احذر من كلامك.. البلاء موكل بالمنطق
تاريخ النشر: 20th, December 2024 GMT
اللسان، ذلك العضو الصغير في جسم الإنسان، له قدرة هائلة على التأثير في حياة الفرد والمجتمع. يقال دائمًا إن "الكلمة سلاح ذو حدين"، فهي قد تكون مصدرًا للخير وسببًا في نشر الهدوء والطمأنينة، وقد تكون أيضًا سببًا في البلاء والشقاء، في الإسلام، يُؤكد على أهمية التحكم في اللسان، والابتعاد عن الكلام الذي قد يؤدي إلى الفتن والمشاكل، بل بلاء يُحمل من خلاله الإنسان نتائج ما ينطق به.
المقولة "البلاء موكل بالمنطق" تعكس حقيقة كبرى في الحياة اليومية. وهي تشير إلى أن اللسان يمكن أن يكون سببًا في وقوع البلاء، خاصة عندما يكون الإنسان غير حريص في اختيار كلماته أو عند تعبيره عن مشاعر سلبية. البلاء لا يقتصر فقط على الأذى الجسدي أو المرض، بل قد يمتد ليشمل الأزمات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن ينشأ بسبب كلام غير محسوب.
ويستند هذا المبدأ إلى العديد من النصوص الدينية التي تحذر من سوء استخدام اللسان. في حديث نبوي شريف، قال النبي ﷺ: "من صمت نجا"، وهو حديث يشير إلى أن الشخص الذي يلتزم الصمت ويتجنب قول الكلام الذي قد يكون سببًا للضرر هو الأقرب إلى النجاة من الوقوع في المشكلات. كما قال النبي ﷺ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه".
أنواع البلاء الناتج عن الكلام:الشتائم والسب: قد يكون لألفاظ الشتائم أو السب تأثير مباشر في تخريب العلاقات الإنسانية وتدمير المجتمعات. كما أن السب قد يؤدي إلى غضب الله، وبالتالي يتسبب في بلاء قد يصعب على الإنسان تحمله.
الغيبة والنميمة:من أبرز البلاءات التي يُمكن أن تكون مرتبطة بالكلام السيء. الغيبة والنميمة تؤديان إلى نشر الأحقاد والمشاكل بين الناس، ما يسبب العديد من الأزمات الاجتماعية والدمار النفسي للآخرين.
الكلام الجارح:أحيانًا يكون الحديث جارحًا لشخص آخر، حتى وإن لم يكن الشخص قاصدًا ذلك. الكلمة الجارحة قد تترك أثرًا عميقًا في النفس وتؤدي إلى حدوث مشاكل نفسية قد تكون سببًا في البلاء للشخص الذي تلقى هذه الكلمات.
التشاؤم:عندما يتحدث الإنسان باستمرار عن المصائب والهموم، فإنه يجذب المزيد من السلبية إلى حياته، ويؤدي ذلك إلى تدهور حالته النفسية، التشاؤم، كما ورد في الأحاديث النبوية، يمكن أن يكون سببًا في جلب البلاء على الإنسان.
الكذب:الكذب من أكثر الكلمات خطورة في الإسلام، حيث يُعد الكذب جريمة تُفقد الثقة وتؤدي إلى الفساد في الأرض. قد يؤدي الكذب إلى شيوع الباطل والفواحش، مما يسبب البلاء على المستوى الشخصي والاجتماعي.
كيف يحمي المسلم نفسه من البلاء المرتبط بالكلام؟حسن اختيار الكلمات: ينبغي للمسلم أن يحرص على اختيار الكلمات الطيبة التي لا تضر الآخرين، بل تدعو إلى الخير والبركة. يُقال في الحديث النبوي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". هذا الحديث يوجه المسلم إلى التفكير قبل أن يتكلم، ويحثه على قول ما يعود عليه وعلى الآخرين بالنفع.
الابتعاد عن التشاؤم:أحد الأسباب الرئيسية لجذب البلاء هو الحديث المستمر عن المصائب. يجب على المسلم أن يتجنب هذه الأحاديث السلبية، وأن يركز على التفاؤل والأمل بالله. قال النبي ﷺ: "تفائلوا بالخير تجدوه".
التزام الصمت في المواقف التي قد تؤدي إلى ضرر: هناك حالات قد يكون السكوت فيها أفضل من التحدث، خاصة عندما يساهم الكلام في نشر الفتن أو الأذى. إذ يقال: "من كف لسانه فقد نجا".
الذكر والدعاء:الذكر المستمر لله سبحانه وتعالى يطهر القلب ويحصن اللسان من القول السيء. كما أن الدعاء لله بالرحمة والمغفرة يعد من أفضل الوسائل لحماية النفس من البلاء. وقد جاء في الحديث: "اللهم إني أسالك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها".
التعلم من الأخطاء:إذا ارتكب المسلم خطأ في كلامه، عليه أن يعتذر فورًا ويحاول تصحيح ما تسبب فيه من أذى للآخرين. الاعتذار هو أحد المفاتيح التي تمنح الإنسان فرصة للتوبة والعودة إلى الله.
اللسان أمانة، وهو أداة قوية إما للإصلاح أو للفساد، إن الكلمة الطيبة التي تخرج من اللسان يمكن أن تكون سببًا في جلب الخير والبركة، بينما الكلمة السيئة قد تكون سببًا في البلاء والدمار. لذلك، على المسلم أن يكون حريصًا على كلامه، وأن يسعى دائمًا إلى تحري الصدق والطيبة في حديثه، حفاظًا على نفسه وعلى مجتمعه.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: اللسان الكلمة الطيبة الذكر البلاء سبب ا فی قد تکون یمکن أن
إقرأ أيضاً:
لماذا تجب علينا المكابدة؟
كابَدَ يُكابِدُ مُكابَدَة فيكون الإنسانُ مُكابِدا. ويُقال كابَدَ الأمر أي تكبَّدهُ؛ فقاسى شدَّته وتحمَّل مشاقه، وركب هوله ومصاعبه. ويُقال كذلك كَبَدَ ابن آدم الأمر أي قَصَدَهُ. وكبَّد العدو خسائرَ أي أنزلها به وكلَّفه إياها. والكَبِدُ وسط الشيء ومعظمه، وهو العضو في الجانب الأيمن من بطن الإنسان، وإليه يُنسب الأولاد، كناية عن إنهم أعز ما وهبنا؛ فيُقال لهم: أفلاذ أكبادنا. وكبِدُ الأرض ما في بطنها من معادن نفيسة. ويوصف الإنسان بغلظة الكبد كناية عن شراسته، والشيء "يُفتِّت الأكباد" كناية عن تسبُّبه بحزنٍ شديد مُمض. وإذا قَدَر الإنسان على الفلاة؛ يُقال تكبَّدها. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم.
وقد وردت لفظة الكَبَد واشتقاقتها في القرآن الكريم مرَّة واحدة فحسب (سورة البلد؛ اﻵية رقم 4): "لقد خلقنا الإنسان في كَبَد"، بمعنى المشقَّة والشدَّة والعناء، وقيل بمعنى انتصاب القامة واعتدالها، وقيل القوة والقصد. وما من شيء يمنع جمع المقصد القرآني لهذه المعاني كلها؛ فلا تعارُض بينها في شأن الإنسان وحاله، بل هو تكامُل رباني معجز. فإن المكلَّف الذي ألقي به -حرفيّا- إلى داخل هذا التاريخ، ليحيا في مجال التجربة والخطأ، والذنب والتوبة والطغيان والأوبة؛ أي ليخوض غمار اختياره الإنساني -بمشيئة الله وتقديره- هو سائرٌ انتصبت قامته ابتداء -رغم معاناته- فلا تنكسر قامته، وينتكس في هذا السير القصدي الغائي؛ إلا بأن يوكل إلى نفسه والعياذ بالله. فإنه إن لم يَستَعِن صادقا بمن كلَّفه تكبُّد وجوده؛ لم ينَل معونة على ما كُلِّف وضاع.
والكبد والمكابدة هي -باختصارٍ غير مُخِلٍّ- فلسفة التاريخ الإسلامي، التي أشار إليها القرآن إجمالا في سورة البلد، وفصَّلها خاتما سورة العصر؛ إذ بسط مآل الخُسر التاريخي الحتمي وغايته في قوله جلَّ شأنه: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر". فإنه لم يجعل لهذا الخسر الحتمي الذي نُكابده، والتاريخ المحيق الذي نُعانيه؛ مآلا دنيويّا برانيّا مُعينا تنعقد عليه اليد، وإنما غيَّب المآل داخل التاريخ، وجعل التواصي هو كل ما يطمع فيه ابن آدم داخل هذا التاريخ: التصبُّر والتواصي، والتكاتُف في احتمال الخُسر الدنيوي البراني الحتمي؛ لئلا ينعكس انعاكسا انتكاسيّا على المجال الجواني له، فيرتد الإنسان -معاذ الله- من أحسن تقويمٍ إلى الانكباب على وجهه، باعتبار هذا الانكباب الضال المُضِل نقضا للكَبَد والمكابدة، وعكسا لطريق السير المنتصب القامة على صراط مُستقيم؛ قاصدا رب البرية. وبعبارة أخرى، فإن فلسفة الكَبَد التاريخيَّة هذه تعني أننا خلقنا للمشقَّة والمعاناة، ولاحتمال هذه المعاناة، وأن جوهر الإيمان هو التواصي على هذا الاحتمال بحول الله، والتكاتُف أثناء عبور هذه الدار؛ لنعرُج بهذه الآلام إلى الله، وقد أقمنا الحجة على أنفسنا بالسير في هذا الطريق الشاق بزاد التواصي.
ولهذا، فرَّق الإسلام تفرِقَة قاطعة بين المكب على وجهه لا يُبصر طريقه (سورة الملك؛ الآية رقم 22)، ومن يسير سويّا مُعتدل القامة على صراط الله المستقيم؛ إذ هما الطريقان الوحيدان، اللذان تتجسَّد فيهما هذه الفلسفة التاريخيَّة. ولا يستوي من يُقاسي الشدة ويعاني المشاق الحتميَّة، وهو لا يُبصر غايته، ومن يركب الهول والمصاعب، وهو يرى ربه العلي سبحانه؛ إذ تعلَّق بصره بما تجاوز الزمكان وعلا فوق التاريخ. جلَّ شأنه وتبارك اسمه ولا إله غيره. والعجيب أن هذا المصدر الفذ، يطوي من المعاني ما يوافق حال الإنسان في مسيره الدنيوي، ويطابق أموره كلها داخل هذا التاريخ. فإنك ترى المكب على وجهه -والعياذ بالله- قد غلظ كبده، وظهرت شراسته، وعمي إلا عما جُعل في كبد الأرض، وغفل بانكبابه عن النظر إلى كبد السماء، وما يمثله؛ فتفتَّت كبده لكل حزن يُصيبه، إذ أنه لا يرجو من الله ما يرجوه المؤمن، وإن كانت المصيبة تنزلُ بهما معا.
هذه المكابدة ليست موافقة إجمالا للنواميس الإلهية فحسب، بل هي أولا وقبل كل شيء مُفصَّلةٌ على مقاس إنسانيَّة ابن آدم وخصاله المركبة، ومجعولة له جعلا؛ فإنه الكائن الوحيد المكلَّف المفطور على الاختيار، وعلى مكابدة خياراته، ومكابدة وجوده كله -نتيجة هذه الحريَّة- لهذا؛ كانت المكابدة ناموسا لتحقُّق إنسانية الإنسان أولا، ثم لاكتمال إيمانه، وأخيرا لاتساقه مع فلسفة التاريخ الإنساني الموافقة لتركيبه وإيمانه.
هذا التحقُّق يلزمه -أولا- أن تكون المكابدة مُكابدة للنفس دوما، وقبل كل شيء؛ لفجورها وهواها، وضعفها وسقوطها، وشهواتها وإخلادها. فهذه المكابدة الذاتية أصل الفطرة السليمة، ومبتدأ حفظها وشحذها، فإذا انتكست -والعياذ بالله- شرعت في مكابدة السوى، وتمخَّضت عنها أعراض مرضيَّة تُبرئ النفس الأمارة وتعُدُّ الآخرين هم الجحيم -كما ذهب سارتر وأضرابه مثلا- إذ صار الغير أصل كل سوء وبلية. وهذه النفسيَّة نفسيَّة انكباب لا ترى الوجود على حقيقته، ولا تستوعب معنى التكليف، ولا تُدرك حقيقة الحريَّة؛ مُدلَّلة تحسب أنها مركز الكون، وأنها تستحق كل الخير بذاتها ولذاتها، وبمجرد وجودها. فهي دائمة الشكوى من كل شيءٍ وكل أحد، إذا لم تنل ما يوافق هواها من الدنيا؛ فإنما أفسدها توهُّمها المتأله، وإغفالها ثمن حريتها في الاختيار، وغفلتها عن عبوديتها لخالق مُحيط، وعن أن حريَّتها التي أرادها الخالق ابتلاء ومسؤولية؛ لتُميز الباطل من الحق وتختار طريقها بين العناصر التي رُكِّبَت منها أولا؛ فإما الإخلاد إلى الطين أو السمو إلى آفاق الروح.
وانظر إلى إدراك السلف البصير، إذ يقول الجاحظ في المجلَّد الأول من سفره الماتع: "الحيوان"؛ في الفصل الذي عنونه مصلحة الكون في امتزاج الخير والشر: "اعلم أن المصلحة.. امتزاج الخير بالشر، والضار بالنافع.. ولو كان الشر صِرفا هلك الخلق، أو كان الخير محضا سقطت المحنة، وتقطَّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز.. ولم تكُن للنفس آمال ولم تتشعَّبها الأطماع. ومن لم يعرف كيف الطمع؛ لم يعرف اليأس، ومن جهل اليأس؛ جهل الأمن.. ولو استوت الأمور بَطُل التمييز، وإذا لم تكن كلفة لم تكن مثوبة، ولو كان ذلك لبطلت ثمرة التوكُّل على الله تعالى، واليقين أنه الوزَرُ والحافظ والكالئ والدافع.. وأنه يقبلُ اليسير ويهب الكثير".
أي أن امتزاج الخير والشر ضرورة لتعمل آلة التمييز المفطورة في بني آدم، ويتحقَّق تكليفه، وتتحقَّق إنسانيته الربانية المركَّبة. ولو كان الشر صرفا لا خير معه لهلك الخلق لشدَّة وطأته، ولو كان الخير محضا لا شر معه سقطت المحنة وانتفى التكليف؛ فإما جحيم أرضي من الشر أو فردوس أرضي من الخير، وفي الحالين يصير الإنسان إلى القهر؛ مثله في ذلك مثل الملائكة أو الحيوان! إذ ستنقطع مع جدليَّة الخير والشر أسباب التفكير وتضمُر حكمة المعرفة، وينعدم التمييز؛ إذ استوت الأمور وصار الإنسان مقهورا بالجهل والغريزة كغيره من المخلوقات. وقد قرر أمير المؤمنين عُمر بن الخطاب أن من لم يعرف الجاهليَّة؛ لم يعرف الإسلام. فمن لم يعرف شرور الجاهليَّة؛ لم يُدرك حجم الخير الذي يطويه الإسلام لاستنقاذ الإنسان من نفسه ومن طينه، بغير الجور على هذا الطين أو إلغائه، وهذا هو مكمن المعجزة في الشريعة المحمدية: معونة على الاختيار وتوفيقٌ وسداد، يخلق التوازُن بين البواعث والغايات، ولا ينكر طينك كما لا يُطلق له العنان، بل يدفعك لتُكابده موفقا مسددا بحول الله؛ تغلبه تارة بمكابدتك ويغلبك أخرى بقعودك. والله يهدي من يشاء.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry