ماذا يريد ترامب أن يفعل بالعالم؟
تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT
تقرير لافت لصحيفة "تليغراف" البريطانية توضح خلاله عبر كتابها وخبرائها ما هي مخططات ترامب لفترة ولايته الجديدة وما الذي سيفعله بالعالم.
يتولى الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب منصبه في وقت حساس للعلاقات الدولية، حيث يرى البعض أن العالم لم يكن أبدًا بهذا المستوى من الهشاشة. وفي هذا التقرير، توقعات من الخبراء عن كيف سيترك بصمته على الساحة العالمية.
Donald Trump will be sworn in as US president, ushering in another turbulent four-year term with promises to push the limits of executive power, deport millions of immigrants and transform the role of the US on the world stage https://t.co/xIbLq0NOqW
— Reuters (@Reuters) January 20, 2025 بريطانيايرى المحلل السياسي بن رايلي سميث، أن الديناميكيات الشخصية بين ترامب وكير ستارمر ستكون مفتاح العلاقة. إذ يروج ترامب في السنوات الأخيرة إلا لعدد قليل من السياسات المتعلقة ببريطانيا، مثل دعمه الفطري لبريكسيت، والعلاقة الأمريكية-البريطانية، والعائلة المالكة.
وأهم التأثيرات المحتملة لولاية ترامب الثانية على المملكة المتحدة قد تكون نتيجة دفعه نحو فرض تعريفات جديدة، واتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه الصين، أو الوصول إلى اتفاق سلام في أوكرانيا.
من جهته، سير كير ستارمر، على الأرجح، سيعلن عن زيادة الإنفاق الدفاعي بنسبة 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي في الربيع – وهي خطوة ستُعرض على البيت الأبيض كإشارة لجدية التماشي مع أجندة ترامب. ومع ذلك، هناك تردد في المضي قدماً أكثر، مما قد يسبب نقاط توتر.
سيكون هناك العديد من المواقف غير المتوقعة من الرئيس الأمريكي تجاه الأمور البريطانية، غالبًا عبر منصته “تروث سوشيال”، والتي سيكون على داونينغ ستريت التعامل معها.
رسالة ترامب في بداية العام الجديد التي يحث فيها كير ستارمر على السماح بالتنقيب في بحر الشمال تتعارض مباشرة مع سياسة حزب العمال الحالية، ومن غير المتوقع حدوث تغيير قريب في هذا الشأن.
الكثير سيعتمد على الديناميكيات الشخصية بين ترامب وكير. فهل سيتجاوز الرئيس الجديد ما قد يراه إهانات سابقة من وزراء حكومة كير مثل ديفيد لامي؟ الحكومة البريطانية تأمل ذلك.
Donald Trump made a sweeping set of promises on the campaign trail. On The Intelligence podcast our US editor, @JohnPrideaux, assesses which policy goals the incoming president is likely to achieve https://t.co/P9WsmppUUX pic.twitter.com/bUcEwe30Nx
— The Economist (@TheEconomist) January 15, 2025 الناتوتوقع تركيزاً متجدداً على خطط الإنفاق المستقبلي، ويرى جو بارنز، مراسل الصحيفة في بروكسل، أن ترامب سيركز أكثر على خطط الإنفاق المستقبلي.
فريق ترامب حذر المسؤولين الأوروبيين من أنه سيطالب دولهم بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى ما يعادل 5% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي.
خلال حملته لإعادة انتخابه، هدد بعدم تقديم المساعدة لدول الناتو التي تتعرض لهجوم من روسيا إذا لم تلبِ معايير الإنفاق التي وضعها التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة.
مثل معظم القادة الأمريكيين، يريد ترامب من أوروبا أن تتحمل مزيداً من المسؤولية عن الدفاع عن نفسها، بينما تركز واشنطن جهودها ومواردها المالية على مواجهة التهديد المتزايد من الصين.
حتى قبل فوزه في الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني)، شرع حلفاء الناتو الأوروبيون في عملية وصفوها بـ”حماية الناتو من ترامب” للسنوات الأربع المقبلة.
تتضمن العملية إقناع المزيد من الدول بإنفاق ما يعادل 2% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو هدف حددته المنظمة ولم يتحقق إلا في 23 دولة من أصل 31.
مع أن الإنفاق الدفاعي بدأ فقط في الوصول إلى الحد الأدنى بعد أكثر من عقد من تحديده، إلا أن ترامب سيجد صعوبة في إقناع الدول بالمضي قدماً أبعد من ذلك، حتى مع التهديدات المتجددة بالانسحاب العسكري الأمريكي من أوروبا.
FT Exclusive: Donald Trump’s team has told European officials that the incoming US president will demand Nato member states increase defence spending to 5% of GDP, but plans to continue supplying military aid to Ukraine. https://t.co/PvQBBvOlV8 pic.twitter.com/SatZCtNsJv
— Financial Times (@FT) December 20, 2024 التعريفات الجمركيةترامب سيحاول إعادة ضبط الساحة باستخدام التعريفات الجمركية، أما الصحفية الاقتصادية ميليسا لوفورد، فتقول إن ترامب سيحاول إعادة ضبط الساحة باستخدام التعريفات.
إعلان التعريفات الجمركية كان على الأرجح أبرز وعود حملة ترامب الانتخابية. قال في أكتوبر (تشرين الأول): "بالنسبة لي، أجمل كلمة في القاموس هي التعريفة. إنها كلمتي المفضلة".
على طريق حملته الانتخابية، ناقش ترامب خططاً لفرض تعريفات شاملة بنسبة 10-20% على جميع السلع التي تدخل الولايات المتحدة، وتعريفات تصل إلى 60% على المنتجات القادمة من الصين.
بحلول نهاية نوفمبر (تشرين الثاني)، فاجأ ترامب المحللين بإعلانه أنه سيستخدم يومه الأول في المنصب لفرض تعريفات بنسبة 25% على السلع الكندية والمكسيكية (أقرب شركاء أمريكا التجاريين) بالإضافة إلى رسوم إضافية بنسبة 10% على السلع الصينية.
يدعي ترامب أنه يريد استخدام التعريفات لإعادة ضبط الساحة التجارية. كانت التعريفات مصدر دخل رئيسي للولايات المتحدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما تم رفعها لدعم التعافي بعد الحرب. يحمل ترامب الواردات الأجنبية الرخيصة مسؤولية تدهور الصناعات المحلية.
هناك سببان آخران وراء حبه للتعريفات: أولًا، يمكنه فرضها بسرعة دون الرجوع إلى الكونغرس، وثانياً، يمكنه استخدامها كأداة للتفاوض مع الدول الأخرى.
???????????? Trump Plans Aggressive Tariffs in Second Term, Targets Imports and Trade Deficit
Tickers of interest: $USD $FXI $SOYB
Full Story → https://t.co/UfDT2cWXQ4 pic.twitter.com/jadXNVF4TW
يرى مراسل الصحيفة في "واشنطن" نيك ألين، أن التوترات مع الصين ستتصاعد. وأوضح أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين هي واحدة من أكثر العلاقات حساسية وخطورة على مستوى العالم، ومن المتوقع أن تتوتر بشكل أكبر إذا عاد ترامب إلى السلطة.
خلال ولايته الأولى، شن ترامب حرباً تجارية مع الصين، فرض تعريفات جمركية على مئات المليارات من الدولارات من الواردات الصينية.
كما اتهم الصين بالتلاعب بعملتها، وسن سياسات موجهة ضد شركات التكنولوجيا الصينية مثل "هواوي".
في حملته الحالية، شدد ترامب على أن الصين تمثل التهديد الأكبر لأمريكا، ووعد باتخاذ موقف أكثر صرامة تجاهها، قائلًا: "سنجعل الصين تدفع الثمن".
من المتوقع أن يواصل ترامب الضغط على الصين اقتصادياً، ليس فقط من خلال فرض تعريفات جمركية جديدة، ولكن أيضاً عبر تعزيز القيود المفروضة على صادرات التكنولوجيا الأمريكية إلى بكين.
The Kremlin uses a dangerous ‘shadow fleet’ to get round our sanctions on Russian oil - helping to pay for the illegal war in Ukraine.
Today, we have imposed the largest package of sanctions against the shadow fleet to date.#StandWithUkraine pic.twitter.com/PCxh7aGF3d
خبير السياسة الخارجية نيكولاس إيكلش، قال إن ترامب قد يوقف الدعم لأوكرانيا. فخلال حملته الانتخابية، أشار ترامب إلى أنه سيوقف الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا إذا انتخب مرة أخرى، بحجة أن واشنطن لا ينبغي أن تكون "صرافة العالم".
كما وعد بالتفاوض على "صفقة سلام" لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في غضون 24 ساعة، رغم أن التفاصيل حول كيفية تحقيق ذلك كانت قليلة.
من المتوقع أن تكون سياسة ترامب تجاه روسيا أكثر ليناً مقارنة بالإدارة الحالية، مما قد يؤدي إلى تخفيف الضغط الدولي على موسكو.
ومع ذلك، فإن تقليص الدعم لأوكرانيا قد يثير انتقادات واسعة النطاق من حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، الذين يرون في الصراع تهديداً وجودياً للأمن الإقليمي.
"I'm broadly calling this for Trump... he is respected as a strong President"
Former Foreign Secretary @Jeremy_Hunt credits President-elect Trump for the Israel-Hamas ceasefire, arguing that both sides wanted a deal before Trump takes office on Monday#Peston pic.twitter.com/uSxVSVl0kK
أما المحلل كامبل ماكديرميد، فيرى أن تركيز ترامب وإدارته الجديدة في الشرق الأوسط سيتم عبر إعادة التركيز على إيران وإسرائيل.
في الشرق الأوسط، من المرجح أن يسعى ترامب إلى استئناف سياساته السابقة التي ركزت على احتواء إيران وتعزيز العلاقات مع إسرائيل.
خلال ولايته الأولى، انسحب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني وفرض عقوبات شديدة على طهران، مما أدى إلى تصاعد التوترات في المنطقة.
كما أشرف على توقيع “اتفاقيات أبراهام”، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية.
إذا عاد ترامب إلى السلطة، قد يحاول توسيع هذه الاتفاقيات لتشمل دولًا أخرى. سيواجه العالم تحديات متعددة حول عودة ترامب إلى البيت الأبيض. بينما قد يؤدي تركيزه على سياسة "أمريكا أولًا" إلى تقليل التدخلات الأمريكية في بعض القضايا العالمية، فإنه قد يتسبب أيضاً في تصعيد التوترات مع خصوم الولايات المتحدة وتقويض التحالفات الدولية.
إن فترة رئاسته الثانية ستعتمد إلى حد كبير على مدى قدرته على تحقيق توازن بين أجندته الوطنية وطموحاته على الساحة العالمية.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: اتفاق غزة سقوط الأسد عودة ترامب إيران وإسرائيل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية التأثيرات المحتملة الناتو حلفاء الناتو الساحة التجارية عاد ترامب صادرات التكنولوجيا صفقة سلام الضغط الدولي إيران وإسرائيل الاتفاق النووي أمريكا أول ا عودة ترامب الناتو الحرب الأوكرانية الصين كندا روسيا إيران وإسرائيل الولایات المتحدة ترامب إلى pic twitter com
إقرأ أيضاً:
في العصر الرقمي تتغير التعريفات
آخر تحديث: 11 دجنبر 2025 - 11:38 ص د. عبد الجبار الرفاعي مع كل ثورة تكنولوجية كبرى يولد الإنسان من جديد، ويعيد تعريف ذاته ومعنى وجوده. حتى لو قاوم هذه الثورة أو أوهم نفسه بالانفصال عنها، فإنها تفرض حضورها على الإنسان حيثما وأنى كان.وإن كانت آثارها تتفاوت من مجتمع لآخر، إلا أنها بوصفها قدرًا لا مهرب منه، تعيد إنتاج الواقع بكل ما فيه، وتعيد تشكيل وعي الإنسان ورؤيته للعالم ونمط عيشه، وتفرض عليه أن يصير تابعًا لها، ما لم يمتلك أدوات الفهم والتمثل والتكيف، كي يواكبها ويقطف ثمراتها. بقدر ما يمتلك الإنسان التكنولوجيا يمتلك إمكانية التحرر منها، وإن عجز عن ذلك استعبدته، وتحولت إلى سجن يصادر حريته ويبتلع وجوده. التكنولوجيا لا تهمش الإنسان، بل تتيح له فرصًا للارتقاء بذاته وتوسيع آفاق حياته، متى ما كان قادرًا على الإصغاء لتحولاتها، واستثمار هذه الفرص بما ينسجم مع ولادته الجديدة. الذكاء الاصطناعي التوليدي يمثل أشد هذه الثورات عمقًا وتأثيرًا في إعادة تشكيل الحياة البشرية، وخلخلة مفاهيم الإنسان وتعريفه لذاته والعالم من حوله. مَن يستوعب هذا التحول ويدرك أبعاده الوجودية والنفسية والعاطفية والروحية والقيمية والاجتماعية والثقافية، ويتمكن من بناء مهارات تتناغم مع ايقاعه المتعجل، وقدرة على توجيهه توجيهًا خلّاقًا، يستطيع أن يحول هذا التحدي إلى إمكان للتحرر والإبداع والابتكار والتطور. أما مَن يعجز عن ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي لن يكون بالنسبة له ولمجتمعه سوى قوة منفلتة، تتغذى على ضعفه، وتتحول إلى تهديد دائم لسلامه الشخصي والمجتمعي وأمنه، وتزلزل كيفية عيشه وعلاقاته ونمط حياته. في العصر الرقمي تتغير التعريفات وتتبدل، فمثلًا يتغير تعريف الزمن ويجري اختزله، تبعًا لما ينجزه هذا الذكاء من إنتاج اقتصادي وابتكار علمي وابداع معرفي وتطور تكنولوجي واثراء ثقافي وبناء قيمي، فلم يعد القرن يعني مائة سنة، ولا العقد يعني عشر سنوات، ولا السنة تعني اثني عشر شهرًا، ولا الشهر يعني ثلاثين يومًا، ولا اليوم يعني أربعًا وعشرين ساعة، إذ غدا الزمن مضغوطًا تتراكم فيه الأحداث والاختراعات والمعارف وتتلاحق بسرعة فائقة، كما لو أنها تتزاحم في لحظة واحدة. وصار الإنسان يعيش في تيار متعجل من التحولات لا يمنحه فسحة للتأمل أو المراجعة، بعدما انتقل الزمن من كونه وعاءً للأحداث إلى كونه طاقة خلّاقة تبتكر الإيقاع والمعنى في آن واحد، فصار الحاضر يتسع للماضي والمستقبل معًا، وصار الوجود الإنساني يقاس بما ينجزه المرء في لحظته لا بما تمضي عليه من سنوات، حتى أصبح التحدي الأكبر في هذا العصر هو استعادة المعنى الإنساني للزمن، قبل أن يتحول الإنسان إلى ظل يركض خلف سرعة الذكاء الاصطناعي وما تحققه الروبوتات. شركات الذكاء الاصطناعي اليوم هي الأغنى رأسمالًا من كل الشركات عبر التاريخ، رأسمالها ينمو باستمرار. لم يشهد الاقتصاد تراكمًا لرأسمال بهذه الوتيرة من السرعة الفائقة وبهذه الأحجام، بنحو صار يتضاعف بمرور الزمن سريعًا، فمثلًا بلغت القيمة السوقية على وفق تقارير متعددة، لشركة إنفيديا (NVIDIA) 4.54 تريليون دولار أمريكي، في 5 ديسمبر 2025، ما جعلها الشركة الأعلى قيمة في العالم. وذلك يتماشى مع تقارير حديثة تشير إلى أن إنفيديا أصبحت أول شركة مدرجة علنًا تصل إلى هذا الإنجاز التاريخي، مدفوعة بالطلب القوي على رقائق الذكاء الاصطناعي. والقيمة السوقية لشركة أبل (Apple) تقدر بحوالي 4.20 تريليون دولار أمريكي، في 5 ديسمبر 2025، مدفوعة بالتقدم في الذكاء الاصطناعي، وزيادة الطلب على أجهزة آيفون. وبلغت القيمة السوقية لشركة مايكروسوفت (Microsoft) حوالي 3.574 تريليون دولار أمريكي، في 5 ديسمبر 2025. وفي التاريخ ذاته بلغت القيمة السوقية لشركة Amazon نحو 2.454 تريليون دولار أمريكي، بينما وصلت القيمة السوقية لشركة Alphabet (Google) إلى ما يقارب 3.84 تريليون دولار أمريكي، أما شركة Meta فكانت قيمتها السوقية في ذلك الوقت بحدود 1.54 تريليون دولار أمريكي. وهذه الأرقام تعكس موقع هذه الشركات في قمة الاقتصاد الرقمي العالمي خلال تلك الفترة. يتضخم عاجلًا رأسمال الشركات الكبرى المنتجة للرقائق والفاعلة في الذكاء الاصطناعي حتى تخلق سلطة تخضع لها الحكومات والسلطات السياسية، إذ تتدخل في رسم صورة الدولة وتوجيه اقتصادها وسياساتها من الداخل، وتمتلك قدرة واسعة على التأثير في هندسة إدارة الحكم ومرافقه وبناء الدولة وفقًا لما يحقق أهدافها، وفي تشكيل وعي المؤسسات التي ينهض عليها تدبير الشأن العام. ويغدو رأسمالي مثل ايلان ماسك قادرًا على التأثير في سياسة بلده وسياسات بلدان أخرى بمقدار ما يتيحه رأسماله من نفوذ، وما تمنحه شركاته من فاعلية في الاقتصاد، فيتسع أثره على صناعة القرار، ويتغلغل في مسارات الاقتصاد والثقافة والتربية والاعلام، ويتحول حضوره الى قوة تتجاوز حدود السوق لتلامس حدود الدولة والمجتمع، حيث يتخذ رأس المال موقعًا مرجعيًا في توجيه الحياة العامة، وفي إعادة تشكيل شخصية الفرد وبناء الجماعة وفق ما يحقق أقصى عائد ممكن. تتمدد هذه الشركات من الاقتصاد والتقنية إلى بناء التربية والتعليم، والثقافة والاعلام، والقيم والسلوك، فتتدخل في صياغة العلاقات الدولية والاقليمية، وتعيد ترتيب مواقع الدول وفق مصالحها، وتشكيل المجتمع والفرد معًا، من خلال منظومات رقمية تعيد تعريف حاجات الإنسان وطريقة عيشه، وتتحكم بميول الإنسان وخياراته، وتفتعل احتياجات فائضة عن اللزوم. تقترب هذه الشركات من موقع السلطة المتسيدة بسبب حجم رأسمالها الهائل، وقوة حضورها في البنية التحتية للدول، فتعمل ببراعة على توجيه العالم نحو ما يحقق لها أعلى قيمة من الأرباح، عبر كل وسيلة تراها مناسبة، مشروعة أو غير مشروعة، من دون أن تنشغل بالأثر الروحي والاخلاقي والجمالي والقيم التي تتطلبها حياة الإنسان، كأن الإنسان يتحول بواسطتها الى مجرد رقم في سوق مفتوح تعاد صياغته باستمرار بما يخدم مصالحها الخاصة. وسائل التواصل وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لم تعد أدوات محايدة، بل غدت بيئات قيمية تصوغ معاييرها الخاصة، وتنتج نمطًا جديدًا من العلاقات الاجتماعية لا يشبه ما ألفته أجيال الأمس. لم تعد هذه الوسائل مجرد أدوات للتواصل، بل تحولت إلى منظومات تصوغ السلوك، وتعيد تشكيل إدراك الإنسان لذاته وللآخرين، وتؤسس لعالم مختلف في الإحساس بالعلاقة بالآخر، وتكييف منابع المعنى. وعي الآباء بهذه التحولات، وتفهمهم لما تفرضه هذه الوسائل من أنماط مختلفة في التفكير والسلوك لم يعد ترفًا أو خيارًا، بل ضرورة تمليها التحولات العميقة في العلاقة بين جيل الآباء وجيل الأبناء. المسافة بين الجيلين لا تتسع فقط بسبب العمر، بل تتعمق بفعل الفجوة الرقمية، وتباين مصادر المعرفة، وتغاير المرجعيات التي يتشكل منها الوعي. وسائل التواصل اليوم وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تملك تأثيرًا سحريًا فائقًا، لا لأنها تحجب الواقع أو تغلفه فقط، بل لأنها تصنع واقعا موازيًا يزاحم الواقع ويتغلب عليه، ويتقدمه أحيانًا، ويغدو المصدر الأول لتشكيل رؤيتنا للعالم. في هذا الواقع المصطنع تصاغ معتقداتنا، وتعاد تعريفات مفاهيمنا، وتتشكل آراؤنا، وترسم خرائط سياساتنا، وتنتج رموزنا، وتبنى مواقفنا، وتحاك أحلامنا. نحن نعيش في عالم هجين يمتزج فيه الواقعي بالافتراضي، وتتفشى فيها المحاكاة، ويتداخل فيه الحضور الفيزيائي بالوجود الرمزي. هذا الواقع الهجين يفرض على التربية أن تعيد بناء رؤيتها، وأن تؤسس لقيم جديدة في فهم العلاقة بين الأجيال، تتلاءم مع بنية الوعي المتحولة، وتستجيب لتحولات التأثير، ومصادر تشكيل الوعي والوجدان والهوية. يتغير معنى القيم والدين والأخلاق والعلم والمعرفة في العصر الرقمي، لأن البيئة التي تولد فيها المفاهيم تبدلت جذريًا؛ فالقيم تنتقل من منظومات ثابتة إلى قيم تشكّلها الخوارزميات والبيانات وثقافة المنصات، فتتحول الخصوصية إلى سلعة، والوقت إلى عملة، والاعتراف الاجتماعي إلى ظهور رقمي. ويتراجع الدين المؤسسي لصالح التجارب الدينية الفردية المفتوحة على تفسيرات لا نهائية للنصوص الدينية، وتنتشر الروحانيات التي تمنح الإنسان علاقة شخصية مع الغيب تتجاوز احتكار المفسرين في المؤسسات الدينية. وتتشكل الأخلاق بوصفها مسؤولية تصميم تكنولوجي لا مجرد حكم عقل عملي بالحسن والقبح، وتتزحزح المعاني المتعارفة للحقوق والجرائم والجنايات والعقوبات، إذ تظهر أسئلة لم يعرفها التاريخ، مثل: مسؤولية السيارة الذاتية القيادة عن القتل، أو تأثير الخوارزميات الموجهة في إنتاج خطاب الكراهية، وأمثال ذلك. ويتحول العلم من التجريب المختبري إلى التجريب الحسابي عبر المحاكاة والذكاء الاصطناعي الذي يفك ألغاز البروتينات، ويكتشف ويطور أدوية أمراض السرطان وأمراض عجز الطب من قبل عن اكتشاف لقاحات وعلاجات فاعلة لها. في هذا الواقع يغدو الإنسان محتاجًا الى فلسفة جديدة توقظ وعيه، وتمنحه قدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، وتعينه على اكتشاف كيفية تشكل الحقيقة في العصر الرقمي، حيث تتدفق البيانات بلا انقطاع، وتتحول عبر الخوارزميات إلى صور ومعانٍ تعيد ترتيب وعيه ومفاهيمه الأساسية على نحو مستمر. في هذا الفضاء يتبدل إدراك الإنسان للعالم مع كل مرحلة من مراحل المعالجة الرقمية، فيحتاج ذهنه الى دربة فكرية، وشعوره إلى استعداد لإعادة بناء صلته بالمعنى، يقيه من الانجراف مع ما تصنعه الآليات الذكية من أوهام، حتى يستعيد الإنسان موقعه الفاعل، ويغدو قادرًا على أن يميز ما ينير ذهنه مما يشتته، ويميز ما يوسع أفقه الوجودي مما يصادر حريته ويطمس وعيه.