10 نوفمبر، 2024

بغداد/المسلة: آزاد محسن

تعد تجربة “عصائب أهل الحق” واحدة من أبرز الأمثلة على التجارب المتكاملة التي تجمع بين المقاومة العسكرية والعمل السياسي، حيث تمثل أُنموذجاً في كيفية الانطلاق من مرحلة الكفاح المسلح إلى التأثير السياسي والوطني الواسع.

ورغم البداية المتواضعة لهذه الحركة، التي انطلقت من عشرة أشخاص مؤمنين بقضية واحدة، إلا أنّ إرادة قادتها وحسن تخطيطهم، جعلها تتحول إلى أحد أقوى الفصائل المقاومة
في العراق.

تأسست عصائب أهل الحق في سياق صراع مرير مع الاحتلال الأمريكي في العراق، وكانت تلك البداية نقطة انطلاق لحركة ثورية مستمرة. فمن خلال التخطيط المتقن والقيادة الحكيمة، تمكنت الحركة من تكوين بنية عسكرية قوية، كان أحد أهم ملامحها التناسق والتناغم بين الأهداف والوسائل.

الفصيل العسكري لم يكن مجرد قوة مسلحة، بل كان بمثابة جبهة وطنية تلتزم بقيم المقاومة، وتُهيئ نفسها بشكل تدريجي لدخول ساحة السياسة
مع الحفاظ على الجناح العسكري المقاوم لأنه أساس نهجها.

في البداية، كان دور العصائب مقتصراً على المقاومة المسلحة، ضد الاحتلال، وهي مهمة تضمنت القتال بكل شجاعة وبسالة في ميادين الجهاد.

لم يكن الطريق سهلاً، فقد واجهت الحركة تحديات عسكرية قاسية، ولكنها تمكنت من الصمود بفضل الوحدة والتنسيق بين أفرادها وقادتها.

ما يميز تجربة عصائب أهل الحق عن غيرها من الحركات الثورية، هو التوازن السلس بين الميدان العسكري والساحة السياسية.

لم تقتصر أهداف الحركة على طرد المحتل فقط، بل كان لها طموحات واسعة تتمثل في بناء عراق مستقل وحماية سيادته.

فمع انتهاء مرحلة الاحتلال الأمريكي، بدأ الفصيل في تطوير إستراتيجيات جديدة تتيح له الدخول إلى العملية السياسية.
كان هذا التحول مدروساً بعناية، حيث انطلقت عصائب أهل الحق من خلال حركة “الصادقون”، التي حملت رؤية سياسية واضحة ومبنية على مبادئ المقاومة والثوابت الوطنية.

دخول العصائب إلى العملية السياسية لم يكن مجرد مشاركة شكلية، بل كان تجسيداً لروح المقاومة داخل مؤسسات الدولة. ورغم التحديات والصعوبات التي واجهتها الحركة في هذا المسار، فإنها استطاعت أن تفرض نفسها كلاعب رئيسي في الساحة السياسية العراقية، بفضل قيادتها الحكيمة المتمثلة، بسماحة الشيخ قيس الخزعليّ ، الذي كان له دور محوري في قيادة هذه التحولات بشكل يوازن بين العمل العسكري والسياسي.

من أبرز مميزات تجربة عصائب أهل الحق، هو التنسيق المتناغم بين الجناح العسكري والجناح السياسي. فحركة “الصادقون”، التي تمثل الذراع السياسية للعصائب، تعمل على تحقيق التوازن بين ما هو عسكري وما هو سياسي، في وقت تنشغل فيه العديد من الأحزاب والجماعات بالتحكم في معادلات السلطة الداخلية. هذا التوازن يعكس فهماً عميقاً للواقع العراقي المعقد، ويؤكد على قدرة العصائب على التكيف مع متغيرات المشهد السياسي والعسكري في آن واحد.

ويعد سماحة الشيخ قيس الخزعليّ ، شخصية محورية في هذه التحولات، فهو ليس مجرد قائد عسكري، بل هو رجل سياسة بارع يعرف كيف يقرأ المشهد الداخلي العراقي، وكيف يستثمر إستراتيجيته بشكل فعّال لتأمين مكاسب سياسية للبلد، دون التفريط في المبادئ الوطنية.
وفي هذا الإطار، أثبت الخزعليّ قدرة فائقة في التنقل بين خطين متوازيين: المقاومة المسلحة والسياسة البرلمانية، بما يحقق مصالح العراق ويضمن الاستقرار النسبي في البلد.

على الرغم من الإنجازات التي حققتها عصائب أهل الحق على الصعيدين العسكري والسياسي، فإن الطريق أمامها ما يزال طويلاً، فالواقع العراقي معقد، ويشهد تحديات كثيرة من بينها التوازنات الطائفية والسياسية، والصراعات الإقليمية والدولية، إلا أنّ تجربة العصائب تشير إلى أن هناك رؤية واضحة ومستقبل مشرق للحركة في ظل قيادة حكيمة وقاعدة شعبية واسعة تدعمها.

عصائب أهل الحق اليوم ليست مجرد فصيل مقاوم أو حزب سياسي، بل هي قوة سياسية وعسكرية توازن بين الدفاع عن العراق والحفاظ على استقلاله من جهة، وبين بناء عراق قوي على مختلف الأصعدة من جهة أخرى. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها، فإنّ نجاحاتها في التعامل مع المتغيرات العسكرية والسياسية تؤكد على أنّ القادم سيكون أفضل بكثير مما قد يتصور البعض.

تجربة عصائب أهل الحق تبرز أهمية التخطيط الاستراتيجي المتكامل، الذي يوازن بين المقاومة السياسية والعسكرية، فبدلاً من الانغماس في صراع غير محسوب، تمكّنت العصائب من بناء جسور تواصل بين جبهتها العسكرية والسياسية، متخذة من الوطنية والحنكة السياسية طريقاً نحو النجاح.
هذه التجربة يجب أن تدرس جيداً من قبل الأجيال القادمة، فهي تشكل أُنموذجاً يُحتذى به في كيفية الصعود المتناسق والمتوازن نحو تحقيق الأهداف الكبرى للمقاومة والشعب العراقي.

المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author moh moh

See author's posts

المصدر: المسلة

كلمات دلالية: عصائب أهل الحق

إقرأ أيضاً:

البلطجة السياسية في الحد من الأسلحة النووية

كلما هم المرء بالكتابة في قضية عامة وجد أحداثًا مروعة تشتعل من حوله، وتنعكس آثارها عليه بشكل مباشر بوصفه موجودًا بشريًّا أولًا، وبوصفه موجودًا يحيا في الجوار؛ في منطقة الشرق الأوسط المنكوبة التي تعيش أسوأ فترات تاريخها. فبينما لا تزال إسرائيل ترتكب يوميًّا المجازر المروعة ضد شعب فلسطين؛ تشن عدوانًا على إيران أدى إلى مزيد من اشتعال المنطقة من خلال الرد الإيراني المضاد. في كل عدوان تشنه إسرائيل في المنطقة تمارس «سياسة البلطجة»، وربما يبدو هذا المصطلح متناقضًا ومتداولًا على استحياء؛ ذلك أن السياسة هي فن تحقيق الممكن من خلال التفاوض والحوار لا البلطجة. ومع ذلك؛ فإننا نجد شواهد عديدة على ما يُسمى بالبلطجة السياسية في عالمنا الراهن، وهي تعني بوجه عام التبرير السياسي؛ لتحقيق هدف ما باستخدام القوة والعنف -بما في ذلك القوة العسكرية-، واستخدام التهديد أو الضغوط -كالضغوط الاقتصادية على سبيل المثال-. عدوان إسرائيل الأخير على إيران هو شكل من أشكال البلطجة السياسية باستخدام القوة العسكرية. البعد السياسي الذي تتخذه إسرائيل مبررًا لهذا العدوان هو سعي إيران لامتلاك أسلحة نووية على نحو يشكل تهديدًا لأمنها ووجودها نفسه، ويشكل خرقًا لمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. لكن هذا المبرر واهٍ، ولا يستند إلى أية مشروعية؛ فالعدوان على دولة ذات سيادة يخالف المواثيق الدولية التي تعطى للمعتدى عليه مشروعية الرد على العدوان. فلماذا يعد هذا المبرر واهيًا وغيرَ مشروع؟

معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية أنشأتها لجنة برعاية الأمم المتحدة، وقعت عليها في البداية سنة 1968 ثماني عشرة دولة من بينها الدول النووية الخمس الكبرى، وهي: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا والصين، وقد بلغ عدد الموقعين الآن 191 دولة. تدعم الوكالة الدولية للطاقة الذرية هذه المعاهدة من خلال إجراء التحقيق بشأن التزام الدول ببنودها، وأهمها: الحد من انتشار الأسلحة النووية، ونزع السلاح النووي. ولكن بعضًا من قرارات هذه الوكالة كانت مسيسة، وأكثرها ظل بلا فاعلية أو تأثير. وهي مسيسة؛ لأنها تخضع للاستخدام والتوظيف من جانب القوى العظمى ذات النفوذ، وخاصةً الولايات المتحدة الأمريكية؛ بحيث يتم التهديد باستخدام القوة بدعوى اختراق دولة ما للمعاهدة، والتغاضي عن استخدام هذه القوة بالنسبة إلى دول أخرى. ويصدق هذا عندما نتأمل ملابسات القرار الأخير للوكالة وما ترتب عليه؛ فخلال الفترة السابقة على عدوان إسرائيل كان رئيس الوكالة يصرح بأنه ليس هناك دليل يؤكد عدم سلمية المشروع النووي الإيراني، ولكن قبيل العدوان مباشرة صدر قرار الوكالة الذي صرح فيه بشكل أكثر صراحة بأن إيران غير ملتزمة باتفاقية منع الانتشار النووي. ومن الواضح أن ضغوطًا أمريكية مورست على الوكالة؛ لأن إسرائيل، بل الولايات المتحددة نفسها كانت تهدد بضرب إيران إن لم تخضع للتوقيع خلال ستين يومًا على اتفاق يحظر عليها تخصيب اليورانيوم إلا بشروطها! وقد جاءت الضربة من إسرائيل وبمباركة أمريكية معلنة. ثم لنا أن نتساءل: مَن الذي أعطى إسرائيل مشروعية توقيع العقاب على المخالفين للمعاهدة، مثلما حدث بضربها لإيران؟ ليست هناك أية مشروعية قانونية دولية؛ فهناك فقط تصريح من الدولة التي تقوم بدور «شرطي العالم» الإدارة الأمريكية إلى دولة الكيان التي تقوم بدور نائب هذا الشرطي في منطقة الشرق الأوسط.

لم يكن هذا هو الحال دائمًا؛ فبعض الدول دخلت سباق التسلح النووي مثل الهند وباكستان، ولم تلق عدوانًا مماثلًا، فهل الدول غير الموقعة على المعاهدة يحق لها التسلح النووي، وعدم الخضوع للتفتيش -وهو ما يعوق مهمة وكالة الطاقة الذرية-؟ ولماذا لا تتابع هذه الوكالة تنفيذ بنود المعاهدة فيما يتعلق بنزع أسلحة الدول النووية تدريجيًّا؟ أفلا يكون هذا مدعاة لانسحاب بعض الدول من هذه المعاهدة أو الاستهانة بها؛ ولذلك فإن كوريا الشمالية انسحبت من المعاهدة، وواصلت برنامجها النووي حتى أصبحت قوة مسلحة نووية، ومع ذلك فقد رضخت الولايات المتحدة للأمر الواقع، حتى إن ترامب نفسه قد زارها والتقى زعيمها. ولقد كان من المقرر أن تستأنف الولايات المتحدة التفاوض مع إيران في مسقط يوم الأحد من ذلك الأسبوع بشأن برنامجها النووي، وجاءت الضربة الإسرائيلية قبل ذلك بيومين وبعلم الولايات المتحدة وبدعم صريح ومعلن! وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المستهدَف كان جلوس إيران إلى طاولة المفاوضات مهزومة منكسرة بحيث تُملَى عليها الشروط، وهذا ما يُعرف في لغة القانون بتوقيع «عقد إذعان»! ولكن خاب ظن إسرائيل وحليفها الأكبر؛ فقد ظهرت صلابة إيران وقدرتها على رد العدوان وتهديد الكيان الصهيوني في عقر داره. وعندئذ صرح ترامب بأن هذه الحرب ينبغي أن تنتهي، وجدد دعوته للمفاوضات! منتهى التناقض؛ لأن مَن هدد بالحرب ودعمها هو مَن يدعو إلى إنهائها! ولهذا ترفض إيران التفاوض إلا بعد استكمال ردها على العدوان، أي بعد أن تمتلك أوراق قوة في التفاوض. ولكن سيكون من الخطأ البالغ أن تُقدِم إيران على غلق مضيق هرمز؛ لأن هذا سيوقع ضررًا بالغًا على بلدان الخليج ومجمل الاقتصاد العالمي، ومن ثم سيعطي مشروعية قانونية للحرب عليها.

وعلى هذا كله؛ أرى أن الدوافع الحقيقية لهذه الحرب لا شأن لها بخرق معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وإنما الحفاظ على إسرائيل باعتبارها القوة الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط والذراع الطويلة للولايات المتحدة في المنطقة. وربما يدعونا هذا إلى التساؤل: لماذا لم تسع الدول العربية التي تشكل حزامًا جغرافيًّا يطوق إسرائيل إلى التحالف مع إيران وتركيا، لا بهدف العدوان على إسرائيل أو معاداتها، وإنما بهدف الشراكة والتعاون في المجالات العسكرية والاقتصادية والعلمية؟ فمن شأن ذلك أن يخلق قوة موازية لإسرائيل يجعلها تُحجم عن أطماعها التوسعية والتفكير في حل جاد للدولتين، وتبنى سياسة العيش بسلام من دون عدوان. السياسة تقوم على خلق التوازنات التي تسمح بالتعايش والتفاوض عند الصراع. ولكننا لم نسع إلى خلق التوازنات في القوة؛ ولذلك فإن إسرائيل لا تزال تسعى إلى سياسة البلطجة والعدوان.

د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة

مقالات مشابهة

  • دعاء مستجاب لبداية السنة الهجرية 1447.. ردده للنجاح والرزق والتيسير
  • البلطجة السياسية في الحد من الأسلحة النووية
  • التخطيط: اعتماد العراق شبه الكلي على القطاع النفطي نموذج هش يُفترض مغادرته
  • محافظ القاهرة يعلن تعميم تجربة زراعة أسطح 450 عقارًا بالأسمرات بعد نجاح مبدئي مذهل
  • “برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية” يوجه بوصلة المستثمرين نحو التجربة اليونانية
  • "برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية" يوجه بوصلة المستثمرين نحو التجربة اليونانية
  • «برنامج تطوير الثروة الحيوانية والسمكية» يوجه بوصلة المستثمرين نحو التجربة اليونانية
  • رئيس هيئة الدواء يزور مستشفى أهل مصر للحروق: نموذج يحتذى به
  • علاج جديد يحدث تحولا جذريا في مستقبل مكافحة سرطان الدم
  • بنكيران يؤكد استعداده لتحمل تبعات مواقفه السياسية، بما في ذلك السجن