خطاب تأسيس نظرية التسامح العمانية
تاريخ النشر: 14th, August 2023 GMT
التسامح.. عقيدة أساسية للدولة الحديثة في سلطنة عمان، ومن أراد أن يفهم الآليات التي تدير بها الحكومة المجتمع فعليه أن يستقرئ «نظرية التسامح». وخصصتُ بالذكر الحكومة؛ لأن المجتمع له مسار آخر، من المهم أيضًا دراسته، فهو كسائر المجتمعات لا يكاد يفرق عنها إلا بظروف فرضها التأريخ العماني الطويل. وهذا يعني أن من وضع نظرية للتسامح في عمان هو السياسة، وليس الاجتماع أو الدين، وما أبداه المذهب الإباضي من استيعاب للفروق المذهبية فليس ناشئًا بالأصالة من المنظومة المعرفية المقررة في أبجدياته الفقهية والكلامية، فهو في هذا -وبالرجوع لمؤلفاته- لا يختلف كثيرا عن سائر المذاهب الإسلامية، وإنما كان على المذهب بحكم أكثريته وهيمنة قبائله في عمان أن يستوعب مختلف المكونات المذهبية، وهذا يذكّرنا بمشروع الآباء المؤسسين للمذهب كجابر بن زيد الأزدي (ت:93هـ)؛ الذي أعتْبِره «ما قبل المذهبية»، وأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي (ت:145هـ)؛ الذي تبنى «مشروع الأمة»؛ الذي من خصائصه استيعاب كل المكونات الإسلامية، ومن أراد مزيد بيان فعليه بكتابي «السياسة بالدين».
هذا مدخل.. ينبغي استصحابه عند الحديث عن «خطاب التأسيس» الذي رسمه مؤسس الدولة الحديثة في عمان جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيّب الله ثراه- (ت:2020م) لـ«نظرية التسامح»، التي أعلت الحكومة من شأنها آخرَ 30 سنة، وتكمن أهمية المسار الديني السابق على الدولة الحديثة أن الحكومة بنت على إيجابيات التراث الإسلامي الذي اصطبغ به التاريخ العماني طيلة 14 قرنًا.
هذا الخطاب.. الذي ألقاه السلطان قابوس عام 1994م بمناسبة العيد الوطني الرابع والعشرين، جاء في ذروة التعصب المذهبي الذي اجتاح المنطقة مشكّلًا أيديولوجيا سياسية متترسة بأسلحة مدمرة، ابتدأت في جبال أفغانستان لتنتهي بهجمات 11 سبتمبر2001م على نيويورك وواشنطن، لقد كانت التسعينيات الميلادية مرحلة غليان مرجل الإسلام السياسي، كما أعلن الغرب سياسة القضاء على الإرهاب، وقد سلكت الدول فيه سبلًا شتى؛ جنح كثير منها للعنف، يفوق أحيانًا ما سلكته الجماعات الإرهابية، لكن سلطنة عمان اختطت سبيلًا آخر وهو التسامح.
إن القول بـ«خطاب التأسيس» لا يعني أن الفكرة نبتت في حينها، وإنما هو تتويج لما سارت عليه الدولة الحديثة منذ تأسيسها، ومن يقرأ خطابات السلطان قابوس يجد ذلك حاضرًا؛ بالحض على الوحدة والدعوة إلى رص الصف، وعبر الرؤية الدينية التي كان يستند إليها جلالته، لا سيما؛ أن الدولة واجهت في بدايتها «عقيدة ماركسية» مسلحة، فكان الدين أمضى سلاح لمواجهتها، طبعًا؛ مع بناء المؤسسات الحديثة، والرعاية الاجتماعية، والتوزيع المتوازن للثروة على مناطق عمان المختلفة، وإشراك مختلف القوى في إدارة الحكومة. وأهم محطة تستوقفنا في خطابات السلطان قابوس في حديثه عن التسامح قبل «خطاب التأسيس»؛ هي خطبة الجمعة التي ألقاها بجامع نزوى بتاريخ: 15/ 12/ 1980م: (فجمعت كلمة التوحيد تحت لوائها الكثير من معتنقي الأديان السماوية الذين رأوا في تسامح الإسلام وعزِّه كل خير وبركة). صحيح؛ أن الخطبة جاءت مواجهةً «للإلحاد» الذي دخلت معه الدولة في صراع مسلح، إلا أن موقفها لم يتغيّر من الأديان، بل تحول إلى برنامج عملي بإنشاء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية عام 1998م. فالدولة.. حددت خط تسامحها مبكرًا، وهو القطيعة مع الإلحاد، والاستيعاب للأديان؛ ومن باب أولى المذاهب الإسلامية.
هناك دافعان لإلقاء السلطان قابوس «خطاب التأسيس»:
- تصاعد العنف في المنطقة؛ مرتكزًا على الدين، وقد واجهته الدولة بتبني مبدأ (السلام مذهب آمنا به)؛ تعبيرًا عن رؤية عمان تجاه الحاصل في المنطقة.
- اكتشاف جناح لتنظيم الإخوان المسلمين العالمي في سلطنة عمان، جرى التحقيق مع أعضائه ومحاكمتهم، وقد تعاملت الدولة معه بمبدأ التسامح، فصدر عفو سامٍ عنهم، دلالةً على التطبيق العملي للنظرية.
كلا الخطابَين ألقاهما السلطان قابوس في نزوى، وهذا يؤكد على أن «نظرية التسامح» مستندة إلى الدين، ولذا؛ علينا ألا نبحث عن مفرداتها خارج هذا البُعد المعرفي، بمعنى؛ أنه علينا استبعاد «الطرح العلماني» بكونه رؤية تستوعب مدى أكبر للتعددية، فالتسامح العماني.. محدد بالإطار الذي تسمح به «الشريعة الإسلامية». وهذه الرؤية أسست كذلك لخطاب ديني اجتماعي آخر موازٍ لخطاب الدولة، ولكنه ظل خاضعًا لسيطرتها، تتابع مساره، وترصد متغيراته، وتوازن بين معطياته.
وأما أهم سمات «خطاب التأسيس» فهي:
- الانطلاق من التراث.. وقُصد به التجربة التي مرَّ بها العمانيون على طول تأريخهم الإسلامي، والتي كوّنت اجتماعهم، فالمجتمع.. لم يكن منغلقًا على نفسه، بل فيه تنوع وتعدد، يقول السلطان قابوس في خطابه: (لقد أسهمت عمان على امتداد تاريخها الطويل في صنع الحضارة الإنسانية، وكان لأبنائها جهد غير منكور في خدمة هذه الحضارة، فالموقع المتميز لهذا البلد الطيب، والروح النضالية التي حملت العمانيين إلى أقاصي الأرض، يجوبون البحار، ويمتطون الأخطار، فيلمسون بأيديهم، ويشاهدون بأعينهم، ويخالطون بقلوبهم وعقولهم، صنوفًا من الحضارات، وضروبًا من الثقافات، وأشكالًا متباينة من التقاليد والعادات، كل ذلك؛ كان له ولا شك أثر بارز في البناء الحضاري الذي شاده الآباء والأجداد، وصاغته الأجيال المتعاقبة، تراثًا حيًّا خالدًا يجسد ملامح التاريخ وملاحمه، ويعبّر بصدق عن الثراء الباذخ للتجربة العمانية الضاربة في أعماق الزمن).
- رفض «الأفكار الدخيلة».. فحدود التنوع الفكري الذي تسمح به النظرية هي ألا يعمل على زعزعة أمن المجتمع العماني، والمعيار في ذلك هو «التمسك بلب مبادئ الدين الحنيف»: (وألا يسمح للأفكار الدخيلة التي تتستر تحت شعارات براقة عديدة، أن تهدد أمن بلده واستقراره، وأن يَحذَر ويُحذِّر من هذه الأفكار التي تهدف إلى زعزعة كيان الأمة، وأن يتمسك بلب مبادئ دينه الحنيف وشريعته السمحة التي تحثه على الالتزام بروح التسامح والألفة والمحبة).
- رفض الجمود في الفهم الديني.. فالتزمت هو سبب التخلف والعنف وعدم التسامح: (إن التزمت في الفهم الديني لا يؤدي إلا إلى تخلف المسلمين، وشيوع العنف وعدم التسامح في مجتمعاتهم. وهو في حقيقة الأمر بعيد عن فكر الإسلام الذي يرفض الغلو، وينهى عن التشدد، لأنه دين يسر، ويحب اليسر في كل الأمور).
- فتح باب الاجتهاد.. سبيل للثراء الفقهي: (لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن بالحكمة والبيان، وضمنه المبادئ العامة والقواعد الكلية للأحكام الشرعية، ولم يتطرق فيه إلى جزئيات المسائل التي يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان، وذلك؛ ليتيح للمسلمين الاجتهاد في مجال المعرفة والفهم الديني، واستنباط الأحكام لما يستجد من وقائع، وفقًا لبيئاتهم وللعصر الذي يعيشون فيه، مع الالتزام الدقيق في هذا الاستنباط بتلك المبادئ العامة والقواعد الكلية. وعندما انتشر الإسلام خلال العصور التالية للعهد النبوي ظهرت مسائل جديدة احتاج المسلمون إلى معرفة حكم الشرع فيها. فماذا صنعوا؟ لجأوا إلى الاجتهاد واستنبطوا الأحكام المناسبة. وكان من نتيجة ذلك؛ هذا التراث الفقهي الثري المتنوع، الذي نفخر به اليوم. لقد أثبتوا أن الشريعة قادرة على مواجهة مختلف الظروف في مختلف البيئات. غير أن تخلف المسلمين في العصور المتأخرة جعلهم يتحجرون على موروثهم من الآراء الفقهية).
هذه أهم السمات الأساسية التي قام عليها بناء «نظرية التسامح» حسبما وردت في «خطاب التأسيس»، وكما أنها انطلقت من الرؤية الدينية فإنه أوكل تطبيقها إلى المؤسسة الدينية وهي وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فهل نجحت في تحقيق هذه السمات؟
دعوتُ من قبل إلى مراجعة النظرية وتطبيقاتها، ولقد جاء وقتها؛ في ظل النهضة المتجددة التي يقودها مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق -أعزَّه الله- وهذا لا يعني التخلي عنها، وإنما تطويرها وفقًا لمستجدات المرحلة، مع إخضاعها للتقويم والحوكمة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السلطان قابوس
إقرأ أيضاً:
نظرية جديدة تنسف كل ما نعرفه عن تشكل أول قارة في الأرض
قدم علماء، نظرية جديدة حول تاريخ تكوّن الأرض، قد تنسف المعتقدات التقليدية حول كيفية تشكّل القارة الأولى في الكوكب.
ونشر باحثون من جامعة هونغ كونغ دراسة في مجلة "ساينس أدفانسز" تفيد بأن الوشاح الأرضي العميق، وليس الصفائح التكتونية، كان هو المسؤول عن تكون أول قشرة قارية على سطح الكوكب.
وتشير النظريات القديمة إلى أن الصفائح التكتونية كانت سبب ظهور القشرة القارية، نتيجة تصادم الصفائح وانغماس إحداها تحت الأخرى.
لكن فريقا من الباحثين في جامعة هونغ كونغ، توصل إلى أن القشرة الأرضية لم تتشكل بسبب تصادم الصفائح التكتونية، بل تشكلت عبر مرحلتين: مرحلة صعود الوشاح الأرضي وتهدل الصخور الخضراء بفعل الجاذبية.
وبنيت الدراسة على تحليل صخور قديمة شمال الصين، وأظهرت التحاليل أن أعمدة الوشاح الأرضي، وهي تدفقات ضخمة من الصخور المنصهرة الصاعدة من أعماق الأرض، كانت العنصر الأساسي في تشكل القارة الأولى.
وتشير الدراسة إلى أن القارة الأولى تشكلت نتيجة حركات الحمل الحراري داخل العمق الأرضي، حيث صعدت بعض المواد الساخنة إلى السطح، فبردت وكونت القارة الأولى.
وقسم الباحثون عملية تشكل القارة الأولى إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى قبل نحو 2.7 مليار سنة، وفيها صعدت حمم من الوشاح من أعماق الأرض وتكدست في قاع البحار وشكلت المادة الخام للقشرة الأرضية.
المرحلة الثانية قبل نحو 2.5 مليار سنة، وفي هذه المرحلة تكونت أيضا الطبقات الأساسية للقشرة الأرضية.
وذكر تقرير لموقع "دايلي جالاكسي"، أن تأثير هذا البحث لا يقتصر على إعادة تقييم آلية تكوين القارات، بل يتعداه ليسهم في فهم الديناميات الجيولوجية للأرض والأجرام السماوية الأخرى.