع جديد يقودها عراقجي
  • عصابات صهيونية لا تؤمن بالتعايش
  • محمد في مكة
  • ننشر مواصفات امتحان اللغة العربية للثانوية العامة 2025
  • عاطل يحول قاعة أفراح لمركز إدمان.. وصحة الشرقية تشمع المكان.. صور
  • إصابة طفل برصاص الاحتلال خلال اقتحام حارة العرب في أريحا
  • الظروف مهيأة لبلاد الحرمين في المكان والزمان معا!
  • عندما تضيع المروءة بين العرب
  • اللغة العربية والاقتصاد