بين التقاعد والتعاقد.. نقطة على آخر السطر
تاريخ النشر: 16th, December 2024 GMT
حمود بن علي الطوقي
مُجدَّدًا أجدُني أتناول موضوع التشغيل، وما دعاني لكتابة هذا المقال على الرغم من تناوله ومناقشته بشكل مستمر وفي منصات مختلفة، هو مناقشة إحدى المجموعات الواتسابية وهي "السبلة الاقتصادية"، للموضوع، وتعد هذه السبلة نافذة مُهمة لطرح العديد من القضايا الوطنية.
يتفق أعضاء هذه السبلة على أنَّ "عُمان أولًا"، وفي هذه المجموعة، دارت مناقشات حول قضية التقاعد والتعاقد، وكيفية تأثيرهما على سوق العمل في السلطنة.
ما نشهده اليوم في سوق العمل العُماني من إقبال بعض المؤسسات على التعاقد مع الوافدين في بعض الوظائف الحكومية، في ظل إحالة العديد من الموظفين إلى التقاعُد، يُثير العديد من التساؤلات. وكان من المُفترض أن تُترجم الوظائف الشاغرة الناتجة عن التقاعد إلى فرص عمل جديدة للعُمانيين، إلّا أن الواقع أظهر أن التعاقد مع الوافدين أصبح هو الخيار السائد في بعض المؤسسات الحكومية. تابعتُ- خلال مسيرة عملي الصحفي- ملف الباحثين عن عمل لفترة طويلة، ورأيتُ كيف أنَّ هذا الملف يُشكِّل أولوية وطنية للحكومة التي تبذل جهودًا كبيرة في معالجة هذه القضية.
حسبنا أن توظيف العُمانيين أصبح أمرًا لا بُد منه؛ وذلك نظرًا لوجود عدد كبير من الكفاءات الوطنية من خريجي أرقى الجامعات، لكن فرصة توظيفهم تتطلب صبرًا وانتظارًا لسنوات.
إنَّ مفهوم التقاعد يجب أن يكون وسيلة لضمان استمرار الإنتاجية وتجديد الدماء بالكفاءات الوطنية الشابة. ومن وجهة نظر إحدى المداخلات في هذه السبلة أن التقاعد ينبغي أن يتحقق عند تدني إنتاجية الموظف أو عند إبداء الرغبة الشخصية في التقاعد. كما إن سن التقاعد الأنسب هو 60 عامًا، مع منح من يرغبون في التقاعد المُبكر الحق في ذلك؛ شريطة الاستمرار في دفع المُساهمات لصندوق الحماية الاجتماعية حتى سن الـ60. أما الموظفون الذين يختارون الاستمرار في العمل بعد سن التقاعد، فيمكنهم مواصلة العمل مع وقف مساهماتهم لصندوق الحماية الاجتماعية، على أن يُؤجل حصولهم على المعاش التقاعدي إلى حين خروجهم النهائي من سوق العمل. هذه الرؤية تتيح مرُونة أكبر لتحقيق طموحات الأفراد، مع دعم استدامة موارد صندوق الحماية الاجتماعية.
المعادلة الحالية بين التقاعد والتعاقد بحاجة إلى إصلاح جذري؛ فإحالة العديد من الموظفين إلى التقاعد كان من المُفتَرَض أن يُترجَم إلى طرح فرص عمل جديدة للعُمانيين، ولكن الواقع أظهر أنَّ الفراغ الوظيفي الناتج عن التقاعد يُملأ عبر التعاقد مع وافدين. وهذا التوجه يُثير تساؤلات حول مدى التزام بعض المؤسسات بمبادئ تمكين الكفاءات الوطنية، لا سيما أن العديد من الوظائف التي شُغلت بالوافدين يُمكن أن يشغلها المواطن بكفاءة واقتدار. التعاقد مع الوافدين ليس مرفوضًا تمامًا، فهم شركاء في التنمية ولهم مكانتهم واحترامهم، لكن يجب أن يكون في حدود الحاجة الفعلية وفي مجالات تتطلب خبرات غير متوفرة محليًا.
زرتُ مؤخرًا إحدى المدارس الحكومية، وهي مدرسة الحلقة الأولى، ولفت انتباهي أن نسبة المُعلمين الوافدين تفوق نسبة المعلمين العُمانيين. ونرى أيضًا توجه بعض المؤسسات للتعاقد بدلًا من توفير العمل لفئة الباحثين عن عمل من أصحاب المؤهلات العلمية، وهذا يعكس خللًا في التوازن بين التوظيف المحلي والتعاقد مع الوافدين، ويثير تساؤلات حول استثمار الحكومة في الكوادر الوطنية.
ملف تشغيل العُمانيين يتطلب سياسات واضحة وقرارات جريئة لتحقيق التوازن بين التقاعد والتعاقد. ومن الضروري أن تُستغل الوظائف الشاغرة في تعزيز حضور الكفاءات الوطنية، مع التركيز على تطوير قطاعات اقتصادية جديدة قادرة على استيعاب أعداد أكبر من الباحثين عن عمل. علاوة على أن التوسع في إنشاء مصانع ومشاريع عملاقة سيكون خطوة أساسية لتحقيق هذا الهدف، إلى جانب تعزيز برامج التأهيل والتدريب التي تتماشى مع احتياجات سوق العمل.
إنَّ التقاعد والتعاقد وجهان لمعادلة يجب أن تخدم المواطن العُماني أولًا، والحلول موجودة، لكنها تتطلب إرادة حقيقية وقرارات جريئة تُنصف المواطن وتضع نقطة على آخر سطر في هذا الملف الذي طال أمده.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
اتفاقية خور عبد الله : بين الالتزام الدولي والسيادة الوطنية
بقلم : فرهاد علاء الدين ..
أعادَ الجدل المتجدد حول اتفاقية خور عبد الله بين العراق والكويت إلى الواجهة أحد أكثر المواضيع حساسية في الوعي العراقي، حيث اختلطت الحقائق القانونية بالمواقف السياسية والشعبية، ما أدى إلى تشويش واسع حول حقيقة الاتفاقية، وطبيعتها القانونية، وأبعادها السيادية. فهل تنازل العراق عن خور عبد الله؟ هل «باع» المسؤولون خور عبد الله؟ وهل الاتفاقية فرضت عليه قسراً؟ وما الموقف القانوني السليم من منظور السيادة الوطنية والقانون الدولي؟
وخور عبد الله هو ممر مائي يقع في أقصى شمال الخليج العربي، ويفصل شبه جزيرة الفاو العراقية عن جزيرة بوبيان الكويتية. ومنذ ترسيم الحدود بين العراق والكويت بعد حرب الخليج الثانية، ظل هذا الخور محل نقاش قانوني وسياسي بين البلدين.
بعد اجتياح العراق للكويت عام 1990، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 687 لعام 1991، الذي شكّل الأساس القانوني لإخراج العراق من الكويت ووضعه تحت طائلة عقوبات دولية. تبعه القرار 773 لعام 1992، الذي دعم عمل لجنة ترسيم الحدود بين العراق والكويت، ثم القرار 833 لعام 1993، الذي أقر رسمياً نتائج اللجنة، واعتبر ترسيم الحدود بين البلدين نهائياً وملزماً للطرفين. شمل هذا الترسيم المياه الإقليمية بما فيها خور عبد الله، الذي اعتُبر بموجب القرار منطقة حدودية مشتركة، لا تخضع لسيادة كاملة لأي من الطرفين، بل يتعين تنظيم استخدامها عبر اتفاق مشترك.
ولم يقتصر الاعتراف بقرارات مجلس الأمن على الصعيد الدولي فحسب، بل تم تكريسه محلياً أيضاً. ففي الخامس من مارس (آذار) 1991 أصدر مجلس قيادة الثورة المنحل قراراً رقم 55، وأخذ بنظر الاعتبار قرار المجلس الوطني الذي اتخذ في الجلسة الخاصة يوم 20 مارس 1991، وبعد ذلك عاد مجلس قيادة الثورة المنحل في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1994، ليصدر قراراً رسمياً نصّ في البند الثاني منه على ما يلي:
«امتثالاً لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 833 (1993)، تعترف جمهورية العراق بالحدود الدولية بين جمهورية العراق ودولة الكويت كما رسمتها لجنة الأمم المتحدة لترسيم الحدود بين العراق والكويت المشكّلة بموجب الفقرة 3 من القرار 687 (1991)، وتحترم الحدود المذكورة».
يشكّل هذا القرار الداخلي التزاماً صريحاً وموثقاً من الدولة العراقية بقبول نتائج ترسيم الحدود، وهو التزام لا يزال قائماً من الناحية القانونية.
واستناداً إلى قرارات مجلس الأمن، دخل العراق والكويت في مفاوضات لترسيم حدود المياه الإقليمية وتنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله، وانتهت هذه المفاوضات إلى توقيع اتفاقية عام 2012 بعنوان «الاتفاقية بين حكومة جمهورية العراق وحكومة دولة الكويت بشأن تنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله». وقد صادق عليها البرلمان العراقي في عام 2013 بالقانون رقم (42) لسنة 2013.
الاتفاقية لا تتضمن أي تنازل عن السيادة العراقية، بل تنظم الملاحة المشتركة في الخور لضمان حرية الوصول إلى المواني العراقية، خصوصاً ميناء أم قصر من الجانب العراقي. كما تنص على وضع قواعد لعبور السفن وإنشاء ممرات ملاحية آمنة دون المساس بالسيادة أو الحقوق الثابتة لأي من الطرفين.
في عام 2023، قضت المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية قانون المصادقة على الاتفاقية لوجود خلل إجرائي في آلية التصويت داخل البرلمان، وليس بسبب مضمون الاتفاقية ذاته. هذا القرار أثار موجة من التأويلات السياسية والإعلامية، حيث اعتبره البعض إلغاء للاتفاقية وانتصاراً للسيادة، بينما فسّره آخرون كإجراء قانوني شكلي لا يؤثر على التزام العراق الدولي.
من الناحية القانونية، فإن الاتفاقيات الدولية لا تُلغى من طرف واحد دون اتخاذ خطوات رسمية تنسجم مع اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، وهو ما لم يحدث. كما أن أي محاولة لإلغاء اتفاق أُبرم على أساس قرارات ملزمة من مجلس الأمن قد تضع العراق في مواجهة قانونية ودبلوماسية غير محسوبة العواقب.
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن الموقف القانوني العراقي السليم يستند إلى الاعتراف بالواقع الدولي والقرارات الأممية الصادرة بموجب الفصل السابع، ولا سيما القرار 833. فالعراق ملزم بهذه القرارات التي وافق عليها رسمياً في عام 1994 وبعد عام 2003، ولا يمكنه الانسحاب منها أو التراجع عنها من جانب واحد، دون أن يخلّ بالتزاماته الدولية.
لكن هذا لا يعني القبول الأعمى، بل يحق للعراق، انطلاقاً من مبدأ السيادة المتوازنة، أن يعمل على حماية مصالحه البحرية، من خلال مراجعة بعض تفاصيل الاتفاقيات بالطرق الدبلوماسية، وتطوير قدراته البحرية والمينائية، لا سيما في الفاو وأم قصر، بحيث لا يكون بحاجة إلى المواجهة بل إلى التمكين.
إن مقاربة العراق لهذا الملف الحساس لا يمكن أن تُفصل عن السياق العام الذي يعيشه البلد اليوم. فالعراق يشهد مرحلة استقرار سياسي واقتصادي متنامٍ، تتزامن مع انفتاح واسع على محيطه العربي والإقليمي. وقد أصبحت علاقاته مع جميع الدول العربية، بلا استثناء، علاقات أخوية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، بعد سنوات من التوترات والعزلة.
وتستعد بغداد لاحتضان القمة العربية القادمة، في مؤشر على استعادة العراق لمكانته الطبيعية بين أشقائه العرب، وثقة القادة العرب بقدرته على لعب دور إيجابي ومتوازن في ملفات المنطقة. وفي هذا السياق، أكد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في أكثر من مناسبة على «التزام العراق بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ومبادئ القانون الدولي، والتفاهمات المشتركة وحسن الجوار»، وهي رسالة واضحة بأن العراق ماضٍ في تعزيز دوره من موقع الدولة المسؤولة، لا الدولة المنفعلة.
هذه السياسة تنطلق من فلسفة واضحة تعتمد على مبدأ «العراق أولاً»، وتركّز على بناء شراكات تقوم على السيادة والاحترام والتكامل، وتضع الكويت ودول الجوار في مقدمة الأولويات. وفي هذا الإطار، فإن التعامل مع ملف خور عبد الله يجب أن يكون انعكاساً لهذه الروح الجديدة: روح الشراكة لا المواجهة، والواقعية لا الشعبوية. العراق اليوم لا يحتاج إلى صراعات قانونية أو لغوية، بل إلى موقف سيادي ناضج يوازن بين احترام التزاماته الدولية، وحماية مصالحه الوطنية، وتكريس حضوره القوي كركيزة للاستقرار في الخليج والمنطقة.