لقجع: المغرب صار اليوم يحظى بمكانة بين الأمم إلى درجة أن دولة كبرى غيرت اختيارات سياسية للتقرب منه
تاريخ النشر: 15th, November 2024 GMT
زنقة 20 ا الرباط
نوه فوزي لقجع، الوزير المكلف بالميزانية، اليوم الجمعة، بروح المسؤولية والجدية التي طعبت مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2025 منذ البداية، مشدد على أن “التركيز على روح المسؤولية والجدية ليس من باب المجاملة ولكن لأن مشروع قانون المالية يعتبر من اللحظات السياسية الكبرى التي تعيشها مؤسساتنا ونخبنا بفعل ارتباط المشروع بقضايانا الحيوية على كافة الأصعدة وفي مقدمتها قضايا التنمية الشاملة”.
و قال لقجع في الجلسة العمومية، التي عقدت عشية اليوم الجمعة 11 نونبر 2024، للاستماع لجواب الحكومة حول مجموع ملاحظات البرلمانيين والتصويت على الجزء 2 وعلى مشروع قانون المالية برمته، أن “مشروع قانون المالية عادة ما يعتبر جوابا على متلطبات واقعية انطلاقا من منظور سياسي ينبني على محاور عدة نجملها عادة في المرجعيات والأولويات والفرديات”.
وأبرز المسؤول الحكومي، أنه” قبل الخوض في محاور المشروع يكون المدخل البارز للإطار السياسي هو قراءة اللحظة بأبعادها الدولية وتداخلها مع التعقيدات المحلية والوطنية”.
وأكد لقجع أنه “في أجواء من التوتر الجيوسياسية التي تضع العالم على شفا الإنفجار وما ينتج عن ذلك من ضبابية الأفق الإقتصادي ومخاطر تؤرجح العلاقات الإقتصادية والسياسية الدولية، مافتئت بلادنا تؤكد قدرتها على التعاطي مع الظروف المتقلبة مبرهنة بذلك على مناعة أنسجتها الإقتصادية والإجتماعية”.
وقال لقجع إن “الانطباع السياسي لمشروع المالية يتجلى في الموازنة بين متغيرات الواقع وبين الأجوبة الممكنة انطلاقا من مرجعيات معلنة”.مؤكدا أن “هذه المقاربة التي تؤطرها أبعاد دستورية يأتي في قلبها الدور الإستراتيجي للتوجيهات الملكية السامية قبل أدوار النموذج التنموي والبرنامج الحكومي”.
ووشدد لقجع على أنه “من البديهي أن يلعب البعد الإستراتيجي الملكي دور صمام الأمان وحامي الإتجاه العام بغض النظر عن الظروف المستجدة والسياقات الداخلية الشيء الذي يمكن أن ننلمسه بوضوح من خلال مقارنة عابرة بين مغرب اليوم ومغرب ما قبل 25 سنة؛ أي ما عرفته بلادنا من تحولات في ظل عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله”.
وشدد لقجع على أن “المغرب صار اليوم يحظى بمكانة بين الأمم ترقى إلى درجة أن دولة كبرى تعمد إلى تغيير اختيارات سياسية كلاسيكية من أجل تجسير الهوة مع المغرب، ناهيك عن مستوى التحديث الشامل الذي عرفته البلاد”.
وذكّر لقجع بـ”قوة الإختيارات السياسية لصحاب الجلالة التي تشكل مرجعية لمشاريع قوانين المالية إضافة للمكونات المرجعيات الأخرى المتمثلة في النموذج التنموي والبرنامج الحكومي، فضلا عن التصويبات التي تفرضها التحولات الآنية داخليا وخارجيا”.
وتابع لقجع أنه “قد يبدو للمتتبع الذي يعتمد نظرة تجزيئية من قبيل تقييم مخرجات سنة واحدة أنه إما تغيب المرجعيات كليا أو أن لا تأثير لها إن وجدت، وهذه من نتائج إغفال السياقات وعدم النظر للعمل والإنجاز كحلقات مترابطة متلاحقة يكمل بعضها بعضا”، مضيفا أن “النظرة التراكمية هي التي بإمكانها أن تقدم صورة حقيقية عن مصداقية المرجعيات والتوجهات العامة”.
وعلى هذا الأساس، يضيف الوزير المكلف بالميزانية “يمكننا العودة إلى الإختيارات التي أطرت مالية السنوات الثلاثة الماضية وسنجدها منسجمة تماما مع الإختيارات الإستراتيجية العامة التي أطرت المرحلة “.
وقال المتحدث ذاته، إنه “بالقدر الذي أضحى واضحا الإنطلاق من تأطير سياسي رصين يفكك محددات اللحظة ويستشرف أفق تحديد أولويات المشروع يحكمه نفس المنطق وحتى إذا بدى شكليا وجود أوليات كثيرة في السنة الواحدة فالسبب راجع إلى كون أغلب المشاريع ذات الأولوية تتطلب سنوات عدة من أجل استكمالها”.
وقال الوزير فوزي لقجع أنه “إذا أخذنا على سيبل المثال التعليم والصحة والحماية الإجتماعية لن نستغرب أن نجدها كونها أولويات تتكرر كل سنة حسب عدد السنوات المخصصة لإنجاز الورش، علما أنه لايجب انتظار إتمام ورش كشرط لفتح أوراش أخرى”، مشيرا إلى أنه “ينضاف إلى هذا أولويات منتظرة قد تفرضها ظروف استئنائية طارئة لا تحتمل التأجيل”.
المصدر: زنقة 20
كلمات دلالية: مشروع قانون المالیة
إقرأ أيضاً:
المنتخب الوطني كـ"مشروع دولة"
معاذ الصالحي
ما شأن باحث في علم النفس والمجتمع بتحليل مباراة كرة قدم؟ ولماذا أخوضُ اليوم في مساحة مخصصة عادةً للمحللين الفنيين ونقاد الرياضة؟
الإجابة نلتمسها في التحول الجذري لهوية اللعبة؛ فكرة القدم غادرت مربع التنافس الرياضي البحت منذ عقود، لتستقر في صلب "العلوم الاجتماعية". لقد أصبحت كرة القدم اليوم هي أكبر "مختبر حي" لدراسة سلوك الشعوب، وانفعالات الجماهير، وتشكُّل الهوية الوطنية.
ومن داخل هذا المختبر، حين تأملت المشهد الأخير، استوقفني ذلك السكون الثقيل الذي خيّم على منصات التواصل والمجالس، معلنًا عن وصول الجماهير إلى مرحلة من الزهد التام في إبداء أي رد فعل. هذه المرة، بدا وكأنَّ الجمهور قد فقد شهية الكلام، وانسحب إلى حالة من الهدوء اليائس. لم نرَ تلك الحشود الغاضبة، ولا ذلك النقد اللاذع، بل رأينا جمهورًا يتعامل مع الخسارة وكأنها "تحصيل حاصل". وهذا "التبلد الشعوري" هو المؤشر الأكثر فزعًا؛ فهو يعني أنَّ الرابط العاطفي بين المشجع والمنتخب قد بدأ يتآكل، وأن الأمل قد حلَّ محله التسليم بالواقع.
ولكي ندرك فداحة هذا الانسحاب النفسي، علينا أن نفهم أولًا ماذا يمثل المنتخب في الوعي الجمعي؟ فبالنسبة للمواطن العُماني، لم تكن الـ90 دقيقة يومًا مجرد نزال رياضي ينتهي بصافرة الحكم، بل هي امتدادٌ للهوية، وتجسيدٌ للثقافة، واستدعاءٌ حي لذكريات الطفولة البريئة. حين يقف اللاعبون لترديد النشيد، يرى المشجع فيهم "الوطن" بكل ثقله وتاريخه؛ يرى انتصارهم انتصارًا لقيمه، ويرى في انكسارهم خدشًا لصورة "الذات الوطنية" التي يريدها دائمًا في القمة.
هذا التلاحم الوجداني يعيدنا إلى نظرية عالم الاجتماع بنيديكت أندرسون حول "المجتمعات المتخيَّلة"؛ فالوطن في الأوقات العادية قد يكون مفهومًا مجردًا، لكن "الملعب" هو المكان الذي تتحول فيه هذه الصورة الذهنية إلى واقع ملموس.
في عُمان، نحن نسيج غني من مناطق وقبائل وثقافات متعددة؛ ولكن في اللحظة التي تهتز فيها الشباك بهدف للمنتخب، تتلاشى كل هذه الفوارق؛ حيث يذوب الظفاري، والباطني، والشرقي، والداخلي، والمسندمي تحت مظلة شعورية واحدة، ليتحول ملايين العُمانيين إلى "جسد واحد" بذاكرة جمعية مشتركة، محققين بذلك أقصى درجات الاصطفاف الوطني التي تعجز المناسبات الأخرى غالبًا عن صناعتها.
وعلميًا، يمثل ما يحدث تطبيقًا دقيقًا لما يعرف بتأثير "الالتفاف حول العلم" (Rally Round the Flag). تاريخيًا، كانت الأمم تحتاج إلى تهديد خارجي أو حرب لتوحيد صفوفها الداخلية، لكن كرة القدم قدمت للبشرية بديلًا سلميًا يُحقق نفس النتيجة.
فقد كشفت دراسة تحليلية دقيقة (نُشرت في NBER) شملت بيانات من عدة دول أفريقية، أن الـ90 دقيقة قادرة على إعادة هندسة الولاءات. فقد وجد الباحثون أن انتصار المنتخب يقلل بشكل ملموس من احتمالية حدوث النزاعات العرقية والقبلية خلال الأشهر التي تلي المباراة، عندها ينجح الفوز في توسيع أفق الانتماء لدى المواطن، لينتقل من ضيق الحيز القبلي أو المناطقي إلى رحابة الفضاء الوطني، في عملية توحيد طوعية مذهلة، تحركها نشوة الإنجاز.
وإذا اتجهنا شمالًا، سنجد أن الكرة أعادت هندسة الهوية الألمانية بشكل مذهل. فبعد عقود من "الخجل الوطني" ومحاولة تواري العلم الألماني خجلًا من إرث الحرب العالمية الثانية، جاءت استضافة كأس العالم 2006 لتكسر هذا الطوق.
ورغم أن المنتخب لم يحقق اللقب حينها واكتفى بالمركز الثالث، إلّا أن أداءه البطولي كان كافيًا لإحداث التحول الجذري. وفي هذا السياق، تصف الباحثة كيرستين واغنر ما حدث بظاهرة "الوطنية الاحتفالية"؛ حيث نجح المنتخب في ترميم الكبرياء المجروح، وتحول التشجيع في المدرجات إلى فعل من أفعال 'التصالح مع الذات'، ليعود العلم الألماني للرفرفة بفخر في الشوارع.
ولا داعي للذهاب بعيدًا بحثًا عن الإلهام، ففي محيطنا العربي كان الدرس أكثر وضوحًا. ولعلنا نتذكر جميعًا ما فعله "أسود الأطلس" في مونديال 2022؛ إذ تشير دراسات المركز العربي في واشنطن (ACW) إلى أن ذلك الإنجاز تجاوز حدود الرياضة ليصبح أعظم حملة "قوة ناعمة" للثقافة العربية. لقد نجح المغرب في تصدير "القيم العائلية" ومشاهد بِر الوالدين للعالم، معززًا شعور "الندية" الحضارية مع الغرب، ومرممًا العلاقة بين المهاجرين ووطنهم الأم.
وفي المقابل، قدم لنا العراق في 2007 درسًا في الترميم الداخلي. ففي ذروة الاقتتال الطائفي، وحين عجزت السياسة عن رتق الفتوق الاجتماعية، كان المنتخب هو المؤسسة الوحيدة الفعالة في دولة منهكة. لقد كان الفوز بكأس آسيا حينها لحظة "تعافٍ جماعي"؛ توحدت الطوائف المتناحرة تحت راية واحدة، وتوقفت أصوات الرصاص في الشوارع لتعلو أصوات الاحتفال، مثبتة أن الكرة قادرة على فرض السلم الأهلي حين تفشل البنادق.
أمام هذه النماذج الملهمة، نجد أنفسنا في عُمان أمام مفارقة مؤلمة تستدعي المكاشفة؛ فنحن نملك "المادة الخام" للنجاح؛ لدينا تاريخ عريق، وشغف جماهيري متأصل، ومواهب فطرية تنبت في الحواري. ولكننا، وللأسف، ندير هذه الثروة الوطنية بعقلية 'الهواية' في زمن تحولت فيه الرياضة إلى "صناعة" ثقيلة ومعقدة.
تصريح المدرب الأخير حول الفوارق في البنية الأساسية بيننا وبين دول أخرى، كان تشخيصًا طبيًا دقيقًا لجسدٍ رياضي متهالك. نحن نحاول مناطحة "مشاريع دول" و"صناعات مليارية" بجهود فردية واجتهادات تعتمد على "البركة". إننا باختصار، كمن يدخل سباق "الفورمولا 1" بسيارة دفع رباعي قديمة؛ قد نملك شجاعة السائق، لكننا حتمًا سنخسر السباق أمام التكنولوجيا والتخطيط.
وهنا، نضع الورقة الأخيرة على الطاولة أمام المعنيين بالتخطيط الاستراتيجي. ففي صلب رؤية "عُمان 2040"، وتحديدًا في أولوية "المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية"، نجد تركيزًا شديدًا على خلق جيل معتز بهويته ومسؤول عن وطنه.
والمفارقة الكبرى تكمن هنا: قد تُنفق المؤسسات الملايين على إقامة ندوات ومحاضرات نظرية لتعزيز هذه الهوية، بينما يثبت الواقع والعلم أن مباراة واحدة لمنتخب وطني قوي ومنافس، قادرة على غرس قيم الولاء والفخر في نفوس المواطنين، بفاعلية وعمق يتجاوزان تأثير 1000 محاضرة.
إنَّ الاستثمار في تحويل كرة القدم العُمانية من "هواية" إلى "صناعة محترفة" عبر الخصخصة الحقيقية وتطوير البنية التحتية، ليس ترفًا، ولا هدرًا للمال العام. إنه استثمار مباشر في الإنسان العُماني، واختصار ذكي للطريق نحو تحقيق أهداف الرؤية في بناء مجتمع متماسك ومعتز بذاته.