سقوط نظام الأسد.. من يملأ الفراغ في سوريا؟
تاريخ النشر: 9th, December 2024 GMT
بعد أكثر من 50 عامًا من الدكتاتورية وحرب أهلية استمرت 13 عامًا، أصبح الإطاحة بنظام بشار الأسد لحظة تاريخية استثنائية بالنسبة للشعب السوري، ورغم الفرح الذي يعيشه الكثيرون، تظل هذه اللحظة تذكرنا بتحديات وأخطار مثل تلك التي شهدتها دول أخرى بعد سقوط أنظمة دكتاتورية."
ونشرت صحيفة "الغارديان" مقالا للصحفي سايمون تيسدال قال فيه إن استخدام كلمة "تاريخي" سيكون للمرة الأولى مبررا لوصف الإطاحة بنظام بشار الأسد بعد أكثر من 50 عاما من الدكتاتورية الوحشية، ويجب أن يستمتع باللحظة، إنهم يستحقون ذلك.
الواقع أن التحذير هنا هو أن الفرح قد يتحول بسرعة إلى دموع، والتحرر إلى قمع متجدد، إذا ما أدى الانهيار المفاجئ للهياكل الاستبدادية المكروهة ولكن المستقرة نسبيا إلى انحدار لا يمكن احتواؤه إلى الفوضى. والتهديد هنا هو أن الفراغ السياسي والعسكري الذي قد ينشأ عن ذلك سوف يتنافس عليه جهات أنانية لا تهتم بالعدالة والمصالحة، بل بالسلطة والانتقام. وفي سوريا، يُعَد الانتقام طبقا يقدم ساخنا ــ وقد عاد إلى القائمة.
ويمكن إرجاع بداية الحملة للإطاحة بالأسد إلى درعا، في جنوب غرب سوريا، مسرحا لثورة شعبية في عام 2011. وفي هذا السياق، يشكل التقدم الناجح الذي أحرزته جماعة هيئة تحرير الشام المسلحة من قاعدتها في إدلب، في شمال غرب سوريا، إلى العاصمة دمشق، نهاية مناسبة: ثورة شعبية من قِبَل الشعب، من أجل الشعب.
ولكن لا أحد يستطيع حتى الآن أن يتنبأ بنوع المستقبل السوري الذي يتصوره زعيم هيئة تحرير الشام، أبو محمد الجولاني، الجهادي السابق المرتبط بتنظيم القاعدة والإرهابي المطلوب الذي أعيدت تسميته كمحرر وطني. ولهيئة تحرير الشام سجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان والحكم الاستبدادي في إدلب.
ويقال إن العديد من السوريين انضموا إلى لواء هيئة تحرير الشام عندما كانت قوات الجولاني تتجه جنوبا. ولكن مجموعات أخرى، بأهداف ومصالح مختلفة، تتحرك بسرعة لاستغلال الأزمة. وتشمل هذه المجموعات تحالفا من الميليشيات القومية بقيادة الأكراد في الشمال الشرقي ــ قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة. والفصائل المتمردة المدعومة من تركيا والمعروفة مجتمعة باسم الجيش الوطني السوري. وجماعات المعارضة في الجنوب، التي توحدها كراهية الأسد ولكن ربما ليس أكثر من ذلك.
فهل يمكن إعادة تجميع الفسيفساء السورية ما قبل الحرب ــ المتعددة الأعراق والأديان والمتسامحة والعلمانية بشكل غير عادي؟ وهل الجولاني رجل صالح لقيادة أمة؟ ومن غيره قد يمنع الانقسام الإقليمي والسياسي الفوضوي؟ لا أحد لديه إجابات على هذه الأسئلة حتى الآن. لقد أعلن رئيس وزراء النظام محمد غازي جلالي أنه على عكس الأسد، فإنه سيبقى في مكانه ومستعد للعمل مع الثوار. إنها كلمات شجاعة، ونأمل ألا تكون الأخيرة التي نسمعها منه.
إن التحديات التي تنتظرنا هائلة حقا. فقد قتلت الحرب الأهلية أكثر من 300 ألف شخص، على الرغم من أن بعض التقديرات تشير إلى ضعف هذا الرقم. ويعتقد أن نحو 100 ألف شخص في عداد المفقودين أو المختفين قسرا منذ عام 2011. أين هم؟ لقد بدأت الآن عملية محاسبة رهيبة، نصف السكان ــ نحو 12 مليون شخص ــ نزحوا.
واحتُجِز عشرات الآلاف دون محاكمة، وتعرضوا للتعذيب والإساءة. والآن أصبحت سجونهم فارغة، الأمر الذي يرسل موجة من الناس الغاضبين والمريرين والمصابين بجراح جسدية ونفسية وانتقامية إلى مجتمع مدمر ومختل بالفعل. وقد يعود الملايين من اللاجئين في تركيا والأردن إلى ديارهم بأعداد كبيرة. وتلوح الكوارث الإنسانية والأمنية في الأفق.
وشكل التدخل الأجنبي المدمر ــ الذي كان محوريا في قصة سوريا منذ بدء الحرب ــ تهديدا حقيقيا آخر إذا انهارت الأمور. ويمثل إسقاط الأسد هزيمة كبيرة لرعاته الرئيسيين، روسيا وإيران. فقد انتقل فلاديمير بوتن إلى سوريا في عام 2015 بعد أن تراجع الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، مع إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب على دعم القوى المؤيدة للديمقراطية. ونجحت قاذفات القوات الجوية الروسية، إلى جانب الحرس الثوري الإيراني، في إبقاء الأسد في السلطة. وكانت مكافأة بوتن القواعد العسكرية وزيادة النفوذ. وكل هذا أصبح في خطر الآن.
وبالنسبة لإيران، فإن الانهيار السوري ليس سوى أحدث حلقة في سلسلة من الانتكاسات المرتبطة بمقاومة إسرائيل بعد الهجمات الإرهابية التي شنتها حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. إن أضعاف إسرائيل لحزب الله في لبنان، الحليف الرئيسي لطهران في ما يسمى "محور المقاومة" في المنطقة، حرم الأسد من دعامة مهمة أخرى وجعل موقف إيران أكثر ضعفا.
وبحسب ما ورد تتعرض سفارتها في دمشق للهجوم. وفر دبلوماسيوها. ومع ذلك، لن تستسلم روسيا ولا إيران. وسوف تسعيان إلى تشكيل النظام الجديد لصالحهما، بغض النظر عما هو الأفضل للشعب السوري.
والشيء نفسه ينطبق على إسرائيل التي قصفت مرارا وتكرارا، في حملتها ضد حماس وغيرها من وكلاء إيران، ما تقول إنه أهداف إيرانية وحزب الله في دمشق وأماكن أخرى في سوريا. وترى طهران أن هناك يد لإسرائيل في سقوط الأسد.
ورغم أن إسرائيل ربما لم تفعل ذلك عمدا، فإنها ــ وفقا لقانون العواقب غير المقصودة ــ ساعدت بالتأكيد في تقويضه. والآن تشعر بالقلق إزاء دولة فاشلة على حدودها، تسيطر على الأسلحة الكيميائية التي يمتلكها الأسد، وربما تهديد جهادي إسلامي متجدد.
وإذا تحدثنا عن الأهداف العكسية، فإن لاعب كرة القدم السابق رجب طيب أردوغان، رئيس تركيا، هو من يتصدر المشهد. ويُعتقد أنه أعطى هيئة تحرير الشام الضوء الأخضر لشن هجومها بعد أن رفض الأسد محاولاته لإنشاء منطقة عازلة حدودية داخل سوريا، إن أردوغان مهووس بـ"التهديد" الكردي من شمال سوريا والعراق. وقد يرسل الآن المزيد من القوات عبر الحدود. ولكن هل كان ينوي حقا سحق النظام وإثارة الفوضى في جميع أنحاء سوريا؟ ربما يستطيع أردوغان أن يشرح كيف يخدم ذلك مصالح تركيا.
ما لم نصدق نظريات المؤامرة الأكثر قتامة، فإن الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا فوجئت بالأحداث مثل الأسد. وهذا في حد ذاته فشل استخباراتي مثير للقلق - ولكن من ناحية أخرى، كان سجل الغرب طوال الحرب السورية فشلا طويلا وحقيرا. لقد نظر إلى حد كبير إلى المعاناة الأكثر فظاعة، والنزوح الجماعي، وجرائم الحرب، والاستخدام غير القانوني للأسلحة الكيميائية وغيرها من الأهوال.
كانت تدخلاته العرضية - مثل قصف دونالد ترامب لمرة واحدة في عام 2017 لمنشآت عسكرية تابعة للنظام بعد هجوم بالأسلحة الكيميائية في خان شيخون في إدلب - أكثر لتخفيف الضمير الجماعي من إحداث تغيير حقيقي. الآن يلعب الغرب دور المتفرج مرة أخرى - على الرغم من أن التهديد الذي يشكله فشل الدولة أمر ملح. يقول ترامب بغطرسة: "إنها ليست معركتنا".
لا فائدة أيضا من النظر إلى الجيران العرب في الخليج طلبا للمساعدة في هذه اللحظة الحرجة. قبل عام واحد فقط، نجح الأسد في تحطيم مكانته الدولية المرموقة التي اكتسبها عن جدارة واستحقاق في قمة جامعة الدول العربية في الرياض. وقد احتفى به، من بين آخرين، الزعيم السعودي محمد بن سلمان. وكانت الرسالة غير الدبلوماسية هي أن الأسد عاد. وقد أعيد تأهيله. وبوسع العالم أن يتعامل معه مرة أخرى.
كان ذلك خطأ، فقد كان الأسد وحشا وما زال كذلك. وأينما ذهب، لا ينبغي له أن ينام مرتاحا. وفي غضون ذلك، يقع على عاتق الشعب السوري إنقاذ سوريا. ولن يفعل أحد غيره ذلك.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية بشار الأسد سوريا الشعب السوري سوريا بشار الأسد الشعب السوري صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هیئة تحریر الشام أکثر من
إقرأ أيضاً:
تعرف على السلطان الأحمر الذي أسس الدولة البوليسية في سوريا
كان رجل الظل الذي أدار دفة السياسة في سوريا، بعد إعلان استقلالها عام 1946، مرورا بفترة الحكم المدني الديمقراطي، ثم عهد الانقلابات العسكرية المتتالية، إلى إعلان الوحدة مع مصر، تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، وانتهاء بانفصالها عن مصر عام 1961.
إنه عبد الحميد السراج -الذي يلقب بـ"الرجل الصامت" وارتبط اسمه بصورة الدولة البوليسية، التي كرسها لقمع معارضيه والتنكيل بهم، بل وتصفيتهم جسديا.
سماه الكاتب غسان زكريا "السلطان الأحمر"، كما وصفه الكاتب المصري صلاح عيسى -في مقال له- بأنه "مهندس" مشروع الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، ويد الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر الطولى التي حارب بها التمدد الشيوعي، و"مشاريع التحالف الإمبريالية"، في كل من العراق والأردن ولبنان.
المولد والنشأةولد السراج في مدينة حماة عام 1925، والتحق بمدرسة الدرك، ثم الكلية الحربية في حمص، وبدأ حياته المهنية في مخفر "باب الفرج" بمدينة حلب، وفي عام 1947 التحق بجيش الإنقاذ الذي حارب في فلسطين، حيث تعرف إلى حسني الزعيم، الذي قاد أول انقلاب عسكري على الرئيس شكري القوتلي في 1949، وعيّن السراجَ مرافقا عسكريا له.
شارك السراج في انقلاب أديب الشيشكلي على اللواء سامي الحناوي، وعندما أصبح الشيشكلي رئيسا في 1953 أرسل السراجَ في دورة عسكرية مكثفة إلى باريس.
إعلانوبعد الإطاحة بالشيشكلي في 1954، تعرض السراج لمضايقات من الضباط الانقلابيين، واكتفى رئيس الحكومة آنذاك، صبري العسلي، بإبعاده إلى باريس ليكون ملحقا عسكريا.
لمع نجم السراج محليا في 1955، وتحديدا بعد اغتيال عدنان المالكي، رئيس شعبة العمليات في الجيش السوري، يوم 22 أبريل/نيسان، حيث تم تعيينه رئيسا للمكتب الثاني، شعبة الاستخبارات، وأعطي صلاحيات واسعة لتعقب المتهمين باغتيال المالكي، كما ورد في وثائقي بثته قناة الجزيرة بعنوان "العقيد السراج.. رجل الرعب".
وتوصلت التحقيقات التي قام بها السراج لاتهام أعضاء في الحزب القومي السوري الاجتماعي بعملية الاغتيال، فشن السراج حملة اعتقالات واسعة في صفوف الحزب شملت سكرتيره الأول وكوادره، ونخبة من المثقفين والشعراء من بينهم محمد الماغوط وأدونيس، إضافة إلى جولييت ألمير زوجة مؤسس الحزب، الراحل أنطون سعادة.
واتسمت الفترة التي لمع فيها نجم السراج بين 1955 و1961 بمعارك سياسية وأمنية خاضها على جبهات متعددة، فالقوميون السوريون متهمون -في نظره- بمناصرة نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي آنذاك ومشروع "حلف بغداد"، وهنالك الشيوعيون الذين رأى فيهم مناهضة الحلم الوحدوي الناصري، بصفتهم داعمين ومدعومين من خصم عبد الناصر اللدود في العراق عبد الكريم قاسم، وفق ما جاء في آخر لقاء صحفي للعقيد السراج عام 2002.
أما البعثيون، فله معهم صولات وجولات، لم يكسبها كلها، وإن كان قد سجل عددا من النقاط ضدهم. وهو، وإن كان محسوبا عليهم أحيانا، ومن أشد مناصريهم، إلا أنه رأى فيهم تهافتا على السلطة، واستغلال الوحدة لمآرب حزبية ضيقة. وظهر ذلك جليا عندما ناصبوه العداء بعد أن استثنى عبد الناصر أغلب مرشحيهم من عضوية المجلس التنفيذي.
إعلانعُرف عن السراج تعلقه الشديد بشخصية جمال عبد الناصر، وإعجابه بالشعارات القومية والوحدوية التي نادى بها. وكان العدوان الثلاثي على مصر في 1956 نقطة مفصلية في تحويل المشاعر القومية والعواطف الوحدوية إلى خطوات عملية باتجاه الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا.
السراج يخطف نظر عبد الناصراستغل السراج زيارة رئيس الجمهورية شكري القوتلي لموسكو، من أجل حشد الدعم لعبد الناصر، في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، فأمر بتفجير خط النفط التابع لشركة نفط العراق، والمتجه إلى تركيا وأوروبا من خلال الأراضي السورية.
وقد شكلت هذه العملية ضربة موجعة لبريطانيا، في حين توجهت أنظار عبد الناصر بإعجاب نحو هذا "الضابط الثائر"، كما ورد في "وثائقي الجزيرة" ومقابلة السراج الأخيرة.
بعد العدوان الثلاثي، تغلغل الفكر الناصري في صفوف الشباب العرب، وبدأت سوريا تسير نحو الوحدة مع مصر، وشهد عام 1957 صراعا شديدا داخل مؤسسة الجيش السوري، وأصبحت التجاذبات السياسية بين ضباطه تهدد تماسك الدولة السورية، ورأى السَراج حينها أن الوحدة مع مصر باتت ضرورية لإنقاذ الدولة.
وكان لدخول جهات عربية وإقليمية على خط الوحدة المصرية السورية -من أمثال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم، وكل من القيادتين السعودية والأردنية، ولكلٍ أسبابه- أن مهدت أرضية صلبة للسراج للإطاحة بمناوئيه، بحجة أنهم ضد إرادة الشعوب العربية في الوحدة، وروج لمحاولات اغتياله شخصيا أو اغتيال الرئيس القوتلي المقرب من عبد الناصر.
في فبراير/شباط 1958، أعلنت الوحدة بين سوريا ومصر، وتنازل شكري القوتلي عن منصب الرئاسة لصالح الوحدة، واختير عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، واشترط حل الأحزاب السورية التي استجابت على مضض، وكان السَراج حينها الفاعلَ الحقيقي في سوريا، حيث عينه عبد الناصر وزيرا للداخلية في الإقليم الشمالي من الجمهورية الجديدة، ثم ما لبث أن عينه رئيسا للمجلس التنفيذي في سوريا.
إعلانوفي هذه المرحلة وصل السراج لذروة قوته، فأبدع في صناعة الخوف، وأمعن في القتل والإخفاء دون مساءلة، وبدأت معالم الدولة المدنية في تلك الفترة تضمحل شيئا فشيئا. وكان الشيوعيون -المناهضون للوحدة المصرية السورية والداعمون الرئيسيون لثورة عبد الكريم قاسم في العراق- هم أكثر ضحايا السراج عددا ومكانة.
ولعل الحادثة التي تعتبر عنوانا لتلك الفترة الدموية هي تصفية فرج الله الحلو -نائب الأمين العام للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان- بطريقة وحشية في سجون السَراج، ولجأ معاونوه الأمنيون -بعد افتضاح أمرهم- إلى التخلص من الجثة عن طريق إذابتها بالأسيد.
على إثر هذه الحادثة، تعرض عبد الناصر لانتقادات دولية عنيفة، وتلقى اتصالات من الزعيم السوفياتي خروتشوف، ونهرو وتيتو وباقي قادة دول عدم الانحياز، فطلب من السَراج التكتم على الأمر ونفي نبأ اعتقال الحلو، وربما كانت هذه الحادثة بمنزلة مسمار دُقَ في نعش العلاقة بينه وبين عبد الناصر.
واستمرت يد السراج الأمنية بالتمدد، حتى طالت لبنان، واستغل الاحتجاجات التي قادها اللبنانيون ضد كميل شمعون الرئيس اللباني حينها، وهو المعارض للجمهورية المتحدة، حيث عمل السراج على تمويل المعارضين -أمثال كمال جنبلاط وحميد فرنجية وصائب سلام- وإمدادهم بالسلاح والرجال للإطاحة بكميل شمعون، ومنعه من الترشح لولاية رئاسية ثانية.
وقد برر السراج هذا التدخل -في لقائه الصحفي الأخير مع كمال الطويل من جريدة السفير- بقوله: "ليس هناك مخفيات، أنا رأيت من زاويتي أن سوريا في خطر، ما دام ليس لها نفوذ مُقرر في لبنان، وتعززت هذه القناعة أكثر بقيام الوحدة، لم نكن نهتم بأمورهم الداخلية المحضة، وإنما بأن تكون سياستهم الخارجية معنا".
بداية النهاية.. النزول من القمةتركت حادثة تصفية فرج الله الحلو حالة من الهلع والخوف، مصحوبة بنوع من التذمر والرفض للحالة الأمنية التي وصلت إليها البلاد تحت قبضة السَراج. ومع ظهور حالات أخرى مماثلة في عدة مدن سورية، تساءل الناس عن أعداد الجثث التي لم يتم الإفصاح عنها في أقبية الموت.
إعلانضاق الضباط السوريون ذرعا بالملاحقات الأمنية التي يشنها السراج ضدهم، وكذلك بالطريقة الاستعلائية التي يتعامل بها الضباط المصريون معهم، وسياسة التنقلات التي طالت كل من يعارض، أو يُشَكُك في ولائه للوحدة وقادتها، فأوعز عبد الناصر للسراج بتخفيف الوطأة على الجيش والمدنيين.
ثم بدأ عبد الناصر بتحجيم صلاحيات السَراج ونقلها تدريجيا إلى المشير عبد الحكيم عامر، الذي لم تكن علاقته بالسَراج جيدة، وكان الصراع بينهما محتدما على النفوذ في سوريا، فتحدث عبد الناصر إلى السَراج في اجتماع مغلق، وأبدى امتعاضه من العداء الدولي الذي تسببت به تصرفات السَراج، وأخبره بتفويض عامر للوساطة مع تلك الدول وكسب ودها.
أدرك السَراج أنه أصبح خارج دائرة اهتمامات عبد الناصر، فقدم استقالته في 22 سبتمبر/أيلول 1961، أي قبل أيام من انهيار الوحدة، وأخذ يراقب الأحداث عن بُعْد، في الوقت الذي كان فيه الضابط عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عامر في دمشق، يخطط للانقلاب على عبد الناصر وإسقاط الوحدة بين البلدين.
نهاية الحلم والمسيرة الشخصيةويوم 27 سبتمبر/أيلول 1961 استيقظت دمشق على أصوات الرصاص، وتلا النحلاوي "البيان العاشر" الذي أنهى قصة الجمهورية العربية المتحدة. وكان من أوائل ما قام به القادة الجدد لسوريا اعتقال السَراج وإيداعه في سجن المزة، الذي تلطخت جدرانه بدماء ضحاياه، وكان مقبرة للمعارضين في عهده.
لم ينس عبد الناصر حليفه القديم، فأمر بوضع خطة محكمة لتهريب السَراج إلى القاهرة، وبالتعاون مع الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، طلب ناصر من الرئيس اللبناني فؤاد شهاب التعاون مع المخابرات المصرية لتأمين هروب السَراج، وكان ذلك بالتنسيق مع أطراف عدة، منهم الضابط الأردني نذير رشيد، المحسوب على حركة الضباط الأحرار، وسامي الخطيب من المخابرات اللبنانية.
وقد وردت تفاصيل تهريب السراج إلى القاهرة متفرقة في مصادر عدة، منها ما جاء على لسانه في حديثه إلى صحيفة السفير، أو تلك التي وردت في وثائقي الجزيرة، وكذلك ما ذكره موقعا "الموسوعة الدمشقية" و"التاريخ السوري المعاصر".
إعلانتم تهريب السراج أولا إلى لبنان في سيارة عسكرية متنكرا بزي ضابط صف سوري، ومن لبنان إلى القاهرة بالطائرة. وفي اليوم التالي، استقبله عبد الناصر في مراسم استقبال رسمية في قصر الضيافة، حيث شكل فرار السَراج صفعة قاسية للنظام الجديد في سوريا، وبهذا انتهت مسيرة السَراج سياسيا وأمنيا، ومنذ العام 1968 اختفى تماما عن المشهد السياسي.
بعد استقراره في مصر عينه عبد الناصر في وظيفة مدنية في مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وأمضى فيها بضع سنين قبل أن يعتزل الحياة العامة كليا، ويبتعد عن أضواء الإعلام والصحفيين.
لكنه بقي في كنف الرؤساء الذين حكموا مصر بعد عبد الناصر حتى مات في 22 سبتمبر/أيلول 2013، وأقيمت له جنازة رسمية، حضرها مندوب عن وزير الدفاع آنذاك -عبد الفتاح السيسي- بصفته نائبا سابقا للرئيس عبد الناصر في فترة الوحدة.