لجريدة عمان:
2025-12-14@04:22:41 GMT

«قطار الصُدفة»

تاريخ النشر: 24th, December 2024 GMT

«قطار الصُدفة»

بصمت كبير، وبعيدا عن أي ضجة، رحل الشاعر اللبناني جاد الحاج (1946 ــ 2024)، الأسبوع الماضي، فـي مهجره الأسترالي. رحل بعيدا عن وطنه، الذي غادره للمرة الأولى مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، ليتنقل فـي مدن كثيرة قبل أن يختار أستراليا «وطنا بديلا»، فـيما لو جاز القول. من قبرص إلى اليونان، ومن باريس إلى لندن، حطّ به الرحال منذ عقود فـي سيدني، الذي كان وصل إليها لمرة أولى، قبل أن يعود منها، ليتابع رحلته فـي بعض أرجاء العالم، ليقرر فـي النهاية العودة إلى استراليا.

إنه فعلا «قطار الصدفة»، فـيما لو استعرنا عنوان إحدى مجموعاته الشعرية. هذا القطار الذي لا يتوقف فـي محطة، إلا لأنه سينطلق إلى مكان آخر وأبعد.

لو نظرنا إلى هذه الرحلة التي قطعها، لوجدنا كم كانت متشعبة فـي مساراتها، أولا من حيث مساراتها الجغرافـية، إذ أقام متنقلا بين العديد من العواصم فـي العالم، من دون أن ينسى لبنان، الذي كان يعود إليه بين الحين والآخر، كلما تسنى له ذلك. وثانيًا، من حيث النوع الأدبي، إذ «بدأ» شاعرا، قبل أن ينتقل إلى الرواية والقصة والحكاية، وثالثا من حيث اللغة، إذ كتب باللغتين العربية والإنجليزية. وإن دلّ هذا التنقل الدائم على شيء، فهو يدل على أن جاد الحاج لم يختر فـي الواقع أي وطن سوى الكتابة. كل هذه الأمكنة كانت حجة للكلمة، التي لم يتوقف عن التفكير فـيها، لغاية لحظاته الأخيرة. كانت الكتابة هي التي تعنيه فـي هذه الحياة بأسرها. يمكن القول إنه صرف عمرا كاملا، لا بحثا عن مكان يأوي إليه، بل عن كلمة تكون هي هذه الحياة التي بحث عنها، فـي العمق.

متشعب أيضا هذا الخيار، خيار جاد الحاج، فهو الذي عمل مع يوسف الخال، فـي فترة الإصدار الثانية لمجلة «شعر»، قبل أن يطوي رحاله، ويغادر من دون أن يلتفت إلى الوراء كثيرا. لكنها فترة، عمقت صداقته بالخال، كما عمقت صداقته الطويلة بـ«سركون بولص»، حيث عرفا حياة بوهيمية حقيقية، انتقلا فـيها من مكان إلى آخر، وخاصة الفترة اليونانية من حياتيهما التي كانت الأعمق، إذ أن المنشورات التي أسساها (منشورات «سارق النار») شهدت صدور المجموعة الشعرية الأولى لسركون بولص فـي ثمانينيات القرن الماضي. ففـي اليونان لم يفعلا شيئا سوى الكتابة، والتنقل من جزيرة إلى أخرى، بحثا عن «إيثاكا»، وكأنهما عوليس الزمن المعاصر.

هذه الفترة، التي جمعته مع الشاعر العراقي، كان يصفها الحاج بالمضحكة. إذ كان سركون يكتب وينسى نصوصه أحيانا تحت السرير فـي بيته وأحيانا فـي جيوبه الراحلة إلى المصبغة. فقام الحاج بجمع تلك النصوص واحدا واحدا خلال سنة ليقول له إنه ذاهب إلى بيروت ليطبع له ديوانا وسأله «ماذا تسميه»؟ فأجاب سركون «إلى أين»؟ ... كانت بيروت تحترق يومها، فأجابه قلت إلى بيروت. قال سمه «الوصول إلى مدينة أين»؟ لم يكن سركون مهتما بالنشر على الإطلاق. لكن حين رأى كتابه الأول محمولا ستة طوابق على كتف الحاج فـي علبة تحتوي 500 نسخة أصيب بنوع من الانهيار السعيد. جلس وفتح كلّ نسخة كأنها كتاب جديد. مذ ذاك بدأ يفكر بنشر مجموعاته لكن لم يكن الأمر سهلا حتى أواخر سنواته حين بدأ يشعر بالتعب.

ربما تكون صداقة سركون هي المحطة الثانية فـي حياة جاد الحاج. المحطة الأولى كانت صداقته مع يوسف الخال (مؤسس مجلة «شعر»)، إذ اعتبر الخال أن قصائد الحاج هي بمثابة قامة فريدة فـي الشعر العربي المعاصر. قد لا يكون يوسف الخال مخطئا فـي حكمه هذا، بيد أن الحاج لم يركن إلى ذلك، بل بقي يبحث عن لغته الخاصة، بقي يبحث عن تمايزه مع قصيدة الستينيات مثلما قدمتها مجلة شعر. ما ميّز قصيدته ميله الكبير وحبّه الكبير للغنائية فـي الشعر والتي مال إليها أكثر ممّا مال إلى التجارب التي تؤسس المغامرة على الارتباط بسيرورة ما. قد يكون هذا الموقف عائدا إلى نضج أو إلى شيخوخة (قبل الأوان). المهم أن ذائقته الأدبية تطورت من مدار التمرد المطلق إلى فسحة التأمل والتبحر فـي انتمائه إلى لغة وتراث وثقافة لها تاريخ طويل وعريق. بهذا المعنى، جاءت كتاباته اللاحقة وكأنها تحاول أن تصحح هذه الالتواءات فـي مساره الشعري عبر كتاباته القصصية.

غالبا ما اعتبر جاد الحاج أن الكتابة القصصية عنده هي نتاج الحكاية. كان يقول إنهم منذ الصغر يروون لنا حكايات والحكاية تختلف عن القصة فـي الأسلوب وفـي البناء وفـي التوجه نحو المتلقي كما فـي «ألف ليلة وليلة». حكايات متواصلة من دون رابط منطقي ولا بنيوية درامية كما فـي النص الغربي والحكاية تروي نفسها لا أبطالها ولا حالاتها النفسية ولا سيكولوجية حبكتها الدرامية بل تروي حادثة كل عناصرها مشتركة فـي عملية تبليغ السامع أو القارئ ما وضع فـي مكان معين وزمان معين. المهم أن الحكاية تترك فسحة لدى المتلقي كي يتخيل الكثير من لم يقل بينما القصة بالمعنى الغربي تبنى على أسس مختلفة تتعامل مع السيكولوجية والإطار الروائي وتعمق إما الحدث أو الشخصيات بشكل محدد ودقيق. الحكاية لا تهتم لهذه الناحية، بل تأخذك إلى مناخ وشخصياتها مجرد أجزاء فـي عملية القص. طبعا هناك حكايات غربية مشابهة لهذا التوصيف لكنها إما للأطفال أو للمسرح.

ثمة صفحة فعلية، من الذاكرة والشعر تطوى مع رحيل جاد الحاج، الذي بقي واقفا بالفعل بين ضفتين: ضفتي الكتابة والمكان. فمن بين هذه الهجرات العديدة والمتنوعة، كان لبنان هو المكان الذي حلم فـيه كثيرا، وكتب عنه، حتى أنه عاد فـي أقاصيصه الأخيرة، ليكتب عن القرية والريف والضيعة، وكأنها حكايات أشبه بتلك التي كتبها رواد القصة اللبنانية فـي نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين. وما انقياده إلى ذلك، إلا محاولة ليعيد صوغ الذاكرة، ذاكرة بلد، لم يتوقف عن إنتاج حروب متناسلة لا أحد يعرف متى تنتهي.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: قبل أن

إقرأ أيضاً:

الحريري يحيي ذكرى اغتيال جبران تويني واللواء فرنسوا الحاج: الدولة أولاً

 كتب الرئيس سعد الحريري على منصة "إكس": "نحيي ذكرى اغتيال الصحافي والمناضل من أجل "لبنان العظيم" الشهيد جبران تويني، والشهيد اللواء فرنسوا الحاج، وتحضرنا الأحزان التي أصابت اللبنانيين في سعيهم للحرية والسيادة والإستقلال. ولا يسعنا غير التأكيد على خيار التمسك بالدولة ومؤسساتها الدستورية، باعتباره الرد الابلغ على القاتل، الذي طالته عدالة الشعب والسماء، وكل الأعداء الذين بتربصون بوطننا. تكريم الشهيدين يكون برفع لواء "الدولة اولا". مواضيع ذات صلة في ذكرى استشهاد جبران تويني واللواء فرنسوا الحاج.. الرئيس عون: شهيدان يجسدان نشيد لبنان "سيفنا والقلم" Lebanon 24 في ذكرى استشهاد جبران تويني واللواء فرنسوا الحاج.. الرئيس عون: شهيدان يجسدان نشيد لبنان "سيفنا والقلم" 12/12/2025 09:09:28 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 الحريري في ذكرى استشهاد اللواء وسام الحسن: لقد قدّم أغلى ما يملك دفاعاً عن الدولة Lebanon 24 الحريري في ذكرى استشهاد اللواء وسام الحسن: لقد قدّم أغلى ما يملك دفاعاً عن الدولة 12/12/2025 09:09:28 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 "المستقبل" يحيي الذكرى الـ81 لميلاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري Lebanon 24 "المستقبل" يحيي الذكرى الـ81 لميلاد الرئيس الشهيد رفيق الحريري 12/12/2025 09:09:28 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 الحريري في ذكرى اللواء الحسن: غيابه كبير Lebanon 24 الحريري في ذكرى اللواء الحسن: غيابه كبير 12/12/2025 09:09:28 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 الرئيس سعد الحريري سعد الحريري الحريري على الرئيس سعد الدستور فرنسوا الصحاف قد يعجبك أيضاً هل يُنقذ رئيس الجمهورية الاستحقاق الانتخابي في اللحظة الحاسمة؟ Lebanon 24 هل يُنقذ رئيس الجمهورية الاستحقاق الانتخابي في اللحظة الحاسمة؟ 02:00 | 2025-12-12 12/12/2025 02:00:00 Lebanon 24 Lebanon 24 لا تبادل للمقاعد Lebanon 24 لا تبادل للمقاعد 01:45 | 2025-12-12 12/12/2025 01:45:00 Lebanon 24 Lebanon 24 مرقص في زيارة رسمية لطرابلس تشمل الثقافة والإعلام Lebanon 24 مرقص في زيارة رسمية لطرابلس تشمل الثقافة والإعلام 01:40 | 2025-12-12 12/12/2025 01:40:00 Lebanon 24 Lebanon 24 ناصر الدين: الذكاء الاصطناعي جزء من استراتيجيتنا الشاملة للصحة الرقمية Lebanon 24 ناصر الدين: الذكاء الاصطناعي جزء من استراتيجيتنا الشاملة للصحة الرقمية 01:32 | 2025-12-12 12/12/2025 01:32:03 Lebanon 24 Lebanon 24 مرجع رئاسي مستاء Lebanon 24 مرجع رئاسي مستاء 01:30 | 2025-12-12 12/12/2025 01:30:00 Lebanon 24 Lebanon 24 الأكثر قراءة بالصورة... شخصٌ واحدٌ فاز بأكبر جائزة "لوتو" في تاريخ لبنان Lebanon 24 بالصورة... شخصٌ واحدٌ فاز بأكبر جائزة "لوتو" في تاريخ لبنان 13:34 | 2025-12-11 11/12/2025 01:34:13 Lebanon 24 Lebanon 24 شقيقة المبدع جورج خباز.. ممثلة لبنانية تتعرض لحادث سير مروّع (فيديو) Lebanon 24 شقيقة المبدع جورج خباز.. ممثلة لبنانية تتعرض لحادث سير مروّع (فيديو) 08:38 | 2025-12-11 11/12/2025 08:38:32 Lebanon 24 Lebanon 24 حالات تسمّم في بلدة لبنانية.. أكثر من 70 مصابا بينهم راهبات Lebanon 24 حالات تسمّم في بلدة لبنانية.. أكثر من 70 مصابا بينهم راهبات 07:14 | 2025-12-11 11/12/2025 07:14:37 Lebanon 24 Lebanon 24 بعد تعرّضها لحادث سير ونقلها إلى المستشفى... ما هو وضع الممثلة لورا خباز الصحيّ؟ Lebanon 24 بعد تعرّضها لحادث سير ونقلها إلى المستشفى... ما هو وضع الممثلة لورا خباز الصحيّ؟ 11:21 | 2025-12-11 11/12/2025 11:21:06 Lebanon 24 Lebanon 24 مداهمة في الأشرفية… وتوقيف مجموعة داخل منزل مُشتبه به Lebanon 24 مداهمة في الأشرفية… وتوقيف مجموعة داخل منزل مُشتبه به 04:39 | 2025-12-11 11/12/2025 04:39:36 Lebanon 24 Lebanon 24 أخبارنا عبر بريدك الالكتروني بريد إلكتروني غير صالح إشترك أيضاً في لبنان 02:00 | 2025-12-12 هل يُنقذ رئيس الجمهورية الاستحقاق الانتخابي في اللحظة الحاسمة؟ 01:45 | 2025-12-12 لا تبادل للمقاعد 01:40 | 2025-12-12 مرقص في زيارة رسمية لطرابلس تشمل الثقافة والإعلام 01:32 | 2025-12-12 ناصر الدين: الذكاء الاصطناعي جزء من استراتيجيتنا الشاملة للصحة الرقمية 01:30 | 2025-12-12 مرجع رئاسي مستاء 01:25 | 2025-12-12 في الشمال.. سبعيني سقط على صخور الشاطئ (فيديو) فيديو هل بدأ العدّ التنازلي لعمل عسكري أميركي ضد فنزويلا؟ Lebanon 24 هل بدأ العدّ التنازلي لعمل عسكري أميركي ضد فنزويلا؟ 10:00 | 2025-12-11 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب ! Lebanon 24 محمد اسكندر يطلق " انسى وطنش ".. وملكة جمال تُشاركه الكليب ! 05:09 | 2025-12-06 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو) Lebanon 24 بسعر منافس جداً.. إطلاق هاتف جديد بقدرات تصوير مميزة (فيديو) 04:00 | 2025-12-06 12/12/2025 09:09:28 Lebanon 24 Lebanon 24 Download our application مباشر الأبرز لبنان فيديو خاص إقتصاد عربي-دولي متفرقات أخبار عاجلة Download our application Follow Us Download our application بريد إلكتروني غير صالح Softimpact Privacy policy من نحن لإعلاناتكم للاتصال بالموقع Privacy policy جميع الحقوق محفوظة © Lebanon24

مقالات مشابهة

  • الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الحاج صالح يحيى وازع
  • ائتلاف المالكي:الحاج أبو إسراء قد يكون هو رئيس الحكومة المقبلة او مرشحا عنه
  • جامعة القصيم: مشروع الطالب محمد الحاج بكلية الهندسة يحقق أعلى فئة ببرنامج "قادة طاقة المستقبل"
  • الحاج حسن: تصريحات رجي تبرّير لاستمرار إسرائيل في عدوانها
  • عبد المسيح: صوت جبران تويني بقي أعلى من الرصاص
  • خريش بحث مع النائب الحاج في دعم مراكز الدفاع المدني
  • روضة الحاج: يا بلادي أنا بالبابِ وفي كفي الأناشيدُ التي كنتِ تحبينَ
  • باسيل في ذكرى جبران تويني وفرنسوا الحاج: أرواحهم ما زالت تقاتل فينا
  • الحريري يحيي ذكرى اغتيال جبران تويني واللواء فرنسوا الحاج: الدولة أولاً
  • لجنة حماية الصحفيين: حرب غزة كانت الأكثر دموية للصحفيين