إبراهيم برسي

20 أكتوبر 2020

كتاب “طبقات ود ضيف الله” يُعتبر واحدًا من أبرز الأعمال الأدبية والتاريخية في التراث السوداني، حيث يُقدم لنا نافذة على الحياة الدينية والاجتماعية في السودان خلال فترة السلطنة الزرقاء. ومع ذلك، فإن القراءة النقدية لهذا الكتاب تكشف عن إشكاليات جوهرية في مضمونه وأهدافه، تجعل من الضروري إعادة تقييم دوره وتأثيره، خصوصًا في السياق المعاصر.

فبينما يُنظر إليه كوثيقة تاريخية مهمة، يُظهر تحليل أعمق أنه يفتقر إلى الموضوعية ويتسم بالنزعة العاطفية التي تضعف مصداقيته.

يعتمد كتاب “طبقات ود ضيف الله” على سرد الكرامات والخوارق التي يُنسبها إلى الأولياء والصالحين الذين وثق لسيرهم. هذا التركيز على الكرامات، مثل إحياء الموتى أو التنبؤ بالمستقبل، يضعف القيمة التاريخية للكتاب ويجعله أقرب إلى سجل شعبي مدفوع بالعاطفة الدينية، أكثر من كونه مصدرًا تاريخيًا موضوعيًا.

من الواضح أن ود ضيف الله تبنى رؤية تقديسية للأولياء، حيث غابت تمامًا محاولات تحليل الظواهر المرتبطة بهم بشكل نقدي، مثل استغلال النفوذ الديني أو التشدد. بدلاً من ذلك، اكتفى بتقديمهم كرموز مثالية خالية من العيوب، مما يجعل الكتاب أشبه بسجل للتبجيل لا يعكس الواقع المعقد الذي عاشته هذه الشخصيات.

إحدى الإشكاليات الكبرى في الكتاب هي تكريسه لثقافة الخرافة والغيبيات. من خلال تسليط الضوء على الكرامات والخوارق، يُعزز الكتاب نظرة تعتمد على الاتكال على القدرات الخارقة للأولياء، بدلًا من تعزيز قيم العمل والاجتهاد والعقلانية. مثل هذا السرد لا يخدم سوى تكريس التصورات الشعبية غير العلمية، مما يؤدي إلى تعزيز الجمود الفكري والابتعاد عن التفكير النقدي.

الأثر السلبي يظهر بشكل أكبر عندما يُستخلص الكتاب كمرجع يُعتمد عليه في تشكيل الهوية الدينية والثقافية، مما يؤدي إلى اعتماد تصورات مغلوطة وغير عقلانية عن الدين والحياة. الاعتماد على مثل هذه النصوص كمصدر رئيسي يُسهم في تغذية التخلف الفكري والثقافي، ويجعل المجتمع أكثر هشاشة أمام التحديات الفكرية الحديثة.

كما أن للمستعمر دوراً غير مباشر في تكريس هذه المرجعيات، إذ استغل البنى الثقافية والدينية التقليدية كوسيلة لضمان السيطرة على المجتمع السوداني. عبر إبقاء الخلاوي والمؤسسات التقليدية المصدر الوحيد للتعليم، وتحجيم التعليم النظامي الحداثي، عزز المستعمر من هيمنة الطرق الصوفية والمراجع القائمة على الخرافة، ما جعل المجتمع أكثر عرضة للتبعية الفكرية.

من خلال هذه الأدوات الناعمة، غُرس الجمود الفكري بطريقة طويلة النفس، جعلت المثقف وغير المثقف عرضة لغسيل المخ الجمعي الذي يُرسخ هذه المرجعيات كحقائق مطلقة لا يمكن التشكيك فيها.

ولعلَّ التحذير هنا واجبٌ على المثقفين السودانيين، الذين قد يقعون دون وعي في حبائل هذه الأدوات الناعمة التي تخدم تكريس التخلف. المثقف، بصفته طليعة المجتمع، يقع على عاتقه مسؤولية تفكيك هذه الموروثات ونقدها بوعي عميق، دون أن يُغرق نفسه أو مجتمعه في تقديسها.

كما قال عالم النفس إدوارد بيرنيز (Edward Bernays): “عندما تتحكم الموروثات الثقافية والعاطفة في عقول الناس دون نقد أو تمحيص، يصبح من السهل قيادتهم كما يُقاد القطيع”. هذا التحذير ورد في كتابه “Propaganda”، الذي يُبرز كيف يمكن للأفكار والموروثات أن تُستخدم كأداة للسيطرة على الجماهير.

هذا التحذير ينطبق تمامًا على مرجعيات مثل “طبقات ود ضيف الله”، التي قد تبدو بريئة أو إيجابية، لكنها في الواقع أداة لإبقاء المجتمع في حالة من الجمود.

يقدم الكتاب الدين من منظور صوفي يغلب عليه الطابع العاطفي، وهو منظور قد يكون مفهومًا في سياق عصر ود ضيف الله، لكنه يُبعد الكتاب عن الجوانب الإصلاحية أو الفكرية للدين.

هذا التوجه يغذي بناء مجتمع يعتمد على العاطفة أكثر من العقل، حيث يتم التعامل مع القضايا الدينية والاجتماعية من منطلقات وجدانية بدلًا من أسس عقلانية وعلمية. والنتيجة هي أن الكتاب يُساهم، بطريقة غير مباشرة، في إدامة ثقافة تعتمد على التلقين والتقديس بدل الحوار والنقد.

من الجوانب الأخرى التي تستدعي النقد في كتاب “طبقات ود ضيف الله” هو تجاهله التام للنقد الذاتي. لا يُشير الكاتب إلى أي سلبيات أو انحرافات في المجتمع الديني أو الشخصيات التي تناولها، مما يجعل الكتاب أحادي الجانب.

لا شك أن الشخصيات الدينية التي يتناولها الكتاب لها مكانتها في التاريخ السوداني، لكن تقديمها كرموز مثالية لا تخلو من العيوب يُفقد الكتاب مصداقيته ويجعله بعيدًا عن تقديم صورة واقعية متوازنة.

كما أن الكتاب يغفل تمامًا دور المرأة في الحياة الدينية والاجتماعية. في مجتمع كانت المرأة فيه جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي، فإن غيابها شبه الكامل عن الكتاب يُظهر تحيزًا واضحًا وتجاهلًا لمساهماتها. هذا الإقصاء يُعمق الصورة النمطية التي تُصور المرأة كمجرد تابع في المشهد الديني، مما يُعزز رؤية ذكورية تُهمش دورها الحيوي.

أثر الكتاب يمتد إلى السياق الثقافي المعاصر، حيث لا يزال يُستخدم كمرجع للهوية الدينية والثقافية في السودان. ومع ذلك، فإن تأثيره السلبي يظهر في تعميقه للانقسام بين العلمانية والتقليدية، حيث يُستخدم كأداة لتبرير الفكر الصوفي التقليدي الذي يرفض التحديث والإصلاح.

الاعتماد عليه كمرجع رئيسي يعيق التجديد الديني ويُرسخ الجمود، مما يجعل السودان أكثر تأخرًا في مواجهة التحولات الفكرية والثقافية التي تتطلب خطابًا متزنًا ومرنًا.

في رأيي، كتاب “طبقات ود ضيف الله” يُعد وثيقة اجتماعية مهمة تعكس ملامح عصره، لكنه ليس مرجعًا متزنًا يمكن الاعتماد عليه بشكل موضوعي. قيمته الحقيقية تكمن في كونه سجلًا تاريخيًا يعكس تصورات مجتمع غارق في العاطفة الدينية، لكنه يفتقر إلى الحيادية والنقد الذاتي.

الجوانب الإيجابية التي يقدمها، مثل توثيق تاريخ الأولياء ودور التصوف، لا تعوض عن تأثيره السلبي في تعزيز الخرافة والجمود الفكري.

الكتاب يجب أن يُقرأ بحذر شديد، مع فهم واضح لسياقه التاريخي والاجتماعي. لا يمكن استخدامه كمرجع لبناء هوية دينية أو ثقافية في العصر الحديث دون الانتباه إلى أوجه القصور التي يحتويها.

السودان اليوم بحاجة إلى خطاب ديني وثقافي أكثر عقلانية وتحررًا من تأثيرات الماضي، خطاب يستند إلى التفكير النقدي والتجديد، وليس إلى سجلات التبجيل والخرافة.

zoolsaay@yahoo.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الکتاب ی التی ی

إقرأ أيضاً:

مجلس الشؤون الإنسانية الدولية يُطلق مبادرة «صُناع الأثر»

أبوظبي-وام
أكد سمو الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، نائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون التنموية وأسر الشهداء، رئيس مجلس الشؤون الإنسانية الدولية، رئيس مجلس أمناء مؤسسة إرث زايد الإنساني أهمية إثراء المحتوى الإنساني بوصف ذلك مسؤولية مؤسسية ومجتمعية مشتركة تضطلع بها المؤسسات الإعلامية مع صانعي المحتوى الرقمي المتنوع في ظل اهتمام القيادة الرشيدة للدولة ودعمها الكبير لرفد المواهب العربية الشابة بالأدوات والمهارات المتقدمة في مجال السرد القصصي المرتبط بالعمل الإنساني والتنموي، وتعزيز التعاضد المجتمعي، وتسليط الضوء على الجهود الإنسانية الرائدة والمساهمات التنموية البارزة والمؤثرة إيجاباً في حياة ملايين الناس في مختلف قارات العالم، لافتاً إلى أن لدولة الإمارات مبادرات ومشروعات إنسانية عظيمة تعكس مكانتها العالمية الرائدة.
جاء ذلك بمناسبة إطلاق مجلس الشؤون الإنسانية الدولية بتوجيهات سمو الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان مبادرة «صُناع الأثر» بالتعاون مع أكاديمية الإعلام الجديد، وتشمل عدداً من البرامج التعليمية والورش التدريبية المتخصصة في الإعلام الرقمي المرتبط بمختلف المجالات الإنسانية والتنموية.
وشدَّدَ سموه على ضرورة تمكين الأفراد من إنشاء محتوى إنساني إيجابي ومؤثر يتناول مختلف القضايا الإنسانية، وزيادة الوعي المجتمعي بهذه القضايا من خلال استخدام مهارات السرد القصصي واستراتيجيات الإعلام الملائمة لدعم الجهود المؤسسية والمجتمعية ذات الأبعاد الإنسانية المتعددة، لاسيما المشروعات والمبادرات والبرامج الإنسانية المُوجهة إلى المجتمعات المُحتاجة والشعوب الأكثر تأثُّراً واحتياجاً للحصول على الخدمات الأساسية في المجالات التعليمية والصحية، كأولويات حياتية ذات أهمية قصوى في تحقيق التنمية والازدهار وضمان الأمن والاستقرار.
وتستهدف المبادرة العاملين في ميدان الصحافة من المتخصصين في الشأن الإنساني والتنموي، مثل الصحفيين وفرق التصوير وصناع المحتوى المتخصصين في الشأن الإنساني، ممن يمتلكون الشغف في صناعة المحتوى الرقمي حول المبادرات والبرامج الإنسانية والتنموية والخيرية، لتعزيز قدراتهم على فهم وكتابة وتوزيع البيانات الصحفية التي تعكس الجهود الإنسانية، وطرق السرد القصصي المختلفة، وتقنيات الترجمة الصوتية والصورية، لتناسب مختلف القوالب الصحفية والوسائل المستخدمة في النشر.
وتهدف المبادرة إلى استقطاب صّناع المحتوى الرقمي من دولة الإمارات ومختلف أنحاء الوطن العربي والدول الصديقة في مختلف أنحاء العالم، للانضمام لعدد من البرامج التدريبية المتخصصة في الإعلام الرقمي، والتي تمكنهم من اكتساب المهارات والأدوات اللازمة لإنتاج محتوى إبداعي حول المبادرات والبرامج الإنسانية والتنموية والخيرية على مستوى العالم، بالإضافة إلى استقطاب المتحدثين الرسميين ممن يمثلون المؤسسات الإنسانية المانحة في دولة الإمارات والجمعيات الخيرية لتدريبهم على استراتيجيات السمعة المؤسسية وإدارة الأزمات إعلامياً.
تجدر الإشارة إلى أن البرامج التعليمية والدورات التدريبية تعمل على تطوير مهارات المؤثرين من أصحاب المواهب المتنوعة، وتمكنهم من تقديم محتوى إنساني هادف بأساليب متطورة، يسهم في إيصال رسالة إعلامية إنسانية لقطاعات واسعة من المتابعين.
وتواصل «أكاديمية الإعلام الجديد» تقديم الدعم لصناع المحتوى والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، لتمكينهم من تقديم رسالتهم بشكل احترافي يسهم في تطوير المجتمعات ورقيها وتنميتها، ومن بين تلك البرامج مبادرة «صناع الأثر» التي ستثري محتوى صانعي المحتوى وتلبي تطلعات متابعيهم في الاستفادة مما يقدمونه.
تتضمن مبادرة «صُناع الأثر» 5 برامج تدريبية، تبدأ مع برنامج «مهارات المتحدث الرسمي والظهور الإعلامي وإدارة الأزمات إعلامياً»، وبرنامج «صحافة التأثير الإنساني»، وبرنامج «صُناع محتوى التأثير الإنساني»، بنسختيه العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى برنامج «صُناع محتوى التأثير الإنساني – بالشراكة مع مركز الشباب العربي».

مقالات مشابهة

  • أمين البحوث الإسلامية يشدد على نشر الفكر الوسطي ومواجهة الأفكار الشاذة
  • الأحد المقبل.. الثانوية العامة 2025 تبدأ أول امتحاناتها بمادة التربية الدينية
  • مجلس الشؤون الإنسانية الدولية يُطلق مبادرة «صُناع الأثر»
  • اليونيفيل على محك التجديد ومساعٍ لـملاءمة دورها بعد الحرب
  • ضرب المثل في الفداء والتضحية.. المؤسسات الدينية تنعي الشهيد خالد محمد شوقي
  • بأرقام رائعة.. السديس يؤكد نجاح خطة الشؤون الدينية في موسم الحج
  • نور ستارز تتحدث عن عملية التكميم: لم يُشرح لي الأثر الكامل .. فيديو
  • الشؤون الدينية بالحرمين: موسم الحج هذا العام استثنائي لم يحدث منذ 40 عاما
  • فضل الله: الدولة قادرة على حشد عناصر القوة التي تملكها لمواجهة الاعتداءات
  • فاغنر تنهي دورها في مالي ومجموعاتها تندمج ضمن "فيلق إفريقيا"