أوراق الإمام محمد عبده المجهولة
تاريخ النشر: 12th, December 2024 GMT
لا يزال اسم الإمام المجدِّد محمد عبده (1849 - 1905) صالحاً لإثارة الدهشة رغم مرور سنوات طويلة على رحيله، فإسهاماته لم تقتصر على مجال واحد. كان إصلاحياً يدعو إلى الأخذ بأسباب التقدم، وثورياً شارك العرابيين ثورتهم في مصر، وكتب بياناتهم، كما جدَّد في الفقه الإسلامي، وفي هذا الصدد يمكن ذكر كتابه المهم "رسالة التوحيد"، كما اشتغل في العمل العام قاضياً ومفتياً للديار، وهو الشيخ الوحيد الذي حاز لقب "الإمام" دون أن يجلس على كرسي شيخ الأزهر، وبالتالي فإن حصره في مجال محدد ظلم كبير له.
ومؤخراً لفت انتباهي عنوان كتاب جديد عنه بعنوان "من أوراق الإمام محمد عبده المجهولة.. مشروع استقلال مصر 1883"، خاصة وأن أحد مؤلفيْه هو الدكتور عماد أبو غازي، المؤرخ الرصين، صاحب المؤلفات المهمة التي أزالت الشوائب عن التاريخ المصري وقدَّمته، بعيداً عن الروايات الرسمية، بأفضل صورة ممكنة، مثل "1919.. حكايات الثورة والثوار"، و"1517.. الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك"، و"مصطفى النحاس.. مذكرات النفي"، و"طومان باي السلطان الشهيد". أما المؤلف الثاني فهو الدكتور وليد غالي أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في معهد دراسات حضارات المسلمين بجامعة أغا خان بالمملكة المتحدة، فما حكاية الأوراق التي اكتشفاها؟
الخيط كان إعلاناً لموقع مزادات يؤكد أن لديه أوراقاً منسوبة للإمام محمد عبده، ضمن مجموعة يملكها شخص يدعى محمد على أفندي السعودي، وقد تقدم المعهد الذي يعمل به الدكتور وليد (أحد مؤلفي الكتاب) لشرائها وأودعها مكتبته بلندن. ركَّز المؤلفان على تتبع العلاقة التي جمعت محمد عبده بالسعودي صاحب تلك المجموعة، حتى يبررا وجود مخطوطات بخط يد محمد عبده ضمن مقتنيات هذا الرجل، كما ضاهيا الأوراق بخط محمد عبده وتأكدا أنها له تماماً، قبل أن يكتشفا نصاً مكتوباً على أربع صفحات بحبر مغاير، وهي عبارة عن مشروع لائحة تأسيسية يتبنَّاها الحزب الأهلي لإقامة حكومة وطنية في مصر يرجع تاريخها إلى سبتمبر عام 1883، أي بعد سنة من الاحتلال البريطاني لمصر، وقد وجدا هذه الجوهرة مخبَّأة داخل كراسة ترجم فيها محمد عبده كتاب الجمهورية، أي أن محمد عبده حاول إخفاءها عن أعين الرقباء.
وقبل أن يُخضِع أبو غازي وغالي الأوراق للفحص والقراءة المتأنية يرسمان صورة فائقة الجودة والاكتمال للحياة السياسية والنيابية والوطنية في مصر، في سياق يمتد بين سبعينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته وتعد الثورة العرابية لحظة الذروة فيه، حيث تجمَّعت أسباب عدَّة لصياغة مشروع النهضة المصرية، وتضافرت طموحات محمد علي باشا وخلفائه في الاستقلال عن الدولة العثمانية مع كتابات روَّاد النهضة الفكرية وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، وواكب ذلك حراك فكري وثقافي ساهم فيه مصريون وبعض الشوام الذين لجأوا لمصر هرباً من السطوة العثمانية. يقدم المؤلفان تفاصيل ازدياد الغضب المصري، وتصاعد المشاعر الوطنية، مع التدخل الأجنبي السافر في شؤون البلاد، وأخطاء الحكومات المتعاقبة، وفشل كل الاقتراحات السياسية لتوفيق الأوضاع، حتى ظهر أحمد عرابي وأصبح محبوباً من الشعب، ووضع فيه الناس أملهم وأرسلوا إليه عرائض بمطالبهم، وأثرت تلك الأحداث، بالطبع، في محمد عبده وطريقة تفكيره وعمله السياسي.
يقرُّ المؤلفان بصعوبة تصنيف محمد عبده، كما أسلفتُ، فحسب ببليوجرافيا "أكسفورد" هو صوفي ومصلح ومجدد ومدرس وصحفي وعالم دين ومفسر ومُفتٍ. وُلِد لعائلة متوسطة الحال في قرية "محلة نصر" بمديرية البحيرة، خلال نفس السنة التي توفي فيها محمد علي باشا، وتلقى تعليماً في كتَّاب، ومضت به الرحلة حتى التحق بالأزهر، وانضم إلى جمال الدين الأفغاني مما أحدث تحولاً كبيراً في مسيرته، إذ درس على يديه الفلسفة وكتب المنطق والحكمة والتصوف وأصول الدين والفكر الأوروبي الحديث. ثم نال شهادة العالمية من الأزهر وعُيِّن مدرساً للتاريخ بمدرسة دار العلوم، ومدرساً للعربية في مدرسة الألسن، ثم درَّس في الأزهر حتى أُقيل من منصبه بسبب علاقته بالأفغاني النشط ضد البريطانيين. وظل قيد الإقامة الجبرية في قريته ثم سُمِح له بالعودة للعمل في مجلة "الوقائع المصرية" وأصبح عضواً في المجلس الأعلى للمعارف العمومية، وتواصل مع جماعة عرابي وانضم إلى الحزب الوطني الحُرِّ، وشارك في الثورة مشاركة فعالة انتهت بالقبض عليه ومحاكمته ونفيه عام 1882 إلى بيروت حيث مكث هناك لمدة عام حتى تلقى دعوة من الأفغاني للانضمام إليه في باريس، وأصبح محرراً في مجلة "العروة الوثقى"، وعاد من المنفى 1889 في سن الرابعة والربعين ليبدأ مرحلة جديدة من النضال الفكري استمرت حتى وفاته.
وما يعنينا في كل ذلك هو أن محمد عبده أصبح المعبِّر الفكري عن الثورة في إطارها المعتدل، إذ اختلف مع العرابيين في العلاج لكن الغاية كانت واحدة. ولم يقتصر دوره على الجانب النظري من خلال كتاباته الصحفية، كما يقول أبو غازي وغالي، وإنما اشترك عملياً فبلغ مبلغ ثقة الثوار بأن كلفوه بوضع صيغة اليمين التي حلف بها كبار الضباط. ثم يستعرض المؤلفان نص الوثيقة (الأوراق) لإعادة حكومة أهلية في مصر، وفي أحد بنودها تنصح المصريين بالحذر من هجوم أوروبا عليهم، والحرص على أن تكون حكومتهم في أيديهم لا أيدي الغرباء، واتخاذ طريقة سياسية تضمن لهم تقدم البلاد ونجاحها مادياً ومعنوياً، وإيجاد طريقة لتصفية ديون الفلاحين، وإلغاء المجالس المختلطة، والمساواة بين الأجانب والوطنيين في المجالس والمحاكم، وإنشاء مجالس ابتدائية تضمن للناس عدم إلقاء القبض عليهم بمجرد أهواء الحاكم ظلماً وبهتاناً، وإصلاح الفساد الموجود في السُخرة، وإنشاء مدارس للصبيان وبنات المسلمين، وتقليل عدد الأجانب المتوظفين في وظائف غير ضرورية رويداً رويداً، وإبطال الرق إبطالاً تاماً في خدمة المنازل. يؤكد المؤلفان أن فكرة الجلاء عن مصر كانت مطروحة في السياسة البريطانية، وقت تحرير تلك الوثيقة، ويتساءلان مَن صاحب هذا المشروع؟ وهل تعبِّر الجملة الشارحة "لائحة أساسية لإعادة حكومة أهلية في مصر" التي تسبق عنوان الوثيقة الرئيسي عن حقيقة صائغها؟ أي أن اللائحة كتبها بعض رجال الإنجليز؟ أم أن الغرض من تلك الجملة التمويه إذا سقطت الكراسة في يد السلطات واكتشفت أن محمد عبده هو صاحب المشروع؟ ويجيب المؤلفان أن الاحتمالين قائمان وربما كانت اللائحة نتاج نقاش بين محمد عبده وبعض الساسة الإنجليز، فقد عُرف عنه أنه كان على علاقة ببعضهم.
وينهيان ملاحظاتهما المهمة بالتأكيد على أن كل ما جرى مهَّد لثورة 1919، الثورة الشعبية المصرية الكبرى في القرن العشرين، الثورة التي استمرت خمس سنوات وأكملت تأسيس الهوية الوطنية وحققت لمصر الاعتراف الدولي بها كدولة مستقلة، تلك الثورة التي كان قائدها سعد زغلول أحد تلاميذ الإمام محمد عبده.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد عبده فی مصر
إقرأ أيضاً:
حكم لبس قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس للمحرم
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي، يقول صاحبه: "ما حكم لبس قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس للمحرم؟، فقد ذهب رجل لأداء فريضة الحج، واشتد عليه حرُّ الشمس، ولم يجد ما يحتمي به غير ما أعطاه له صديقه من قبعةِ المظلَّة الشمسيَّة القابلة للطَّي، والتي تثبت على الرأس بشريط مطاط، وتبقى مرتفعةً عن الرأس غير ملامسةٍ له، فاستعملها خلال أداء المناسك، فهل ما فعله يوجب عليه الفدية؟".
دار الإفتاء، ردت موضحة: أنه يجوز للمُحرِم شرعًا استعمالُ قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس بشريطٍ مطاطٍ إذا لم يتيسر له استعمال غيرها مما يصرف عنه حرارة الشمس، باعتبار أنَّ ما فيها من شريطٍ ماسكٍ مثبَّت على الرأس لا يستر من الرأس إلا اليسير الذي لا يصل إلى مقدار ربع الرأس، ويلزم المُحرِم إذا استعملها يومًا كاملًا إخراج الصَّدقة دون الفدية، وتُقدَّر بكيلو جرام واحد و625 جرامًا من البُر -القمح- أو قيمة ذلك مالًا، والأَوْلَى له استعمالُ الشمسية المحمولة باليد بدلًا عن تلك المثبتة على الرأس، باعتبار أنه خروج من خلاف الفقهاء.
حكم لبس قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس للمحرمفضل الحج والعمرة كبير، فهو من العبادات المفروضة في العمر مرَّة واحدة، ويتطوع بها العبد ما تيسر له، قال الله- تعالى- في محكم التنزيل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الإمام مسلم.
والحج والعمرة من أفضل القربات، قال- تعالى-: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-، أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» متفق عليه.
وتتعدد مظاهر العبادة في الحج والعمرة، ما بين عباداتٍ بدنيَّةٍ وماليَّة، وعباداتِ فِعلٍ وتَرك، فتشتمل على التلبية والطواف والهدي، كما تشتمل على ترك محظورات الإحرام.
بيان المراد بالإحرام وحكمه في الحج
الإحرام مصدر أَحرَمَ الرَّجل، إذا أهَلَّ بالحجِّ أو العمرة؛ لدخوله في عملٍ حَرُمَ عليه به فعلُ ما كان حلالًا؛ إذ "حَرُمَ" في اللغة تعني التشديد والمنع، كما في "مقاييس اللغة" للعلامة ابن فارس (2/ 45، ط. دار الفكر)، و"لسان العرب" للعلامة ابن منظور (12/ 123، ط. دار صادر).
والمراد بالإحرام عند جمهور الفقهاء: نيَّة الدخول في الحج أو العمرة، ويتحقَّق عند الحنفيَّة وبعض فقهاء المالكيَّة -في غير راجح المذهب- باقتران التلبية أو ما يقوم مقامها بالنيَّة. ينظر: "رد المحتار" للإمام ابن عَابِدِين الحنفي (2/ 467، ط. دار الفكر)، و"الشرح الكبير" للإمام أبي البركات الدَّرْدِير المالكي (2/ 21، ط. دار الفكر، مع "حاشية الإمام الدُّسُوقِي")، و"حاشية الإمام سليمان الجمل الشافعي على شرح المنهج" (2/ 407، ط. دار الفكر)، و"الروض المربع" للإمام أبي السعادات البُهُوتِي الحنبلي (ص: 285، ط. دار المؤيد).
وجماهير الفقهاء قد "اتفقوا على أنَّ الإحرام للحج فرضٌ"، كما قال الإمام ابن حَزْم في "مراتب الإجماع" (ص: 42، ط. دار الكتب العلمية).
حكم تغطية الرأس للمُحرم
للإحرام عدَّة محظوراتٍ يجب على المسلم اجتنابُ فعلها إذا كان مُحرِمًا، ومنها تغطية الرأس للرَّجل، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رجلًا قال: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ» متفق عليه.
وقد أجمع العلماء على وجوب امتناع المُحرِم من تغطية رأسه.
قال الإمام ابن عبد البَر في "الاستذكار" (4/ 14، ط. دار الكتب العلمية): [وأجمعوا أن إحرام الرجل في رأسه، وأنه ليس له أن يُغطِّي رأسه، بنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لُبس البَرَانِس والعمائم] اهـ.
حكم لبس قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس للمحرم
قُبَّعة المِظلَّة الشمسية -محل السؤال- إنما تستعمل للاستظلال من الشَّمس دون أن تُلامس الرأس، وذلك بأن تثبَّت على الرأسِ بشريطٍ ماسكٍ مَطَّاطٍ محيطٍ بالجبهة والرأس أشبه ما يكون بالسيور والعصابة الصغيرة، وبه أعوادٌ ترفع الشمسية فوق الرأس، مما يغني عن إمساكها باليد، كما هو واردٌ في السؤال ومشاهدٌ في الواقع.
والعصابة: هي ما يُشدُّ به الرأس، كما في "لسان العرب" للعلامة ابن منظور (1/ 602).
وبذلك تشتمل تلك المظلة المثبتة على الرأس على عدَّة أمورٍ يدور حكمها مع حكم التلبس بتلك الأشياء حال الإحرام، وهي: الاستظلال، والتغطية، والشد على الرأس.
أمَّا الاستظلال من الشمس حال الإحرام: فإن كان بشيءٍ ثابتٍ كالسَّقف والجبل والخيمة والشجر وأمثالها فهو مِن جملة المباحات للمُحرِم بإجماع الفقهاء.
قال الإمام ابن عبد البَر في "التمهيد" (15/ 111، ط. أوقاف المغرب): [وأجمعوا أن للمُحرِم أن يَدخل الخِباء والفسطاط، وإن نزل تحت شجرةٍ أن يرمي عليها ثوبًا] اهـ.
أمَّا إن كان استظلاله بما يحمله أو يُحمل له بحيث يتبعه دون أن يستر رأسه: فقد جرى فيه الخلاف بين الفقهاء، وجمهورهم من الحنفية والشافعية، والحنابلة في إحدى الروايتين، وبعض المحققين من المالكية كالإمام ضياء الدين خليل بن إسحاق، على جواز استظلال المُحرِم بما يرفعه اتقاءَ حرِّ الشمس، وقال به من الصحابة: أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومن التابعين: عطاء بن أبي رباح، والأسود بن يزيد، وربيعة، والثوري، وابن عُيينة، كما في "التمهيد" للإمام ابن عبد البَر (15/ 111).
ودليلهم في المسألة حديث أمِّ الحُصَين رضي الله عنها، فقد قالت: «حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَرَأَيْتُ أُسَامَةَ وَبِلَالًا، وَأَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الْحَرِّ، حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» أخرجه الإمام مسلم.
قال الإمام ابن عَابِدِين الحنفي في "رد المحتار" (2/ 547) في بيان ما يُحظر على المُحرِم فِعلُه: [(أو سَتَر رأسه) بمعتادٍ، أمَّا بحمل إجَّانةٍ أو عِدل فلا شيء عليه] اهـ. والإِجَّانة: إِنَاءٌ تُغسَل فِيهِ الثِّيَاب، كما في "المعجم الوسيط" (1/ 7، مادة: "أ ج ن"، ط. دار الدعوة). والعِدل: ما يُحمل فيه المتاع على جنب البعير، كما في "لسان العرب" للعلامة ابن منظور (11/ 433).
وقال العلامة ضياء الدين خليل المالكي في "التوضيح" (3/ 75، ط. مركز نجيبويه) في بيان ما يُباح للمُحرِم: [وله أن يرفع فوق رأسه شيئًا يقيه من المطر... وليس له أن يضعه على رأسه من شدة الحر، انتهى. والأقرب: جواز ذلك؛ لما في مسلم وأبي داود والنسائي عن أم الحُصَين] اهـ.
وقال الإمام النَّوَوِي الشافعي في "المجموع" (7/ 267-268، ط. دار الفكر): [مذهبنا أنه يجوز للمُحرِم أن يستظل في المَحمَل بما شاء راكبًا ونازلًا... دليلنا: حديث أم الحُصَين رضي الله عنها... ولأنه لا يُسَمَّى لُبسًا] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "الكافي" (1/ 490): [وفي تظليل المَحمَل روايتان... الثانية: له أن يتظلل؛ لأنه ليس بمباشرٍ للرأسِ، أشبَهَ الخيمة، وله أن يتظلل بثوب على عُودٍ؛ لما رَوَت أمُّ الحُصَين... ولا بأس بالتظلُّل بالخيمة والسقف والشجرة وأشباه ذلك؛ لأنه لا يُلازمه، أشبَهَ ظِلَّ الجبال والحِيطان] اهـ.
وقال في "المغني" (3/ 287، ط. مكتبة القاهرة) معللًا الرواية المجوزة للاستظلال: [لأنَّ ما حَلَّ للحلال حَلَّ للمُحرِم، إلا ما قام على تحريمه دليل... وظاهر كلام أحمد: أنه إنما كُرِهَ ذلك كراهة تنزيه؛ لوقوعِ الخلاف فيه، وقولِ ابن عمر رضي الله عنهما، ولم ير ذلك حرامًا، ولا موجبًا لفدية] اهـ.
وأمَّا تغطية الرأس: فقد ضبط الفقهاءُ المحظورَ منها حال الإحرام بما يكون مما جرى العرف بتسميته غطاءً كالعمامة والقبَّعة، كما ضبطوه بما كان ملاصقًا للرأس غير متجافٍ عنها، وهو ما لا يتحقَّق التلبس به باستعمال الشمسيَّة المثبتة على الرأس.
قال الإمام زين الدين بن نُجَيْم الحنفي في "البحر الرائق" (2/ 349، ط. دار الكتاب الإسلامي) في معرض ذكر محظورات الإحرام: [(قوله: وستر الوجه والرأس) أي: واجتنب تغطيتهما... والمراد بستر الرأس: تغطيتها بما يُغطى به عادةً كالثوب، احترازًا عن شيءٍ لا يُغطى به عادةً كالعِدل، والطبق، والإِجانة] اهـ.
وقال الإمام تقي الدين الحِصْنِي الشافعي في "كفاية الأخيار" (ص: 221، ط. دار الخير): [والضابط أنَّه تجبُ الفدية بما يُسمَّى ساترًا] اهـ.
وقال الإمام أبو السعادات البُهُوتي الحنبلي في "الروض المربع" (ص: 257، ط. دار المؤيد) في تعداد محظورات الإحرام: [الثالث: تغطية رأس الذكر إجماعًا، وأشار إليه بقوله: (ومَن غطَّى رأسه بملاصِقٍ فَدَى)] اهـ. أي أنَّ المحظور في غطاء الرأس ما كان مُلاصقًا لها.
أما وضع العصابة على الرأس: ممنوع ومحظور على المحرم عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة.
قال الإمام ابن رُشْد المالكي في "البيان والتحصيل" (3/ 440، ط. دار الغرب الإسلامي) في بيانه بعض الأحكام المتعلقة بما قد يفعله المُحرِم: [عصب على رأسه من صداع أو جراح، أو على بعض رأسه من جرح أو جراح، أو فعل ذلك لغير علة، عليه الفدية في ذلك كلِّه] اهـ.
وجاء في "الدر الثمين" للشيخ محمد مَيَّارَة المالكي (ص: 526، ط. دار الحديث) في بيان إحرام الرجل: [محل إحرامه: وجهه ورأسه، فيَحرُم عليه سترهما بما يعد ساترًا مِن عمامةٍ، وقلنسوةٍ، وخرقةٍ، وعصابةٍ] اهـ.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (1/ 504، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(فيحرم ستر رأس الرجل أو بعضه) ضبط الإمام والغزالي البعض بالقدر الذي يُقصَد ستره لغرض ستره، كالعصابة] اهـ.
وفي تحقيقات الإمام الرافعي في المسألة أنَّ المعتبر هو الضبط بما يسمى ساترًا دون الالتفات إلى القصد، فجاء في "أسنى المطالب" (1/ 505): [وأبطله الرافعي باتفاقهم على أنه لو شدَّ خيطًا على رأسهِ لا فدية عليه، مع أنَّه يُقصَد لمنع الشَّعر مِن الانتشار، فالوجه الضبط بتسميتِهِ ساترًا؛ لأنَّ الخيط لا يُسمَّى ساترًا، بخلاف العصابة العريضة] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "الكافي" (1/ 490) في تعداد محظورات الإحرام: [السَّادس: تغطية الرأس... ولا يجوز أن يَعصِبَه بعصابةٍ ولا سِيَرٍ، ولا يجعل عليه شيئًا يلصق به] اهـ.
بينما ذهب الحنفية إلى كراهة شدِّ الرأس بالعصائب حال كونها ساترة لأقلَّ مِن ربع الرأس، وأنه لا فدية في ذلك، بل يجب فيها الصدقة إن فعل ذلك يومًا كاملًا؛ لأنها في تلك الحالة لا تشبه لبس المخيط، كما لا تتحقق بها منفعةٌ أو استمتاعٌ مقصودٌ يتنافى مع الامتثال لما يؤمر المُحرِم بتركه حال إحرامه.
قال شمس الأئمة السَّرَخْسِي في "المبسوط" (4/ 127، ط. دار المعرفة) في ذكر ما يحظر على المحرم: [ويكره له أن يعصب رأسه، فإن فعل يومًا إلى الليل فعليه صدقة؛ لأنه غطى بعض رأسه بالعصابة وهو ممنوعٌ مِن تغطية الرأس، إلا أنَّ ما غطى به جزءٌ يسيرٌ مِن رأسهِ، فتكفيه الصدقة؛ لعدم تمام جنايته] اهـ.
وقال الإمام فخر الدين الزَّيْلَعِي في "تبيين الحقائق" (2/ 54، ط. المطبعة الكبرى الأميرية): [في "نوادر ابن سماعة" عن محمد رحمه الله قال: لا يكون عليه دمٌ حتى يغطي الأكثر من رأسه، كذا في "شرح الكرخي" و"شرح الطحاوي"، وجه اعتبار الربع: أن تغطية الجميع استمتاع مقصودٌ، وما دون الرُّبع ليس بمقصودٍ، فجعل الرُّبع فاصلًا بينهما، كما في الحَلْق] اهـ.
وقال الإمام أكمل الدين البَابَرْتِي في "العناية" (2/ 444، ط. دار الفكر) في ذكر محظورات الإحرام: [إذا عصب العصابة على رأسه فإنَّه مكروهٌ، فلو فعله يومًا كاملًا لزِمَه الصَّدقة، وليس في معنى لُبسِ المخيط] اهـ.
ومقدار الصدقة في تلك الحالة: نصف صاعٍ من البُر أو قيمة ذلك مالًا، ويُقدَّر نصف الصاع عند الحنفية بكيلو جرام واحد وستمائة وخمسة وعشرين جرامًا، كما في "المكاييل والموازين" لفضيلة الأستاذ الدكتور/ علي جمعة (ص: 37، ط. القدس).
قال الإمام برهان الدين المَرْغِينَانِي في "بداية المبتدي" (ص: 50، ط. مكتبة صبيح): [وكلُّ صدقةٍ في الإحرام غيرُ مقدَّرةٍ فهي نصفُ صاعٍ مِن بُرٍّ، إلا ما يجب بِقتلِ القَملَةِ والجرادة] اهـ.
قال شمس الأئمة السَّرَخْسِي في "المبسوط" (2/ 156): [أداء القيمة مكان المنصوص عليه في الزكاة والصدقات والعشور والكفارات جائزٌ عندنا] اهـ.
المختار للفتوى في حكم لبس قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس للمحرم
ما ذهب إليه الحنفية في هذه المسألة هو المختار للفتوى، فالشريط الملاصق للرأس -في الشمسيَّة محل السؤال- لا يستر من الرأس إلا القدر اليسير، وهو ما لا يبلغ مقدار ربع الرأس؛ وذلك عملًا بالقاعدة المستقرة: أن من ابتُليَ بشيءٍ مما اختُلِفَ فيه فليقلد من أجاز، قصدًا لتحقيق السَّعة والتيسير على المكلفين الذي هو شأن التنوع في المذاهب والأقوال الفقهية، ولذلك كان طلحة بن مُصَرِّف إذا ذُكر عنده الاختلاف يقول: "لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السَّعة" أخرجه الإمام أبو نعيم في "الحلية".
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للمُحرِم شرعًا استعمالُ قبعة المظلة الشمسية المثبتة على الرأس بشريطٍ مطاطٍ إذا لم يتيسر له استعمال غيرها مما يصرف عنه حرارة الشمس، باعتبار أنَّ ما فيها من شريطٍ ماسكٍ مثبَّت على الرأس لا يستر من الرأس إلا النزر اليسير الذي لا يصل إلى مقدار ربع الرأس، ويلزم المُحرِم إذا استعملها يومًا كاملًا إخراج الصَّدقة دون الفدية، وتُقدَّر بكيلو جرام واحد وستمائة وخمسة وعشرين جرامًا من البُر أو قيمة ذلك مالًا، والأَوْلَى له استعمالُ الشمسية المحمولة باليد بدلًا عن تلك المثبتة على الرأس، باعتبار أن الخروج من خلاف الفقهاء مستحب.