عربي21:
2025-07-30@14:09:24 GMT

هكذا تكلم رسول عن شريعتي

تاريخ النشر: 3rd, January 2025 GMT

ينتمي مؤلف كتاب "هكذا تكلم علي شريعتي" -الذي صدرت طبعته المزيدة المنقَّحة كُليّا عن تنوير للنشر والإعلام- إلى أسرة علمائيَّة من الأسر التقليدية العديدة، التي أرسَلَت أبنائها إلى التعليم الجامعي في الحواضِر الكبرى؛ فهُزِموا أمام أيديولوجيات عصرهم، وتشرَّبوها. وقد كانت الماركسية أشهر هذه الأيديولوجيات عَقِب الحرب العالمية الثانية، وأكثرها تفشيا بين أبناء المسلمين، باختلاف طبقاتهم.

ومن ثم، كانت الحركة الإسلامية في إيران، وانتصار ثورتها؛ هزَّة خطيرة بدأ بها تكاثُف ظاهرة اليسار المتحول إلى الإسلام، التي كان مؤلفنا الكُردي العراقي السُّني أحد أبرز وجوهها آنذاك.

ورغم أن ظاهرة التحول قد بدأت -في أنحاء متفرقة- قبل الثورة بعقدين تقريبا، فإن الموجة المتزامِنَة مع انتصار الثورة في إيران، وتلك التالية عليها مباشرة؛ كانت أشد خطورة بكثير. فإذا كانت الموجات المبكرة تعبيرا عن إرهاصٍ فكريٍّ-حركيٍّ بصير، بفشل التحديث المعادي للدين عموما، ومحاولة للحفر في أعماق الثقافة الإسلامية بحثا عن حلول جادَّة للأزمة؛ فإن الموجات المتأخرة كانت مُجرَّد ردود فعل سياسيَّة على فشل أيديولوجي وواقعي، وشتَّان بين المآلات. فقد عبَّرت الموجة الأولى عمَّا يُشبه "الانتصار" الثقافي الجُزئي للمتحولين، على أنفسهم وعلى أيديولوجياتهم وعلى واقعهم المنتفج بالكذب، في حين عبَّرت الموجات المتأخرة عن هزيمة كاملة للمتحولين أمام واقعهم المتردي، وأمام نفوسهم الحائرة المشوَّشة؛ التي سَعَت للتوفيق بين واقع مُتردي وأيديولوجيات مهزومة من جهة، والإسلام العائد إلى التاريخ بقوة من الجهة الأخرى.

لقد كان إخفاق "الجماعة العلمية" في التعامُل مع التحديث، وتحصين أبناء المسلمين من التشوهات الناجمة عنه؛ بابا للتسمُّم بالأيديولوجيات الحديثة، وذلك كما كان بابا للارتداد عنها بغير تبَصُّر، أو وعي بما يحمله "المتحول" من جراثيم إذ عاد، وأثر عودته المهزومة المأزومة على استقباله للإسلام، ثم إعادة طرحه له من جديد، كأنه أيديولوجية دنيويَّة أو نظام فكري وضعي!

وإذا كان فشل "العلماء" الأوَّل قد يُعزَى إلى استيعابهم النسبي داخل الإطار التحديثي مع تمام جهلهم بذلك، فإن الفشل الثاني كان كذلك استمرارا للأول، وتعبيرا فجّا عن اكتمال هذا الاستيعاب، وعجز هؤلاء "العلماء" التام عن تجاوز الإطار التحديثي، حتى ولو على المستوى النظري أو الاصطلاحي، إذ صاروا جُزءا لا يتجزَّأ منه؛ ليقبل أكثرهم لغو أسلمة الاشتراكية والقومية والديمقراطية، وما بعدهم من أيديولوجيات(1).

وقد جعل هذا الجو المشوَّه من المستحيل تمييز موجات العائدين إلى الإسلام، والنظر المتأني فيما حملوه معهم؛ فشاعَت بالتالي الغفلة التامة عن مآل هذه التحولات، التي حسبها أكثر المشتَغلين بالفكر والحركة انتصارا للإسلام على الماركسية، رغم أنها كانت دسّا جاهلا للقوالب والأنماط الفكرية الدخيلة ومصطلحاتها في المجال الفكري الإسلامي، ناهيك عن بعض "مقولاتها"، التي لم تُستَدْخَل إجرائيّا لمواجهة غيرها مثلا، وإنما أُريد منها المقارَنَة المهزومة مع "تقدُّمية" الإسلام "دفاعا عنه"، ثم دمجها بنيويّا لتفكيك الإسلام، حتى يُختَزَل إلى أيديولوجية دنيوية! وهذا هو عصب ما فعله "السياسي" في مؤلفنا فاضل رسول بقدرٍ من الوعي البراغماتي، ويفعله علي شريعتي المفكر مُضطرا -في اللاوعي- بعد إذ استوعَبَهُ النسق الماركسي إلى حدٍّ كبير. وقد أفضنا في بيان الإشكالات الكارثية التي تمخَّض عنها عموم هذا التحول اليساري في موطن آخر، ومن شاء الرجوع إليه(2)؛ فإنما يعنينا هاهُنا حالَتا شريعتي ورسول تحديدا، وتعاطيهما مع بعض الأدوات الماركسية.

وربما كانت أهم العناصر الكاشفة عن الفارِق الذي ميَّزناه عند الرجلين هو أثر مفهوم "الديالكتيك" عليهما، وموقفهما منه، وصياغته فيما يطرحان. فقد فكَّك شريعتي المفهوم الماركسي، وحوَّله إلى جدل ثوري حقيقي؛ أضْرَم به الثورة في إيران. ومن ثم؛ فهو يتجلَّى في مواطن شتَّى بوصفه مُفكرا أصيلا، يجتهدُ لإعادة تركيب المفهوم تركيبا يوظِّفهُ في نسقٍ واضحٍ -في ذهنه وفي حركته- فقد صار الديالكتيك في يده أداة نقديَّة لنقض الواقع المتردي وتفكيكه، ومحاولة استعادة التقاليد التي سبَقَت هذا الواقع، وهو ما يتجلَّى في مشروعه على طول الخط، خصوصا في نهجه للتعرُّف على الإسلام، والتمييز بين أنواع التشيُّع والتسنُّن -بوصفهما "الولاء الأوَّلي"- ثم التمييز بين الأدوات الحركية التاريخية، ابتداء بإعادة تعريف التوحيد بوصفه رؤية للكون، وإعادة تمييز "الذات" التي يجب العودة إليها وتحرير وجودها، وتعريف المثقَّف ودوره، وإعادة تأويل الشهادة في سبيل الله؛ كل ذلك في ضوء فلسفة واضحة للتاريخ وحركته، والاجتماع وآلياته -أيّا كان رأينا فيها- لكنها ليست فلسفة نظريَّة، وإنما فلسفة حركيَّة تعمل عمل البوصلة؛ فتُعيِّن الوجهة التي يتَّجهُ إليها التاريخ والاجتماع. وبذلك، وظَّف شريعتي الأدوات الماركسيَّة لبناء نسق صراعي "إسلامي"، يواجه به الماركسية وسائر الأيديولوجيات الغربيَّة.

أما فاضل رسول؛ فيتجلَّى لنا شدَّة انشغاله وجيله بمفهوم "الحوار"، كما يظهر في كتاباته القليلة -وعلى رأسها هذا الكتاب- وفي شهادات المقرَّبين؛ إذ كان الحوار الهادئ بين رؤوس الأطياف الأيديولوجية، للتلاقي في مساحة موهومة؛ هو "الهدف الأسمى" الذي كرَّس له دوريتين: "الحوار"، و"منبر الحوار"، بل وحَدَا كُلَّ نشاطاته، التي يَعتَبِرُ جيله أن أهمها -بإطلاق!- هو تدشينه للحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في القاهرة! فقد شذَّب فاضل رسول الديالكتيك، وجعل منه أداة لكلام التفافي لا فائدة من ورائه، وفعل دائري لا ثمرة له ولا نفع، ودع عنك أن يُضرِم ثورة، أو يقتلع واقعا بائسا من جذوره! وهو حكم لا تُمليه المآلات التي تتجلَّى لنا اليوم، وإنما يكشفه ابتداء تخنُّث النسق الفكري وخطابه الذي عبَّر عنه هذا الجيل المهزوم مُذ ذاك، وكان طبيعيّا أن يُفضي إلى تحالُفات مع "الرجعيَّة العربية"، ويُثمر لاحقا مؤسسات "معرفية" للصد المنهجي عن سبيل الله؛ أمثال: "المعهد العالمي للفكر الإسلامي".

وبعبارةٍ أخرى، ففي حين وَظَّف شريعتي الديالكتيك مُحاولا الخروج من الأزمة بأداة نقديَّة حديثة، فإن فاضل قد أذعَنَ لمبدأ "الحوار"، واعتبرهُ مفتاح الخلاص من كل الشرور، بل كان الأخطر من ذلك أنه اعتبر هذا "الديالكتيك" المُدجَّن أداة لبلوغ "الحق"، في تَجلٍّ شنيعٍ لهيمنة الروح النظريَّة للماديَّة الجدليَّة عليه هيمنة كاملة، ربما بغير أن يدري!

لقد شُغِلَ شريعتي بجدل فكريٍّ حقيقي مع المعتقدات والأفكار وآثارها في الواقع، وهي مهمة طبيعية ومتوقَّعة لأيِّ مفكرٍ مُجدد، لأن الحركيَّة التي يخلقها هذا التعاطي المجرَّد مع الأفكار، تولِّدُ حركة اجتماعية تنبثقُ من فيض التساؤلات المعرفيَّة التي يُعاد صياغتها وتُفتح للإجابة عليها أبواب معرفيَّة جديدة، ومساحات حركية جديدة. أما رسول، فقد انكفأ على محاولة التوفيق بين أفراد شتَّى من أصحاب خلفيَّات أيديولوجية مُتباينة، على خلفيَّة "إعادة طرحٍ" للتعدُّدية الإثنية والدينية التي تعايَشَ معها المشرق الإسلامي فطريّا منذ أقدم عصوره. وهي محاولة يتجلَّى فيها حُسن النيَّة، بقدر ما تتجلَّى فيها سذاجة الرؤية وسطحيتها، وهيمنة المكون السياسي الآني، والرغبة الشبقيَّة في صناعة "توافُق" فكري مُلفَّق ومستحيل بين الأيديولوجيات المختلفة. صحيح أن طبيعة هذا "الحوار" انبثَقَت بالأصل من "رغبة سياسية" إجرائية، بيد أن الحوار نفسه كان يعود دوما إلى الأفكار والثوابت الأيديولوجية، سعيا إلى تفكيكها؛ للوصول إلى "مُعتقدات وسيطة"، ولم يكن حوارا مُثمرا حول المواقف والخيارات السياسية؛ إذ كانت كل الأطراف التي جمعها -هو أو غيره!- هامشيَّة لا أثر لها في الفعل السياسي السلطوي، ولا حتى في الفعل السياسي الذي يُرجى توليده لاحقا بتزايُد حركية البيئة الاجتماعية، في مسعاها للإجابة عن تساؤلاتها المؤرِّقة! لهذا، أثمرَ هذا "الحوار" زيادة في تخنُّث أنساق المتحاورين الفكرية، وزاد في انبطاحهم السياسي زيادة واضحة؛ إذ أسهم في تفكيك البقية الباقية من تماسُك رؤاهم، وتركهم بعد ذلك وَهُم ليسوا على شيء!

وربما تَجدُر الإشارة هنا إلى أن أيديولوجية فاضل رسول الماركسيَّة كانت ماويَّة، وهو نسقٌ أشد مرونة -من غيره- في إعادة بناء التصورات الماركسية بناء محليّا، احتذاء لماوتسي تونغ نفسه؛ إذ أعاد بناء الماركسية بما "يُناسب" سياق المجتمع الزراعي الصيني. وهذا ما جعل رسول قادرا على سيولة تجمع المؤثرات الإسلامية مع المؤثرات الماركسية، جمعا تلفيقيّا إجرائيّا لا نُضج فيه ولا رؤية، ومن ثم؛ فلا مجال لمقارنة نشاطه الفكري التلفيقي بالجهد العميق والناضج لشريعتي رحمهما الله.

بيد أنه مما يَشتَرِك فيه شريعتي ورسول من "مآثر" النسق الماركسي؛ هو ما يُمكننا تسميته بـ"النزوع الأممي"، وهو مؤشرٌ حركيٌّ خطير يعني أن النسق الفكري يسعى إلى توليد حركة تتجاوَز الإطار القُطري البغيض للدولة القومية الحديثة، وهذا ما كان النظام العالمي الكُفري يَرقُبه عن كثب، ولا يُمكن أن يقبَلَ به أبدا؛ لأنه تَعدٍّ واضح على قواعده الأساسيَّة، خصوصا إذا كانت هذه الحركة لن تُحبَس في الإطار الماركسي الدولتي -المترسِّخ آنذاك- بل أُهِّلَت لتجاوزه يوما إلى محاولة بناء أممية "إسلامية"، تتجاوز النظام العالمي المتسلِّط بالشرك. وقد أودى هذا النزوع بحياة كثيرين ممن حاولوا تجاوز إطار الدولة القومية الحديثة، إبَّان فترة الغليان المؤدية إلى الثورة الإسلامية، والتالية عليها مباشرة؛ منهم علي شريعتي، الذي لقي ربه في ظروف غامضة (1977م)، ثم كان فيه حتف فاضل رسول، الذي اغتيل غدرا (1989م).

وإذا كان من الطبيعي والمتوقَّع، أن يسعى كل مفكر إلى إعادة تأويل نتاج من تأثَّر بهم، ودمج هذه الآثار في نسقه دمجا كاملا قبل طرحها، فإن افتقار فاضل رسول إلى هذه المقدرة التفكيكية-التركيبية لم يمنعه من المحاولة. ومن هذه المحاولات مثلا تصوره أن علي شريعتي "كان حريصا على ألا يُفهَمَ بوصفه معاديا للماركسية أو الاشتراكية؛ فقد ظلَّ الماركسيون من محاوريه، وظلَّ ينظر إلى الصراع ويتناوله في المستوى الأيديولوجي، ويرى إمكانيات التعاون بين الإسلاميين والاشتراكيين في الكفاح العملي ضد الرجعية والاستعمار"، بل وأنه "كان يفهم العلاقة بين العصبيات والانتماءات المختلفة (قومية، دينية.. إلخ) على أنها علاقة انسجام، ودوائر يلتف بعضها حول بعض، لا بوصفها نقائض لبعضها البعض". بيد أن قارئ شريعتي الخبير، والمُتابع المتفحِّص لحركة رسول؛ يُدرِكُ جيدا أن هذين العنصرين المركزيين تحديدا هُما تأويل فاضل نفسه لنصوص شريعتي، متأثرا بما كان المتأوِّلُ يُريد إنجازه في الواقع! وربما لهذا السبب تحديدا، عمدنا -في هذه الطبعة الجديدة- إلى الفصل الكامل بين تأويل فاضل رسول لنصوص شريعتي، وبين النصوص المطوَّلَة التي يورِدها له، خصوصا حين أخفق مسعانا في تخريج أكثر الاستشهادات القصيرة التي يتناولها فاضل في تأويله للأفكار، ولا يُحيل على مصادرها.

هذا التشرُّب الكامل للمؤثرات الماركسية، الذي يحدو فاضل رسول طوال الكتاب؛ لم ينضح فحسب في قراءته لتاريخ إيران الحديث، وإنما صبغ قراءته لتاريخها قبل الحديث، مثله في ذلك مثل أكثر الحداثيين المؤدلجين من جيله. فهو يبني سرديَّة شديدة الاختزال لتاريخ إيران قبل الحداثة، سرديَّة تجاوَزَتها دراسات الحداثيين الرصينة، كما تجاوزت الغشاوة الحداثيَّة والوجدان الماركسي في تفسير الأحداث وتسمية الظواهر.

* * *

ورغم كل ما سبق، يظل هذا الكتاب أفضل المقدمات العربيَّة عن علي شريعتي بإطلاق، بمزجه بين شطر يسيرٍ من سيرته، وبعض كتاباته المركزية. بل يظلُّ عملا كلاسيكيّا لا تنقضي أهميته للثقافة الإسلامية، خصوصا للكتلة السكانية العربية التي لا تعرف الفارسية. فهو نصٌّ تأسيسي، شديد الأهميَّة للقارئ العربي الذي يتعرَّف إلى شريعتي للمرة الأولى. كذلك، فربما كان مكمن الأهميَّة المتجددة لمثل هذا النوع من النصوص، أنها تظل دوما مصادر ضروريَّة يلجأ إليها الباحث في المجالات ذات الصلة، وذلك بوصفها مُقدِّمات ضرورية للراغبين في "عرضٍ مسحيٍّ" سريع، بغير حيازة الخلفيَّة الملائمة. وليس ذلك لأن مثل هذه النصوص صالحة في ذاتها صلاحيَّة استثنائيَّة لهذا الدور، وإنما لقلَّة المتوفِّر في المكتبة العربية من مُقدمات في هذا الباب عينه.
____________
(1) للاطلاع على دراسة موسَّعة عن تعاطي المسلمين مع الموجة الأيديولوجية الغربية الأولى؛ راجع: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، الفصل الرابع.
(2) المزيد من التفاصيل؛ يُراجع مقالنا المعنوَن: "جناية اليسار المتحول إلى الإسلام".


x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه إيران فكري إيران اسلام فكر مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة التی ی ما کان

إقرأ أيضاً:

أول طائرة ركاب نفاثة في العالم تستعيد مجدها.. فهل كانت آمنة؟

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- اليوم، أصبح من السهل بالنسبة إلينا أن نسافر بالطائرات النفاثة كأمر مسلّم به، إذ اعتدنا على ذلك الاندفاع السريع على المدرج الذي يُثبتنا في مقاعدنا، وتلك اللحظات التي نشقّ فيها الغيوم الكثيفة المهيبة نحو سماء زرقاء صافية. واعتدنا كذلك على الوصول إلى وجهتنا بسلام.

لكن السفر التجاري بالطائرات النفاثة لا يتجاوز عمره 73 عاماً فقط. 

وكانت الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا الراحلة، قد اعتلت العرش بالفعل عندما أقلعت طائرة "دي هافيلاند DH106 1A كومت G-ALYP" من مطار لندن، المعروف اليوم بهيثرو، حوالي الساعة الثالثة مساءً، في الثاني من مايو/ آيار العام 1952، حاملةً أول ركاب يدفعون مقابل السفر على متن طائرة نفاثة بالعالم. 

وعلى مدى 23 ساعة، مع خمس محطات توقّف على طول المسار، قطعت الطائرة مسافة حوالي ١١٬٢٦٥ كيلومترًا جنوباً إلى جوهانسبرغ.

ومثّلت تلك الرحلة نقلة نوعية لجهة الراحة والسرعة، حتى بالمقارنة مع طائرات المراوح المتطورة في ذلك العصر، مثل لوكهيد كونستليشن. واختفت الاهتزازات المستمرة، والضجيج الصوتي الصادر عن محركات المكبس. ودخل العالم فجأةً، وبشكل لا رجعة فيه، عصر الطائرات النفاثة.

بداية عصر الطائرات النفاثة

وكانت أول شركة مصنعة للطائرات النفاثة تحجز مقعدا لها في السماء، متقدمة على منافسيها من الولايات المتحدة مثل "بوينغ".. وهي شركة الطيران البريطانية "دي هافيلاند". لكن ذلك التفوق لم يدم طويلاً، إذ لم تحظَ الطائرة الأصلية "كومت DH106" سوى بفترة وجيزة من المجد قبل أن تؤدي سلسلة من الكوارث إلى سحب أسطولها بالكامل من الخدمة، ثم إخضاع طائراته لاختبارات حتى التدمير أو تركها كي تتآكل.

بعد أجيال لاحقة، كانت الطريقة الوحيدة لتجربة ما كان عليه الأمر على متن تلك الطائرات الأولى من طراز "كومت" تتمثّل بمشاهدة لقطات الأفلام بالأبيض والأسود، أو صور الدعاية الملوّنة التي تُظهر عائلات مبتسمة جالسة على متن طائرات "DH106 1A".

أو على الأقل، حتى وقتٍ قريب، كانت تلك الصور كل ما لدينا. أما الآن، فقد قام فريق من المتحمسين بإعادة تجميع إحدى تلك الطائرات النفاثة الرائدة بعناية فائقة، وكانت النتيجة مثيرة للغاية.

"منظر جميل" تضمنت قمرة القيادة جدولًا للملّاح، الذي يقوم بحساب الموقع يدويًا استنادًا إلى السرعة والاتجاه.Credit: Barry Neild/CNN

ويقع متحف "دي هافيلاند" للطائرات ضمن أكثر المستودعات غموضًا في العالم لكل ما يتعلق بقطع الطيران الأثرية، إذ يقع في حزام من الأراضي الزراعية والمساحات الخضراء شمال غرب لندن، بالقرب من الطريق السريع "M25" المزدحم دومًا الذي يحيط بالعاصمة البريطانية، ومن السهل تفويته. 

هناك لافتات إرشادية، لكنها تشير إلى ممر ضيق بين الأسوار النباتية يبدو وكأنه يؤدي إلى فناء مزرعة أو طريق مسدود.

يضم متحف دي هافيلاند للطائرات أيضًا النموذج الأولي الوحيد للطائرة "موسكيتو" التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية والتي لا تزال موجودةCredit: Barry Neild/CNN

وفي الواقع، عند القيادة عبره، يكون أول منظر بارز قصر قديم وضخم، قاعة Salisbury، الذي بُني في القرن السادس عشر وكان يومًا ما منزلًا لوالدة ونستون تشرشل الذي عادةً ما يشرف على نوع من المزارع. 

وبعد أخذ منعطف، يكشف المتحف عن ذاته، أي حقل مليء بهياكل طائرات قديمة وسلسلة من الحظائر التي توحي بوجود المزيد من الكنوز بداخلها.

ويعد الموقع بحد ذاته جزءًا من تاريخ الطيران. فخلال الحرب العالمية الثانية، بدأت شركة محلية لتصنيع الطائرات، أسسها رائد الطيران البريطاني جيفري دي هافيلاند، العمل على تصنيع واختبار طائرة DH98 موسكيتو، وهي طائرة قتالية فريدة ذات إطار خشبي تشتهر بسرعتها. 

وبعد الحرب، في أواخر خمسينيات القرن الماضي، استغلّ أحد رواد الأعمال المحليين إرث الموقع لافتتاح أول متحف طيران في بريطانيا.

تبدو عناصر التحكم معقدة ولكنها كانت مألوفة للطيارين في ذلك اليوم، والذين كان لدى العديد منهم خلفيات في الطيران العسكري، حيث كانوا يحلقون خلال الحرب العالمية الثانية.Credit: Barry Neild/CNN

وهناك طائرة "موسكيتو" صفراء زاهية، وهي النموذج الأولي الوحيد السليم من الحرب العالمية الثانية، وفقًا لموظفي المتحف، وهي من مقتنيات المعروضات المميزة في متحف دي هافيلاند الحديث، وقد رُممت الطائرة بشكل رائع، حيث تتدلى أبواب مخزن القنابل مفتوحة على مصراعيها بينما تمتد مراوحها الكبيرة المثبتة على محركات رولز-رويس ميرلين إلى الأمام.

وتُعرض أيضًا أساطير جوية أخرى من إنتاج "دي هافيلاند"، سواء كانت مدنية أو عسكرية. ففي زاوية حظيرة طائرات  "موسكيتو"، يوجد هيكل طائرة شراعية من طراز "هورسا"، وهي طائرة نقل غير مزودة بمحركات من الحرب العالمية الثانية، كانت تُسحب في الهواء وتُستخدم لنقل الجنود والأسلحة خلف خطوط العدو.

وفي الحظيرة المجاورة، حيث يمكن العثور على متطوعين شغوفين، يفوق عددهم في بعض أيام منتصف الأسبوع عدد الزوار، منهمكين في مشاريع الترميم، نقع على طائرة DH100 Vampire، وهي مقاتلة ذات مقعد واحد تعتبر أول طائرة نفاثة لشركة "دي هافيلاند". هذه الطائرة ذات الشكل الغريب، بذيلها المزدوج، تم تصميمها أيضًا في قاعة "Salisbury". 

لكن العنصر الأبرز بلا منازع في أكبر قاعة عرض بالمتحف، يتمثّل بطائرة "دي هافيلاند DH106 1A كومت". وبالنسبة لعشاق طائرات الركاب النفاثة وتطوّرها إلى معجزات هندسية معقدة تجوب الأجواء الودودة اليوم، يعد هذا المكان جديرا بالزيارة.

ورغم أن أجنحتها مفقودة، إلا أن هيكل "كومت" المزدان بطلاء شركة "إير فرانس" التاريخي، وسقفها الأبيض اللامع، وشعار فرس البحر المجنح، وعلم فرنسا ثلاثي الألوان، يجعلها تخطف الأنظار.

لم تكن هذه هي الحال دومًا بالنسبة لهذه الطائرة بالذات. 

ويوضح إيدي والش، متطوّع في المتحف يرأس مشروع ترميم وحفظ "DH106"، أنه عندما استلمها المتحف في العام 1985، كانت عبارة عن أنبوب معدني عارٍ تقريبًا، أي بقايا هيكل الطائرة. 

ويضيف: "كانت تبدو محزنة، لقد تم استبدال كل جزء منها تقريبًا، لذا كانت الطبقة الخارجية الأصلية في الواقع بحالة سيئة جدًا".

تم إعادة إنشاء التصميم الداخلي لأول طائرة ركاب نفاثة في العالم في متحف دي هافيلاند للطائرات بالقرب من لندن.Credit: Barry Neild/CNN

وبعناء شديد، بدأ المتطوعون ببطء في ترميمها لتعود إلى مجدها الجوي السابق، واليوم تقف الطائرة تقريبًا كما كانت قبل نحو ثلاثة أرباع القرن، باستثناء تلك الأجنحة.

وكانت أجنحة "كومت" تتمتع بتصميم يستحق الإعجاب. فبخلاف معظم الطائرات التجارية اللاحقة، كانت محركات الطائرة، وهي أربعة محركات نفاثة مدمجة بشكل أنيق داخل الجناح ذاته بدلاً من أن تكون في حاضنات ملتصقة تحته.

وقبل أن تصبح مرادفًا للخطر، كانت الكومت بمثابة عرض لإمكانيات السفر الفخمة. وفي الجزء الخلفي من الطائرة، يصعد سلم إلى مؤخرة الطائرة. ويعد عبور الباب بمثابة رحلة تعيدك مباشرة إلى تاريخ الطيران التجاري. وقد تم إعادة إنشاء التصميم الداخلي للطائرة بعناية فائقة من قبل فريق والش، بأدق تفاصيله.

مثلت طائرة DH106 ثورة في مجال النقل الجوي، حيث كانت أكثر سلاسة وأقل ضوضاء من الطائرات المروحية التي سبقتها.Credit: Barry Neild/CNN

في المقصورة الرئيسية، تم إعادة إنشاء نصف الطائرة وفق تصميمها الأصلي، مع صفوف مريحة من المقاعد المزدوجة المغطاة بقماش أزرق مزخرف يتماشى مع نقش الستائر الحمراء. كل مقعد مزود بمساحة واسعة للأرجل، وحاملات أكواب، ولأنها بُنيت في الخمسينات، فهي مزودة بمنافض سجائر للمدخنين الذين كانوا سيجعلون الرحلات الجوية "كابوسًا مُريعًا"، بحسب والش.

دخلت أول طائرة دي هافيلاند كومت (DH106 Comet 1A) الخدمة التجارية في مايو/ آيار عام 1952، وربطت بين لندن وجوهانسبرغ. Credit: Central Press/Hulton Archive/Getty Images

وتطل المقاعد على نوافذ كبيرة مستطيلة الشكل، وهي السمة المميزة لأول طائرات "كومت" على الإطلاق، التي أُلقِي اللوم عليها خطأً أحيانًا في فشل هيكلي للطائرة، قبل أن تستبدل بفتحات أكثر استدارة في الطرازات اللاحقة.

قد تكون الكومت قد اختفت من السماء، لكن الإرث الذي تركته خلفها لا يزال يمكن رؤيته في الطائرات التي نطير بها اليوم. وقد ساهمت الابتكارات التي أُدخلت على الطراز "1A"، والأخطاء القاتلة التي رافقته، في تشكيل الطائرات التي جاءت بعدها وجعلتها أكثر أمانًا.

المملكة المتحدةالطيرانحاملة طائراتلندنمتاحفمعارضنشر الأربعاء، 30 يوليو / تموز 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

مقالات مشابهة

  • أول طائرة ركاب نفاثة في العالم تستعيد مجدها.. فهل كانت آمنة؟
  • وزير الداخلية العراقي يعلن تفكيك شبكة دولية للاتجار بالمخدرات كانت تنشط بسوريا
  • إليك 10 من أفضل المدن للزيارة في الـ2025 إن كانت أمريكا وجهتك
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • هل يجوز قضاء السنن الرواتب لمن فاتته؟.. الإفتاء تجيب
  • علي جمعة: الخطأ من شيم النفس البشرية وعلى المسلم أن يتوب ويتسامح مع نفسه والآخرين
  • فضيحة مدوية.. شاهد ما الذي كانت تحمله شاحنات المساعدات الإماراتية التي دخلت غزة (فيديو+تفاصيل)
  • «في سن الـ17».. هدى المفتي: تجربتي الأولي في الحب كانت مؤلمة
  • أصالة كامل عن تجربة الولادة: كانت مريحة.. فيديو
  • شاهد.. الفيديو الأكثر تداولاً على مواقع التواصل السودانية والعربية.. طفل سوداني يبكي ويذرف الدموع أمام الروضة الشريفة شوقاً لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم (أنا اشتقت ليهو)