منال الشرقاوي تكتب: هل النص السينمائي لبنة أولى أم كيان مكتمل؟
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
تُعَدُّ الكتابة السينمائية نقطة الانطلاق لأي فيلم، فهي بمكانة البنية التحتية التي ينبني عليها العمل الفني، غير أنّ هذا النص الأولي، مهما بلغ من الإحكام والإبداع، يظلّ قابلاً للتحولات الجذرية التي قد تعيد تشكيل معناه ورسائله خلال عملية الإنتاج.
إن النص السينمائي في جوهره ليس منتجاً نهائياً، بل هو أشبه بمخطط معماري مفتوح على التأويل والتطوير، حيث يبدأ الكاتب بتشكيل العالم السينمائي ورسم الشخصيات وتحديد الحبكة، إلا أنّ هذه المكونات تظلّ عرضة للتأويل من قِبَل المخرج، كما أنها تستجيب للتغيرات التي تفرضها اعتبارات الإنتاج، كذلك الأداء التمثيلي والمونتاج والمؤثرات السمعية والبصرية.
هنا يكمن السؤال المحوري: هل تُصان رسالة الفيلم كما رُسمت في النص، أم أن النص ذاته يصبح نقطة انطلاق لتحولات إبداعية مشتركة، تُعيد صياغة الرسالة بما يخدم الرؤية الجماعية للفريق السينمائي؟
في البداية دعنا نتفق؛ لا شك أن المخرج هو القائد المحوري في عملية تحويل النص المكتوب إلى عمل بصري، فالرؤية الإخراجية قد تضيف مستويات جديدة من العمق أو تُعيد صياغة رمزية العمل بأكمله.
على سبيل المثال، قد يُضفي المخرج عبر اختياراته في زوايا التصوير، والإضاءة، والمونتاج، أبعاداً رمزية أو فلسفية لم تكن واضحة في النص الأصلي.
فيلم "Blade Runner" (1982)، للمخرج "ريدلي سكوت"، مثالٌ بارز على ذلك، حيث بدأ الفيلم كقصة خيال علمي مستوحاة من رواية " Do Androids Dream "of Electric Sheep? "هل تحلم الروبوتات بخرفان كهربائية؟" للكاتب "فيليب ك. ديك"، إلا أنّ سكوت أعاد تشكيله ليصبح عملاً فلسفياً يستكشف قضايا عميقة مثل الإنسانية، والهوية، والوجود.
وقد تطورت رسالته بشكل ملحوظ عبر النسخ المختلفة، مثل النسخة المسرحية، ونسخة المخرج (Director's Cut)، ونسخة الإصدار النهائي (Final Cut).
إلى جانب ذلك، أُدرج الفيلم في السجل الوطني للأفلام بالولايات المتحدة عام 1993، اعترافاً بأهميته الثقافية والجمالية والتاريخية.
لم يقتصر تأثيره على تلك الحقبة فقط، بل أصبح بمكانة حجر أساس لأفلام الخيال العلمي التي جاءت بعده، حيث أسهم في ترسيخ توجه بصري ومعنوي جديد يتسم بالديستوبيا والتأملات الفلسفية، فمن أبرز الأعمال التي تأثرت به أفلام مثل "The Matrix" و"Ghost in the Shell".
من العناصر الأخرى، التي تسهم في تحوّل النص المكتوب إلى تجربة سينمائية حية أداء الممثلين، حيث يصبح النص أداة مرنة تتشكل بتفاعلهم معه، فالأداء العاطفي للممثل يمكن أن يعيد صياغة فهم الجمهور للشخصيات، وقد يحمل الفيلم نحو سياقات دلالية لم تكن واردة في النص الأصلي.
خذ مثلاً أداء "هيث ليدجر" في دور الجوكر بفيلم "The Dark Knight"، حيث تجاوز النص ليُقدّم شخصية تحمل رؤى فلسفية واجتماعية أعمق، مما عزز الرسائل النقدية للفيلم.
وبالمثل، يبرز أداء أحمد زكي في فيلم "ناصر 56" ، الذي أخرجه محمد فاضل وكتبه محفوظ عبد الرحمن، وصدر عام 1996، كأحد الأمثلة البارزة التي توضح كيف يمكن للممثل أن يعيد صياغة النص المكتوب إلى تجربة درامية مؤثرة.
في تجسيده لشخصية الرئيس "جمال عبد الناصر"، حيث تجاوز زكي حدود النص ليضفي على الشخصية بُعداً إنسانياً آخر، مكّن الجمهور من معايشة الصراعات النفسية والسياسية للقائد التاريخي في لحظة فارقة من التاريخ العربي.
أداء زكي أضاف لمسات من المشاعر جعلت الفيلم يتجاوز كونه مجرد تأريخ لحدث سياسي، ليصبح تأملاً درامياً في شخصية تحمل أعباء أمة بأكملها.
بهذا، يتضح أن أداء الممثل ليس مجرد تنفيذ للنص، بل هو إعادة خلق للفيلم بما يفتح أبعادا ورؤى جديدة أمام الرسائل التي يمكن أن يحملها العمل السينمائي.
استكمالاً لما سبق عن دور التحولات الإبداعية في إعادة تشكيل النص السينمائي، نجد أمثلة تُبرز هذه الجدلية بوضوح.
فيلم "Joker"، على سبيل المثال، بدأ كنص يعكس قضايا الصحة النفسية والهامشية الاجتماعية، لكنه تحوّل إلى عمل فلسفي عميق يستكشف قضايا العنف والعدالة، بفضل البنية السردية المتطورة والجوانب البصرية المؤثرة.
كذلك، سلسلة "Harry Potter" شهدت تحولات لافتة خلال انتقالها من النصوص الروائية إلى الشاشة، حيث أضافت الرؤية الجماعية للعمل السينمائي أبعاداً بصرية ودرامية عززت الرسائل الأخلاقية والسحرية.
كذلك، فيلم "إسماعيلية رايح جاي" (1997)، الذي كتبه أحمد البيه وأخرجه كريم ضياء الدين، بدأ كنص بسيط عن شاب بسيط يحاول تحقيق حلمه في أن يصبح مغنياً.
لكن مع انتقال النص إلى الشاشة، تحوّل الفيلم إلى تجربة تمزج بين الكوميديا، الدراما، والأداء الموسيقي، ما أعطى العمل أبعاداً اجتماعية وشبابية أكثر تفاعلاً مع الجمهور.
الأداء العفوي لأبطال الفيلم، مثل محمد فؤاد ومحمد هنيدي، أضفى روحاً خفيفة وجاذبية على النص، ما جعله علامة فارقة في السينما الكوميدية المصرية.
كذلك، أسهمت الموسيقى والأغاني في تعزيز أبعاد درامية لم تكن واضحة بالنص الأصلي، ما جعل الفيلم يخرج عن إطار قصته الأساسية ليعكس تطلعات جيل بأكمله.
إن تحولات الكتابة ليست مجرد تغييرات عرضية؛ بل هي عملية هامة تُعيد تشكيل العمل الفني وتجعله أكثر ديناميكية وثراءً.
وبينما قد تُغيّر هذه التحولات الرسائل الأصلية، فإنها في الوقت ذاته تضيف قيمة جديدة تمنح الفيلم روح تتجاوز حدود النص المكتوب.
هذه الجدلية بين النص والإنتاج تظلّ واحدة من أبرز تجليات الإبداع السينمائي، وهي التي تجعل كل فيلم عملاً فريداً يستحق التحليل والتأمل.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
د. هبة عيد تكتب: نعيب زماننا والعيب فينا
نعيب زماننا والعيب فينا.. جملة تبدو للوهلة الأولى شكوى عابرة، لكنها في الحقيقة مفتاح لفهم الكثير من الفوضى التي نعيشها. نحن نميل دائمًا لأن نُخرج أنفسنا من دائرة المسؤولية، فنلوم الزمن والناس والظروف، ونتجاهل أن كثيرًا مما نُعاتب عليه الأيام هو في الأصل صدى لقرارات صنعناها نحن، ولمواقف سكتنا عنها، ولوجوه عرفنا زيفها ولم نواجهها.
ومن أكثر ما نشكو منه اليوم هو النفاق… ذلك الوجه الذي يتلوّن كالماء، ينساب في كل اتجاه، ويبحث عن المنافع لا عن المبادئ. نراه في بعض المكاتب، في العلاقات، في المجاملات، وفي المواقف التي تتبدّل بسرعة البرق. نرى من يبتسم اليوم لمن كان بالأمس موضع سخرية، ومن يرفع راية الولاء لمن تولّى فقط لأن "المشهد تغيّر". ونسمع دائمًا ما يشبه المسرحية القديمة: "عاش الملك… مات الملك".
مواقف تتغير لا بدافع فهم جديد، ولا ضوء ظهر، بل بدافع المصلحة الخالصة، التي ما إن تتبدّل حتى يتبدّل معها وجه أصحابها.
والأغرب… أن كثيرًا ممن يمارسون هذا التلوّن هم أوّل من يهاجم النفاق في كلامهم! ينتقدونه في المجالس، ويشجبونه في أحاديثهم، وكأنهم غير معنيين به، وكأن العيب في الزمن نفسه لا فيهم.
لكن…ورغم هذا كله، ورغم ضجيج الوجوه المتعددة، فإن الخير لم يغِب. الخير ما زال موجودًا، يلمع في النفوس التي لم يفسدها التقلّب، وفي القلوب التي ترفض الكذب مهما كان مغريًا، وفي الذين لا يغيرون مبادئهم بتغيّر الناس. الخير ما زال في أمة محمد ﷺ، باقٍ كما وعد الله ورسوله، حتى وإن خفتَ صوته أمام ضوضاء المصالح.
هناك من يختار الثبات، حتى لو سار وحده. هناك من يرفض أن يقف مع "الناس الخطأ" حتى لو كان صفهم أطول. هناك من يعرف أن الحق أحيانًا يحتاج إلى من يحمله، لا إلى من يُصفّق له.
ونحن حين نلوم الزمن، ننسى أن الزمن لا فعل له… الزمن لا يتآمر، ولا يخطط، ولا يتلوّن. الناس هي التي تتغير، والقلوب هي التي تنقلب، والمواقف هي التي تضعف أو تقوى.
وما الزمن إلا مرآة… تعيد لنا ما وضعناه أمامها.
ولو امتلك كل واحد منا شجاعة الاعتراف، لبدأ التغيير من أقرب نقطة: من الداخل. من تلك المساحة التي لا يراها أحد إلا الله والضمير.
حينها نكتشف أن كثيرًا مما نشتكي منه اليوم ليس خطأ الدنيا، بل خطأ التهاون، وخطأ الصمت، وخطأ المجاملة في مواقف كان يجب أن نقول فيها "لا". ونكتشف أيضًا… أن الخير أقوى مما نظن، لكنه فقط أقل صخبًا.
ولأن الصدق لا يعلو صوته، لكنه لا يسقط… يبقى أثره، ويبقى معه وعدٌ جميل بأن الحق لا يضيع ما دام له أهل يحملونه.
وفي النهاية، لا توجد كلمات تختم هذه الحقيقة أجمل من أبيات الإمام الشافعي التي صاغ بها خلاصة الحكمة كلها:
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا
وما لزمانِنا عيبٌ سِوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغيرِ ذنبٍ
ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا