د. عبدالله الغذامي يكتب: عودة الشفاهية
تاريخ النشر: 4th, January 2025 GMT
كان أول انحسار للشفاهية كقيمةٍ مركزية في الثقافة هو بروز الكتابة لتحل محل الشفاهية، وفي ذلك التحول جرت إزاحة الشفاهي من السيطرة على الفعل الثقافي، وتراجعت الرواية ليحل التدوين محلها، وانتشر المدونون عربياً في البصرة والكوفة وفي بغداد، وتحول سوق المربد في البصرة إلى ما يشبه السوبر ماركت الثقافي، حيث يجري جلب الموروثات التراثية من أشعار ٍ وقصص وحكايات، ويتم فوراً اقتناصها من المدونين الذين يحولون الشفاهي إلى مكتوب، وظهرت ظاهرة الكتب، وتليها أسماء من المدونين من الأصمعي والمفضل الضَّبِّي وابن سلام الجمحي وغيرهم ممن مهروا في هذه المهمة، وانقلبت الحال مع الزمن لتكون ضد الشفاهية، وتحول من لا يقرأ ولا يكتب إلى هوامش الثقافة وهيمن عليها الكتبة والقراء، وظلت الحال على وضعية التهميش للأميين الذين أصبحوا مثل الأطرش في الزفة، حسب المثل الشعبي الذي يصف حال كل أمي وأميّة في البيئة الاجتماعية، جرى تمييز من يقرأ بوصفه من العارفين وغيره من العوام، إلى أن جاء المذياع فمنح نوعاً من الثقافة السمعية التي تقوم مقام الكتاب المقروء، ونتج عن هذا انتشار الوعي الثقافي، وتساوى العامي مع المتعلم في تلقي غرائب الأخبار عبر السماع الحي والمباشر للحدث أين كان الحدث، وتقارب العالم مع بعضه حتى ليسمع الناس مذيعين ومذيعات من لندن وواشنطن لدرجة سماع تنفس المذيع والمذيعة وبحة الصوت، وربما تبدر منه حال سعال مفاجئ وستكون السعلة طرفةً وحالة دهشةٍ بأن يسعل المذيع في لندن وتسمعه في قرية في أقصى الأرض، وهذه حال ثقافية تجذب التأمل عن هذه الأمواج الصوتية التي تخترق المسافات وتقرب الأذهان للأذهان والأفكار للأفكار، وتكسرت الطبقية الثقافة، حيث وحّد الصوت كل المستويات البشرية في حال سماع واستقبال موحد لا يفرق بين وبين.
وهذه أول حالة انتعاشٍ حديثة للشفاهي، حيث استعاد اللسان والسمع دورهما الثقافي الذي احتكرته الثقافة الكتابية، وعبره ظهرت الثقافات بكل خطاباتها مثل ثقافة البادية عبر برامج تهتم بالشعر النبطي الشفاهي أصلًا وروايةً، ومثل الأغاني الشعبية والأناشيد والعرضات، مع نشاط لافت لبث قراءات القرآن الكريم بأصوات تتعدد بتعدد المقرئين، وقد كانت تلك ثورةً ثقافيةً أدت دوراً عظيماً في نشر المعرفة وفي تطوير الأذواق وكسر الحواجز بين الثقافات. ولم يخل الأمر من طرائف، منها ما رواها ماركيز عن جدته أنها كانت تعتقد أن الذي يتحدث في الراديو هو الشيطان يتقمص صوت البشر لكي يسحر عقولهم، وهذه قصة تتكرر في كل الثقافات التقليدية، وإن بصيغ مختلفة عن صيغة جدة ماركيز، وهذا يكشف درجة الدهشة التي كان المذياع يحدثها في أذهان البسطاء حينذاك، ومنها طرفة تروى عندنا أن رجلاً سمع في مذياعه صوت العرضة فأغلق المذياع وهب للشارع ليستدعي صحبه وجيرانه لسماع العرضة عنده في البيت، وطال به الوقت في تجميع صحبه وحين تجمعوا حول المذياع لم يجدوا عرضةً، ولكن سمعوا صوت المذيع في حديث عام، وحينها اتجه الرجل لزوجته متهماً إياها بأنها فتحت المذياع بعد خروجه من البيت مما أنهى العرضة، وكان يظن أنه مجرد إغلاق المذياع ستبقى العرضة صامتةً لحين فتح الجهاز مرةً ثانيةً. وهي قصص تحيل للدور الذي فعله المذياع في حياة الناس في زمن ثقافي سنسميه بزمن المذياع.
وفي زمننا هذا، زمن الصورة، أصبح للشفاهية دور من حيث إن الصورة لا تحتاج لوسيط من الكتابة وجاءت عبارة (الصورة عن ألف كلمة). وهذا عزز دور السماع ودور الاستقبال الواسع، وتساوى الأمي مع غيره في القدرة على الاستقبال العام والتثقف عبر العين المجردة والأذن.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي
إقرأ أيضاً:
الملتقى الثقافي العائلي في مشتى الحلو بطرطوس يطلق مبادرة تعليمية مجانية
طرطوس-سانا
لتعويض الفاقد التعليمي للطلاب المقبلين على شهادة التعليم الأساسي والشهادة الثانوية، أطلق الملتقى الثقافي العائلي في مشتى الحلو بطرطوس مبادرة تعليمية مجانية، تستهدف طلاباً من صفي الثاني الإعدادي والثاني الثانوي، وذلك بعد انتهاء امتحانات الفصل الدراسي الثاني لهذا العام.
مدرسة اللغة الإنكليزية والمتطوعة بالملتقى رانيا عنتر أوضحت لـ سانا، أنه نتيجةً للظروف التي مرت بها البلاد، وكثرة العطل المدرسية، تشكل لدينا خوف على الطلبة، وخصوصاً في المواد التي ترتبط ببعضها في كل السنوات كاللغة الإنكليزية واللغة العربية والرياضيات.
وتابعت عنتر: “إن المبادرة أطلقت لصفي الثاني الإعدادي والثاني الثانوي، كونهما أساساً لما يأتي بعدهما من الشهادتين، وليتمكن الطالب من البدء بالسنة الدراسية وهو ملمّ بجميع القواعد والمعلومات المهمة”.
ولفتت عنتر إلى أن جميع المدرسين رحبوا بالمبادرة، وكانوا متعاونين جداً، حيث قدموا كل خدماتهم وجهودهم بشكل مجاني، بهدف دعم الطلاب نفسياً والتخفيف من ضغط الدراسة عليهم.
من جهتها، بينت مدرسة اللغة العربية كاتيا عبد النور أهمية المبادرات التي يطلقها الملتقى، لترميم ما يحتاج الطالب في أعوامه الدراسية قبل الشهادة، لتكون جسر عبور لسنته الجديدة بكل ثقة وعزيمة.
ولفتت عبد النور إلى أن الشق الاجتماعي الذي تحمله المبادرة يكمن في احتضان الطلاب المهتمين ولا يسمح وضعهم المادي التسجيل في دورات أو معاهد خاصة، لتوقظ في اذهانهم أهمية فكرة العلم والدراسة وعدم الانقطاع عنها مهما كانت الظروف.
تابعوا أخبار سانا على