لجريدة عمان:
2025-07-29@23:23:16 GMT

أحلم بمدينة تتكلم كلُها بالعربية

تاريخ النشر: 19th, October 2024 GMT

يفتتح عبد الفتاح كيليطو كتابه «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» بالإشارة إلى مقطعٍ يرد في «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، متحدثا فيه عن لغة الإنسان الأول، آدم، في سياق وصفه للآخرة. ما يهمنا، هنا، هو تعليق كيليطو على ذلك المقطع «المثير» بقوله: «نعلم من خلاله أن آدم كان يتكلم اللغة العربية في الجنة، كما نقرأ أنه عندما هبط من الفردوس، نسي العربية فأخذ يتكلم السريانية.

وهكذا اقترن عنده تغيير المكان بفقدان لغةٍ واكتساب أخرى؛ ندرك أن نسيان اللغة الأصلية يعتبر عقابا. وبطبيعة الحال، بعد البعث والعودة إلى الجنة، سينسى آدم السريانية ويستعيد اللغة العربية». ويخلص الناقد المغربي للقول: إنه «لا تغيير للمكان من دون عقاب: فقد ينسى المرء لغته، وبعبارة أخرى، قد يصبح آخر».

نعم، إن قصة آدم مع العربية تشبه قصص كثير من العرب اليوم، ممن غادروا أماكنهم -طوعا أو كُرها- إلى بلاد أجنبية، فغادروا معها لغة المكان ليستوطنوا في لغات أجنبية. هكذا ينسى المهاجرون والمنفيون العرب، تدريجيا، لغتهم في بلاد الآخرين. وهكذا تتفاقم المسافة جيلا بعد جيل بين المرء والمكان الأصلي. وتلك إذن إحدى الضرائب الباهظة التي يدفعها ابن آدم لقاء تبديل المُقام.

نفهم من ذلك أيضا مدى اشتباك العلاقة بين لغة الإنسان ومكانه الموصوف «وطنا». فاللغة ليست مجرد عنصر من عناصر المكان أو صفة رسمية من صفات دولته المنصوص عليها في الدستور، كلا. لكنني أستطيع القول: إن اللغة شرطُ المكان، شرط حقيقي من شروط الانتماء الكامل إليه والاستيطان فيه. فلا يمكن أن تدخل المكان تماما وأن تبقى خارج لغته في الوقت نفسه، أو على هامشها. وكي أرصف المعنى في عبارة أدق سأقول إن «إتقان المكان» لا يكتمل إلا بإتقان لغته. (ولاستيضاح معناي من هذا التعبير، إتقان المكان، أتمنى من القارئ مراجعة مقال نشرتُه قبل مدة على هذه الزاوية من جريدة «عُمان»، بعنوان: « تبديل المكان: المُقام كأنه قيد»).

إلى جانب اغتراب السحنة والملامح وانقطاع اليد الغريبة عن أسباب رزقها وممتلكاتها، أثقلت على أبي الطيب المتنبي، شاعر العربية الكبير، غربته اللغوية في بلاد فارس. تصف لنا قصيدته في مديح عضد الدولة ما تنَّعمت به عينه من متنزهات شِعب بَوّان البديعة في طريقه إلى شيراز، إلا أن «الفتى العربي» ظل مع ذلك «غريبَ الوجهِ واليدِ واللسان». لم تكتمل تلك الجنة البصرية للمتنبي؛ لأن ازدهار العين رافقه طمس لثلاثة أعضاء وجودية في غربتها عن مكانها الأليف، من بينها لسان الفتى البليغ. وكيف لشاعرٍ كالمتنبي ألا يكون كائنا لغويا بامتياز، يضطرب وجوده إذ يغترب خارج جغرافيا اللغة العربية!

اللغة بوصفها شرطا للمكان تعني أيضا أنها تمثل جانبا من مناعته وتمنعه على الغرباء القادمين من خارج لغته، أكانوا سُياحا أم مهاجرين، أو كانوا أعداء أجنبيين. إنها آخر غشاء خفي يقي خصوصية الهوية المحلية من الانتهاك السافر للفروقات والتمايزات بين البشر الذي تشنه العولمة المتوحشة على مختلف الصُعد، وما ينتج عنه من اقتلاع للجذور واقتطاع للأنساب ومحوٍ وإحلالٍ ثقافيين.

ولكن هل يحدث، في عصر ارتطام العوالم هذا والانكشاف الكلي المخيف، أن ينسى المكان -نفسه- لغته وأن يتغرَّب ويتغربل في لغة أجنبية بديلة؟ كيف أصبحت المدن العربية إذن مهددة بنسيان لغتها والتحول التدريجي والطوعي إلى ما يشبه المنفى المحلي في قلب إنسانها العربي الذي يرفض الهجرة معتصما بخيار الوطن لأسباب كثيرة، ربما يكون أحدها خوفه من ذلك العقاب الذي وصفه كيليطو؛ نسيان اللغة الأم؟

يمكننا أن نفهم الظاهرة الأولى التي ينسى فيها العربي لغته في بلاد من المهجر والمنفى. فدوامة العنف والحرائق وانهيار العواصم لم تتوقف عن طرد العرب من جغرافيا اللغة العربية لأكثر من قرن من الزمان. ويمكننا أن نعدد، منذ شعراء المهجر حتى اليوم، ما لا يُحصى من أسماءٍ بارزة في ثقافتنا العربية المعاصرة كتبت وتكتب بحبر غير عربي، ومن بينهم كيليطو نفسه. بل يمكننا أن نسلّم بأن نسيان اللغة «عقاب» طبيعي يتعرض له أي إنسان يغادر جغرافيا لغته ليندمج في مجتمع جديد يتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهو عقاب لا يطال العرب وحدهم، فالبشر منذ أن تكلم الإنسان الأول ما زالوا يهاجرون ويغتربون وينسون لغاتهم ويستبدلونها. ولكننا لا نستطيع أن نستوعب نسيان المكان العربي للغته إلا كانقلابٍ قاسٍ ومخيف على سكانه الأصليين. ففي حين تمسَّك بعض العرب بمدينته رافضا إغراءات المنفى، وجد مدينته تستبدل لغته وتنقلب عليه بلغة جديدة وتتحول إلى منفى محلي.

إن نظرة عابرة على لوحات المحال وأسماء العلامات التجارية في شوارع مدينة عربية تكفي لتصيب العربي بالشك في موقعه من الزمان والمكان. فالحروف اللاتينية التي تغزو معالم المكان وملامحه ليست إلا بداية الإصابة بالمنفى والإحساس بالاغتراب عن المكان في قلب المكان، ليكتمل المنفى المحلي بطغيان اللغة الإنجليزية على لغة التعليم والتجارة والأعمال والفن ومختلف مجالات الحياة. مهنٌ كاملة تمت مصادرتها من اللغة العربية. أما كلام الناس في الأسواق والمقاهي والمؤتمرات، في البيت والمدرسة والوظيفة، فضرب من الكلام الهجين الذي لا تميز فيه جملة عربية من جملة إنجليزية. ويصبح هذا النوع من الكلام مدعاة للاستفزاز حين يصدر في الإعلام من شخصية تحمل الصفة الرسمية.

هي حالة من حالات التشوه الكثيرة التي تتفشى في حياتنا الثقافية والسياسية، لكنها لا تمنعك من الضحك الباكي على جملة تسمعها لم يبق فيها من العربية إلا أسماء الأشخاص أو حروف الجر أحيانا. بوسعك أن تفهمها عَرَضا طبيعيا لا يهدد هويتك، ويحق لي أن أراها كما يراها المدافعون التقليديون عن اللغة العربية: غزوا أجنبيا ناعما وبأدواتٍ وموارد محلية.

ولا تغيب عن بالي معاناة شريحة كبيرة في المجتمع ممن لم تحالفهم الفرص لتعلم اللغة الإنجليزية. أليس من حقهم أن يطلبوا القهوة بكلمات عربية في مقهى ما في شاطئ القرم؟ أليس من حق كبار السن أن يشرحوا علتهم الصحية بكلمات عربية للطبيب في مستشفى من مستشفيات البلاد؟ أليس من حقي وحق الأجيال العربية القادمة أن يحلموا بدراسة الهندسة والطب والعلوم في جامعات بلادي وبلاد العرب باللغة التي درس وألف بها أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في بغداد القرن الثالث الهجري؟

في صلب مهمتي الشعرية إصرار «سياسي»، أجل أستطيع أن أقول ذلك، إصرار سياسي لتذكير العرب بأن لغة قصيدتي لغة حياة، علما وعملا، وليست مجرد لغة للشعر، أو لغة مقدسة محفوظة في الكتاب، حالها كما كانت اللغة العبرية يوما ما لغة صلاة وعبادة لا غير. وبوسعي أن أحلم في قصيدتي بمدينة تتكلم كلها بالعربية.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللغة العربیة

إقرأ أيضاً:

من إسطنبول إلى عمّان.. هكذا تصنع زينب وعيا معرفيا بقضية القدس

عمّان- "كنتُ أسمع كثيرا عن مدينة القدس، لكنني لم أكن أعرف تفاصيلها، أردت أن أتعلم اللغة العربية لأفهم الكتب والأحاديث عنها بلغتها الأصلية، أشعر أنني أقترب منها أكثر، كلمة بكلمة، وصورة بصورة".

بهذه الكلمات، تصف الفتاة التركية القادمة من إسطنبول "زينب كاتبه" رحلتها نحو مدينة لم تطأها قدماها بعد، لكنها سكنت قلبها منذ سنوات، لم يكن تعلّم اللغة العربية بالنسبة لها مجرد رغبة أكاديمية، بل كان بوابة لفهم التاريخ، واستيعاب الرواية، والاقتراب من قدسية المكان الذي لطالما أسر خيالها.

قبل أشهر قليلة، وصلت زينب إلى العاصمة الأردنية عمّان برفقة مجموعة من الفتيات والفتيان قادمين من تركيا، حيث التحقت بمركز المعجم لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وهناك بدأت رحلتها مع اللغة من حروف الأبجدية الأولى إلى قراءة النصوص التي تتناول فلسطين والقدس.

طالبات من تركيا التحقن بمركز لتعليم اللغة العربية في الأردن من أجل تعلم قضية القدس ورفع مستوى الوعي بها (الجزيرة) للقدس أقرب

لم تقتصر تجربة زينب على تعلم اللغة داخل الصفوف، بل شاركت مع زميلاتها في ورش عمل تدريبية نظّمتها جمعية القبة الثقافية بالتعاون مع عدد من المؤسسات المقدسية الأخرى المعنية بقضية المسجد الأقصى والقدس.

تقول زينب للجزيرة نت: "لم تكن دراسة اللغة العربية سهلة في بداياتها، لكنها كانت تحمل دافعا أقوى من التعب، وكلما قرأت كلمة جديدة عن القدس، شعرت أنني أزيح الستار عن زاوية مظلمة من الصورة".

بالنسبة لزينب وزميلاتها، لم تكن القدس مجرد مدينة على الخارطة، بل رمزًا لهوية روحية وثقافية تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة، تقول الفتيات التركيات في أحاديث منفصلة لمراسل الجزيرة نت: "في تركيا نحب القدس كثيرا، لكننا لا نشعر بقربها الحقيقي إلا عندما نفهمها بلغتها ونغوص في تاريخها".

إعلان

اليوم، وبعد مرور أشهر على قدومها إلى عمّان، تشعر زينب أنها قطعت شوطا كبيرا، فقد أصبحت تقرأ المقالات بالعربية عن القدس دون الحاجة إلى ترجمة، وتشارك في نقاشات مع طلاب عرب، وتحلم أن تزور فلسطين يوما، لا كسائحة، بل كدارسة ومحبة وحاملة رسالة.

المشاركون في البرنامج التعليمي أثناء لعبة فك لغز الكنز للوصول إلى مجسم المسجد الأقصى (الجزيرة) الكنز المقدسي

تستعد زينب وزملاؤها لخوض تجربة استثنائية ضمن فعالية تفاعلية تحمل اسم "لعبة الكنز المقدسية"، حيث يمتزج التنافس المعرفي بروح المدينة المقدسة في أجواء تحاكي عبَق القدس وتاريخها، يمر المشاركون بمحطات ثقافية وتعليمية عدة، تقودهم في النهاية إلى "الكنز" ذلك الذي لا تُقاس قيمته بالمادة، بل بما يخلّفه من أثر عميق في الوعي والوجدان.

تُعدّ هذه التجربة جزءا من سلسلة أنشطة تنفذها جمعية القبة الثقافية بالتعاون مع معهد المعجم، في إطار برنامج معرفي شامل يُعنى بتقديم القدس كقضية حية في الوعي الشبابي الدولي، من خلال أساليب تعليمية غير تقليدية، تراعي الخلفية الثقافية واللغوية للطلبة الأجانب، وتفتح أمامهم نافذة لفهم الواقع الفلسطيني والقدسي بعيدا عن الصورة النمطية أو التناول السطحي.

بالنسبة لزينب وزميلاتها، فإن مشاركتها في هذه الورش لم تكن مجرد رحلة تعليمية قصيرة، بل تجربة وجدانية عميقة، بدأت بلغة عربية تُتقنها تدريجيا، وتنتهي بمفاهيم جديدة حول القدس ومكانتها في ضمير الشعوب، وخاصة في وجدانها الشخصي كمسلمة جاءت من تركيا محمّلة بإرث تاريخي وروحي متصل بالمدينة المقدسة.

مجسم المصلى القبلي من المسجد الأقصى يمثل الكنز الذي يبحث عنه المشاركون في لعبة الكنز (الجزيرة) جسور ثقافية

تسعى جمعية القبة من خلال هذه الفعاليات إلى بناء جسر تواصل ثقافي ومعرفي بين الطلبة الأتراك والقدس، وتعزيز حضور المدينة في عقل ووجدان شباب العالم الإسلامي، باعتبارهم سفراء محتملين لقضيتها في بلدانهم ومجتمعاتهم.

أثبتت هذه التجربة نجاحها في السنوات الأخيرة، إذ تخرج كثير من الطلبة الأجانب، خاصة من تركيا وماليزيا وإندونيسيا والبوسنة، وهم يحملون وعيا جديدا وموقفا أكثر وضوحا تجاه قضية القدس، وينقلونه بدورهم إلى مجتمعاتهم بلغاتهم الأصلية، مما يسهم في نقل الرواية المقدسية إلى فضاءات دولية أوسع.

ويوضح مدير مركز المعجم لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها محمد البيشاوي للجزيرة نت، أن البرنامج يهدف إلى "ربط تعليم اللغة العربية بمضامين حضارية وثقافية، تجعل المتعلم يرى اللغة في سياقها الحقيقي، خاصة حين تكون مرتبطة بقضية مثل القدس التي تحظى بمكانة روحية ومعنوية لدى كثير من الشباب حول العالم".

لم تكن زينب حالة فردية، بل نموذجا لشباب تركيّ متعطش للمعرفة، والتواصل مع القضايا العادلة في منطقتنا، خاصة قضية القدس، فقصة زينب وزميلاتها تفتح باب الأمل في دور المعرفة والثقافة في بناء جسور بين الشعوب، وتثبت أن شغفا صغيرا في قلب فتاة يمكن أن يثمر أثرا كبيرا في عالم متعطش للفهم والوعي.

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تتكلم عن إنجازاتها ضدّ الحزب.. هذا ما كُشف بالأرقام
  • جيل زد يبتكر لغته الخاصة في الحب.. علاقات هادئة وإفصاح تدريجي
  • “مجموعة لاهاي” تفضح المشاركة العربية في إبادة غزة
  • شاب يفقد حياته غرقًا بعد ساعة من إنقاذه من نفس المكان
  • وزير التعليم: تحديث مناهج اللغة العربية من رياض الأطفال وحتى الصف الثاني الإعدادي
  • وزير التربية التعليم يكشف آخر مستجدات تطوير منهج اللغة العربية برياض الأطفال والمرحلة الإعدادية
  • سفراء التطوير.. وزير التعليم يشهد انطلاق البرنامج التدريبي الموسع لمعلمي اللغة العربية عن المناهج المطورة
  • ما مدى نجاسة بول القطط وحكم الصلاة في المكان الذي تلوث به؟.. الإفتاء توضح
  • تفاقم معاناة سكان الخيام النازحين بمدينة غزة
  • من إسطنبول إلى عمّان.. هكذا تصنع زينب وعيا معرفيا بقضية القدس