17 ديسمبر 2024

في قراءة المبادرة التي قدمها الحزب الشيوعي السوداني لوقف الحرب واسترداد الثورة، لا بد من التوقف عند قيمتها كطرح وطني يحمل في جوهره رغبة صادقة في الخروج من دوامة الحرب والدمار التي تعصف بالسودان.
المبادرة، بلا شك، تأتي في توقيت مفصلي من تاريخ البلاد، وتُجدد التأكيد على أن الحلول الحقيقية تنبع من إرادة الشعب، وتستند إلى نضال جماهيري منظم.

لكن رغم وضوح الرؤية في بعض جوانبها، فإنها تظل بحاجة إلى مزيد من التفصيل والمرونة لمعالجة القصور الذي قد يحد من فاعليتها، خاصة في ظل الظروف المعقدة التي تعيشها البلاد.

تستند المبادرة إلى رؤية تاريخية تذكّرنا بمواقف شعبنا البطولية في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وديسمبر 2018، حين كانت وحدة الجماهير هي الأساس الذي ارتكزت عليه تلك التحولات الكبرى. هذا التذكير يُعيد الثقة بقدرة الشعب السوداني على إحداث التغيير، ويُعزز فكرة أن المبادرة الجماهيرية ليست ترفًا، بل ضرورة لإيقاف الحرب واستعادة الثورة. ومع ذلك، من الضروري الاعتراف بأن السياقات الراهنة تختلف عن سابقاتها، فالحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 خلّفت واقعًا إنسانيًا واجتماعيًا بالغ التعقيد، حيث يعاني الملايين من النزوح واللجوء، وحيث فقدت قطاعات واسعة من الشعب القدرة على المشاركة السياسية بفعل الظروف القاهرة.
الدعوة إلى تنظيم النازحين واللاجئين تظل فكرة طموحة وملهمة، لكن تحقيقها يتطلب وسائل عملية تتجاوز حدود الخطاب السياسي إلى إيجاد حلول ملموسة تُعيد لهم شيئًا من الأمن والاستقرار أولًا.

أحد الجوانب الإيجابية في المبادرة هو النقد الشجاع الذي توجهه للفترات الانتقالية السابقة، والتي اتسمت بالقصور في تحقيق أهداف الثورة. هذا النقد يُعبر عن موقف وطني مسؤول، إذ يُعترف بأن الإخفاقات السابقة كانت سببًا مباشرًا في تفاقم الأزمة الحالية وعودة القوى المناهضة للثورة إلى المشهد السياسي. لكن من المهم هنا الإشارة إلى أن معالجة هذه الإخفاقات تتطلب قراءة أكثر شمولية وعمقًا؛ فالدولة السودانية ظلت لعقود طويلة محكومة ببنية سياسية واقتصادية معقدة، لا يمكن تفكيكها بخطوات سريعة أو قرارات سطحية.
إن التغيير الحقيقي يتطلب رؤية متكاملة، تستند إلى مشروع وطني جامع قادر على معالجة جذور الأزمة، بدءًا من إعادة بناء المؤسسات، مرورًا بتعزيز الديمقراطية، ووصولًا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.

من النقاط المهمة التي تُطرح في المبادرة أيضًا، مسألة الاعتماد على الخارج في حل الأزمة السودانية. هذه النقطة تُحسب لصالح الطرح، حيث تُشير إلى خطر الرهان على المبادرات الدولية والإقليمية التي غالبًا ما تأتي محملة بمصالح متباينة للأطراف المتدخلة.
صحيح أن المجتمع الدولي قد يُشكل عاملًا مساعدًا، لكن الحلول المستدامة يجب أن تنبع من الداخل، من إرادة السودانيين أنفسهم. غير أن الدعوة إلى الاعتماد على الذات تظل ناقصة ما لم تُطرح معها آليات واضحة لكيفية تحقيق ذلك على أرض الواقع، خاصة وأن الجماهير اليوم تواجه ظروفًا استثنائية تتطلب دعمًا وإسنادًا إنسانيًا عاجلًا قبل الحديث عن العمل السياسي والتنظيمي.

الجانب الاقتصادي الذي تتناوله المبادرة يُعد من أكثر القضايا أهمية، حيث تُشير إلى ضرورة مفارقة سياسات “الليبرالية الجديدة” التي كرست الفقر وعدم المساواة، والانطلاق نحو نهج اقتصادي يعتمد على الذات.
هذا الطرح يتماشى مع تطلعات الشعب السوداني الذي عانى لسنوات طويلة من التبعية للخارج ومن سياسات اقتصادية عمّقت الأزمات. لكن النجاح في تحقيق هذه الرؤية يتطلب خطوات عملية تُركز على استعادة دور الدولة في إدارة القطاعات الاستراتيجية، وتوجيه الموارد لخدمة المواطنين، وهو ما يحتاج إلى تخطيط دقيق يراعي الإمكانيات الحالية والتحديات التي فرضتها الحرب.

أما ما يتعلق بالدعوة إلى إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية وبناء جيش قومي موحد، فهي دعوة ضرورية ولا خلاف حول عدالتها. السودان لن يستقر ما لم تُحل مشكلة تعدد الجيوش والمليشيات، وما لم تُعاد هيكلة القوات المسلحة على أسس مهنية بعيدًا عن الولاءات السياسية أو الجهوية. لكن هذه الدعوة، رغم عدالتها، تحتاج إلى التعامل بحذر وواقعية؛ فالانقسامات العميقة التي أفرزتها الحرب تجعل تحقيق هذه الأهداف أمرًا بالغ التعقيد، ويتطلب توافقًا وطنيًا واسعًا يشمل كل الأطراف.

إن المبادرة إذ تُنادي بعقد المؤتمر الدستوري القومي، فإنها تُشير إلى واحدة من أهم أدوات بناء الدولة الحديثة، حيث يُتاح للسودانيين فرصة الجلوس معًا لتحديد كيف يُحكم السودان. هذه الدعوة تُعبر عن رغبة حقيقية في التأسيس لدولة مدنية ديمقراطية، تحترم التنوع وتُحقق العدالة. ومع ذلك، فإن نجاح المؤتمر الدستوري يتطلب تهيئة مناخ سياسي ملائم، وبناء الثقة بين مكونات المجتمع السوداني المختلفة، وهو ما لن يتحقق إلا بوقف الحرب أولًا، وبتقديم ضمانات حقيقية لالتزام كل الأطراف بما يتم الاتفاق عليه.

في المجمل، المبادرة تُعد خطوة إيجابية وجادة في اتجاه البحث عن مخرج للأزمة السودانية، وتُعبّر عن موقف وطني مسؤول يدعو إلى وحدة القوى السياسية والمدنية لاستعادة الثورة ووقف الحرب. لكن هذه الرؤية، رغم وضوحها، تحتاج إلى أن تكون أكثر واقعية ومرونة في طرحها، مع التركيز على آليات التنفيذ العملية التي تُراعي ظروف السودانيين اليوم.
إن النقد الموضوعي لهذه المبادرة لا يقلل من قيمتها، بل يُسهم في تطويرها لتُصبح أكثر فاعلية، وأكثر قدرة على مخاطبة الواقع بما فيه من تعقيد وتناقض.

السودان اليوم بحاجة إلى توافق وطني حقيقي يُعيد بناء الثقة بين أبنائه، ويُرسي دعائم السلام والعدالة والتنمية.
المبادرات وحدها لا تكفي؛ إذ يتطلب الأمر عملًا جماعيًا جادًا، تُشارك فيه كل القوى الوطنية بمسؤولية وشفافية، بعيدًا عن الحسابات الضيقة. هذا الوطن الذي عانى طويلًا يستحق أن نتعامل مع أزماته بروح وطنية خالصة، لا تنحاز إلا لمصلحة الشعب السوداني الذي ظل دائمًا مصدر القوة والأمل في أحلك الظروف.

Sent from Yahoo Mail for iPhone

[email protected]

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

لن نفرط.. وزير “المعادن” السوداني يعلن الحرب على مهربي الذهب

متابعات- تاق برس- أكد وزير المعادن السوداني نور الدائم طه أن الدولة لن تتهاون في مواجهة تهريب الذهب والفساد المرتبط به. وقال إن ذلك يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن واقتصاد السودان.

ويفقد السودان النسبة الأكبر من إنتاج الذهب في التهريب، حيث بلغ إنتاج السودان من الذهب في النصف الأول من العام 2025م، حوالي 37 طنًا، بإيرادات قدرت بـ403 مليارات جنيه، بينما فقد 48% من الإنتاج في العام 2024 تم تهريبه، ودخلت 52% فقط عبر القنوات الرسمية.

وعقد وزير المعادن اجتماعًا في بورتسودان ضم المدير العام للهيئة العامة للأبحاث الجيولوجية جيولوجي مستشار أحمد هارون التوم، الفريق شرطة صلاح أحمد إبراهيم – مدير عام قوات الجمارك، اللواء سر الختم موسى – مدير شرطة التعدين، العميد أحمد الشيخ – مدير أمن اقتصاديات المعادن، مولانا المستشار حسين فريجون – رئيس لجنة مكافحة التهريب، ومدير شرطة مكافحة تهريب المعادن والذهب.

وناقش الاجتماع سبل تأمين قطاع التعدين، وتشديد الرقابة على المعابر، وتجفيف منابع تهريب الذهب، والتصدي لشبكات الفساد.

وقال وزير المعادن: “تهريب الذهب يشكّل نزيفًا مستمرًا لثروات السودان. والثروات القومية حق للأجيال القادمة. ولن نسمح بالتفريط فيها”.

تأتي هذه الخطوة في وقت يسعى فيه السودان لإحكام سيطرته على الموارد المعدنية، وسط تحديات أمنية واقتصادية متزايدة، في ظل استمرار الحرب وحاجة البلاد إلى موارد اقتصادية لسد النقص في احتياجات المواطن والبحث عن موارد لتوفير الخدمات الضرورية.

تهريب الذهبوزير المعادن السوداني نور الدائم طه

مقالات مشابهة

  • السوداني: سوريا تمثل أمنا قوميا للعراق.. أفكار التقسيم مرفوضة
  • جيرمي كوربن يعود من بوابة الشباب.. هل يهدد الحزب الذي أخرجه؟
  • ???? مناوي .. شوية مع دول وشوية مع دول!
  • كمال الدالي بمؤتمر الجيزة: أبو العينين صوت وطني عاقل لم يتخل عن مصر يوما
  • ترامب يقلص المهلة التي منحها لبوتين لوقف الحرب
  • السيسي يناشد الرئيس الأمريكي ترامب لوقف الحرب في غزة
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • ترامب يدرس تقليص مهلة التوصل لوقف الحرب الروسية الأوكرانية
  • توترات الحدود مع سوريا... بين التهويل والواقع
  • لن نفرط.. وزير “المعادن” السوداني يعلن الحرب على مهربي الذهب