لجريدة عمان:
2025-12-12@23:41:13 GMT

حروب التطبيقات الرقمية

تاريخ النشر: 21st, January 2025 GMT

الحروب المستقبلية بين الدول ستكون حروبًا إلكترونية قائمة على امتلاك التقنيات والتطبيقات الذكية، ففـي هذا العصر الذي أصبح فـيه كل شيء متصلًا رقميًا، فإن الصراع اليوم لا يتعلق فقط بالقوة العسكرية أو السيطرة على الموارد الطبيعية، بل أصبح صراعًا حقيقيًا حول البيانات والمعلومات، فالدول التي تمتلك أقوى التطبيقات الذكية تكون هي المنتصرة؛ لأن هذه التطبيقات باتت تشكل مفتاح القوة والنفوذ فـي العالم.

هذا الصراع يتجلى بوضوح بين الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين اللتين تخوضان حربًا علنية للسيطرة على التطبيقات الرقمية. على سبيل المثال، تهدد الولايات المتحدة بحظر تطبيق «تيك توك» الصيني وتطبيق «وي تشات»، بينما تقوم الصين من جانبها بحظر تطبيقات أمريكية شهيرة مثل «واتساب» و»فـيسبوك» و«إنستجرام». لكن القضية ليست مجرد خلافات تجارية أو أيديولوجية، بل هي حرب استراتيجية على الهيمنة الرقمية.

الهيمنة المستقبلية على العالم ستتم عن طريق الهيمنة الإلكترونية، ووسيلتها الأساسية هي السيطرة على التطبيقات الذكية بكل أنواعها، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، أو حتى تلك التي تتعلق بالتواصل والدردشة، أو التسوق والسفر، أو الألعاب؛ فامتلاك أقوى التطبيقات والتقنيات يعد عاملًا حاسمًا فـي تحديد قوة الدول وقدرتها على التأثير الجيوسياسي. فـي عالمنا اليوم، أصبحت الصراعات التقليدية بين الدول تتجاوز السيطرة على الثروات الطبيعية، لتركز أكثر على السيطرة على المعلومات والبيانات التي باتت تمثل المصدر الرئيسي للقوة الاقتصادية، والسياسية، والأمنية.

من هنا، تتفق القوى العظمى فـي العالم على أن البيانات الرقمية هي سلاح فتاك يمكن أن يغير مجريات الأمور السياسية والاقتصادية. إن تطبيقات الهواتف الذكية اليوم لا تعد مجرد أدوات للتسلية أو التواصل الاجتماعي، بل أصبحت بمثابة مراقب ذاتي لكل فرد، حيث تجمع المعلومات من جميع الأنشطة اليومية، وتعالجها بسرعة وكفاءة. وفـي هذا السياق، فإن السيطرة على هذه التطبيقات يعني التحكم فـي تدفق المعلومات وتحليلها، مما يتيح للدول والشركات الكبرى القدرة على التأثير فـي سياسات الدول الأخرى.

وهنا يأتي دور الشركات التقنية العملاقة التي تمتلك هذه التطبيقات، هذه الشركات ليست مجرد كيانات تكنولوجية، بل هي قوى اقتصادية تحدد توجهات السياسة العالمية، وتهندس التفاعلات الدولية فهي تسيطر على المعلومات وتدفقها، مما يمنحها قوة هائلة فـي العصر الرقمي. على سبيل المثال، تتربع أكبر أربع شركات تكنولوجية فـي العالم على قمة الشركات الأكثر قيمة سوقية، على رأس القائمة تأتي شركة «أبل»، التي تبلغ قيمتها السوقية أكثر من 2.7 تريليون دولار أمريكي، تليها «مايكروسوفت» بقيمة سوقية تقدر بحوالي 2.5 تريليون دولار، ثم «جوجل» التي تبلغ قيمتها السوقية 1.7 تريليون دولار أمريكي، وأخيرًا «أمازون» التي تقدر قيمتها بحوالي 1.4 تريليون دولار. هذه الشركات تمثل العمود الفقري للاقتصاد الرقمي، وتستحوذ على معظم أسواق التكنولوجيا فـي العالم.

من المهم أيضًا الإشارة إلى أن هناك شركات تقنية غير أمريكية تبرز فـي الساحة العالمية، مثل شركة «بايت دانس» الصينية المالكة لتطبيق «تيك توك»، التي تبلغ قيمتها السوقية حوالي 300 مليار دولار أمريكي.

بات من الواضح أن الحرب المقبلة لن تكون على الأرض أو البحر، بل ستكون حربًا إلكترونية تتسارع فـيها الدول للسيطرة على المعلومات. الشركات التكنولوجية الكبرى باتت تتحكم فـي مفاتيح هذه الحرب، ومن يمتلك السيطرة على البيانات فسيكون هو الفائز فـي معركة الهيمنة الرقمية، التي أصبحت المحرك الرئيسي للقوة فـي هذا العصر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: تریلیون دولار السیطرة على فـی العالم

إقرأ أيضاً:

أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد

يعيش العالم أزمات اقتصادية طاحنة: دول ثرية وآخرى يقتلها الجوع والفقر، دول تتحسن مؤشرات أدائها الاقتصادي وباتت تشكل قوة صاعدة على المستوى السياسي الدولي، ودول يهوي بها قادتها إلى مهاوي التبعية والتخلف والتفريط في المقدرات. لذلك، يكتسب الكتاب الذي بين أيدينا اليوم ، "لماذا نزداد فقرا؟ دليل واقعي للاقتصاد وكيفية إصلاحه"، أهمية خاصة حيث ينكأ الجراح، ويجيب على تساؤلات مهمة، ويرسم طريق الحل. ومؤلفه هو عالم الاقتصاد البريطاني كاهال موران المتخصص في علم الاقتصاد السلوكي. والكتاب صدر عن دار هابر كولين للنشر بنيويورك في 2025.

عرض موجز للكتاب

لطالما شكّلت الأزمات الاقتصادية مسار حياة الشعوب. ورغم كارثية الركود، فإنه يصبح هو الوقت مناسب لدراسة الاقتصاد. ولكن الأزمة الاقتصادية التي أصابت العالم بين عامي 2007 و2009، أثبتت أن السنوات الخمس والعشرون اللاحقة كانت فترة مثالية لدراسة الاقتصاد. إذ كان ذلك الركود هو الأكبر منذ سبعين عاماً، وشهد ارتفاعاً حاداً في معدلات البطالة، وتراجعاً في مستويات المعيشة، وإغلاق عدد لا يحصى من الشركات. ووجد كثيرون حول العالم أن حصولهم على الضروريات الأساسية كالغذاء بات مهدداً. لكن حتى تلك الأحداث الصعبة بدت ضئيلة مقارنة بما سيأتي.

نهاية التاريخ؟

منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.

الفقاعة العقارية

كشفت الأزمة 2007-2009 عن مشاكل عميقة في الاقتصاد كانت مخفية مؤقتًا وراء طفرة غير مستدامة. وطوال العقد الأول من الألفية الجديدة، منحت البنوك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قروضًا عقارية لأشخاص غير قادرين على السداد، مما أدى إلى تضخم فقاعة في أسعار المنازل. رغم أن هذا وحده كان كافيًا لإحداث ركود اقتصادي، إلا أن الأمر تفاقم بسبب شبكة الأدوات المالية المعقدة التي أنشأتها البنوك حول العالم استنادًا إلى هذه الرهونات العقارية.

منذ التسعينيات، سادت عقلية "نهاية التاريخ". فقد انتهت الحرب الباردة، وانتصرت الدول الغربية الرأسمالية الليبرالية على الشيوعية. وكان يُعتقد أن هذا هو النموذج لجميع الدول الذي يجب أن يكون وجهتها النهائية. وطوال التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدت المملكة المتحدة وغيرها من الدول في وضع جيد بفضل "النهج الثالث": رأسمالية معها شبكة أمان تحمي من قسوة النظام. مما يعني إمكانية الإصلاح التدريجي بدلًا من التخلي عن كل شيء والبدء من جديد. وفي بعض الحالات، مع نمو الاقتصاد، كان خروج الدول من دائرة الفقر مسألة وقت فقط لتنضم إلى الدول الغنية. فارتفاع المد يرفع جميع السفن.وعندما انفجرت الفقاعة، امتدت آثارها إلى النظام المالي بأكمله، وشعرت المؤسسات المالية الكبرى بانهيارها. ومن الأمثلة على ذلك، إفلاس بنك ليمان براذرز في بداية الأزمة، وهو ما كان كارثيًا لدرجة أن الخيار الوحيد المتاح أمام الحكومات كان ضخ الأموال العامة في البنوك لإنقاذها.

السياسات التقشفية وآثارها في الدول الغربية

في أعقاب الأزمة المالية، انتهجت العديد من الحكومات الغربية سياسات تقشفية لتحقيق التوازن في الميزانية العامة. وكان هذا تشخيصًا خاطئًا وتوجيهًا خاطئًا: فقد أدت الأزمة إلى انهيار الإيرادات الضريبية وارتفاع إعانات البطالة المصاحبة لأي ركود اقتصادي، وهو ما يفسر اختلال الميزانية. ولم تحقق سياسة التقشف في المملكة المتحدة هدفها المعلن المتمثل في تحقيق التوازن في الميزانية على وعد تحقيق فائض بحلول 2015، ولكن مع حلول ذلك العام، كانت الحكومة لا نزال تقترض 4,4% من الناتج المحلي الإجمالي. ولم تسفر التخفيضات فقط عن توقف النمو بين طلاب المدارس، بل أدت أيضًا إلى انهيار سقف مدرسة في مقاطعة كينت. ولا تزال آثار التقشف محسوسة، حيث علقت المملكة المتحدة في "حلقة مفرغة"، إذ يعني ضعف الأداء الاقتصادي انخفاض الموارد المالية المتاحة، مما يعني مزيدًا من التخفيضات في الخدمات العامة.

أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو

شهدت منطقة اليورو أزمة ديون سيادية خاصة بها في نفس الفترة تقريبًا، في دول البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، التي كانت تعاني جميعها من انخفاض النمو وارتفاع الديون. ونظرًا للاختلالات الاقتصادية في جميع أنحاء القارة، فإن استخدام عملة واحدة لم يمنح هذه الدول مجالًا كبيرًا للمناورة بعد انهيار 2007-2009. كان اليورو بمثابة قيد، يمنع كل دولة من اتباع سياساتها الخاصة. ولذلك، رُئي أن إجراءات تقشفية أشد قسوة من تلك المطبقة في المملكة المتحدة ضرورية. وكانت النتيجة تدهورًا حادًا في الخدمات العامة، وانخفاضًا في مستويات المعيشة، واضطرابات في اليونان. وعندما تم تقويض شبكة الأمان الاجتماعي، ارتفعت ديونهم على الفور بدلًا من أن تنخفض على عكس التوقعات. وكان على أثينا أن تحترق حرفيًا لإثبات أن التقشف كان مأساويًا وغير فعال. وفي النهاية، اعترفت السلطات بأن هذه الإجراءات لم تكن مجدية، مما استدعى مزيدًا من المرونة. على الرغم من أن بعض هذه الدول وأبرزها إسبانيا - قد تحسنت أوضاعها كثيراً في الآونة الأخيرة، إلا أن آثار أزمة منطقة اليورو ستستمر لعقود.

أفول العصر الذهبي للاقتصاديات الغربية

تفاقمت هذه الكوارث بسبب تراجع نسبي شهدته العديد من المدن والبلدات في الغرب منذ "العصر الذهبي" (1945-1973)، حيث اختفت الصناعة خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتراجعت اقتصاداتها المحلية. عانت ريكسهام في المملكة المتحدة من اختفاء مناجم الفحم، وعانت ديترويت من انحسار صناعة السيارات الشهيرة فيها، وشهد شمال فرنسا انتقال صناعة الملابس إلى مناطق أخرى. ولم تقتصر هذه المشكلة على العالم الغني فحسب، بل تحولت البرازيل بأكملها من تصدير الآلات الصناعية إلى تصدير سلع أساسية كالحديد والنفط. وشهدت الهند نموها الرئيسي في أشكال العمل غير المستقرة: وظائف قطاع الخدمات منخفضة الأجر. وبينما قابلت هذه الاتجاهات نمو ملحوظ في أماكن أخرى، تجسد بشكل خاص في صعود الصين، إلا أنها تركت أثراً بالغاً في مناطق أخرى مع نضوب الفرص ومعاناة المجتمعات.

تحولات في المشهد السياسي

في 2016، رفعت المجتمعات صوتها. ففي المملكة المتحدة، صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الأوروبي، أكبر تكتل تجاري في العالم؛ وفي الولايات المتحدة، انتخبوا دونالد ترامب، الذي وعد بوضع أمريكا في المقام الأول؛ وبعد عامين، انتخب البرازيليون جاير بولسونارو المعروف بـ"ترامب الاستوائي". وشعرت دول أوروبية أخرى بقلق مماثل، مع انتخاب فيكتور أوربان رئيسًا لجمهورية المجر عام 2010، واستمرار صعود اليمين المتطرف في أوروبا حتى يومنا هذا، بما في ذلك دول تُعتبر نمطيًا تقدمية مثل السويد وهولندا. وفي 2024، اتجهت بريطانيا وفرنسا نحو اليسار؛ لكن اليمين المتطرف لا يزال حاضرًا بقوة فيهما.

يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟!
هذه التحولات السياسية، التي شكلت صدمة للنخب، كانت تداعيات سياسية لاقتصادات فاشلة. ورغم أن لكل حالة تعقيداتها الخاصة، إلا أن جميعها تُشير بوضوح إلى تحول عن العولمة لإعطاء الأولوية لمواطني الوطن. وانتهج جو بايدن ودونالد ترامب، ورغم اختلافاتهما الواضحة، سياساتٍ تُعطي الأولوية لأمريكا، ومن أبرزها فرض تعريفات جمركية على البضائع الصينية. ويبدو أن عهد العولمة والتجارة الحرة قد ولّى.

وجه واحد من أوجه عدم المساواة

لم يكن تراجع المراكز الصناعية القديمة سوى وجهٍ واحدٍ من أوجه تفاقم عدم المساواة. فقد ازداد عدد المليارديرات في العالم عشرين ضعفًا بين عامي ١٩٨٧ و٢٠٢٤، وتضاعفت ثرواتهم الإجمالية أربعين ضعفًا، من ٢٩٥ مليار دولار إلى ١٤.٢ تريليون دولار. وسمحت هذه الثروة لقلةٍ مختارةٍ بالسيطرة على الاقتصاد: فقد تمكّن إيلون ماسك، أغنى رجلٍ في العالم آنذاك، من شراء أهم منصة تواصل اجتماعي في العالم، على ما يبدو بدافعٍ من نزوة، وإدارتها وفقًا لمصالحه ومعتقداته.

والحقيقة المُرّة هي أن عدم المساواة والفقر كانا سمتين مُلازمتين للعالم، فبأي مقياس معقول، يعيش معظم سكان العالم في فقر؟!! حفنةٌ من الدول فقط، معظمها في جنوب شرق آسيا، استطاعت أن تُصبح "غنية" خلال العقود القليلة الماضية. العديد من دول أمريكا اللاتينية، رغم أنها شهدت بعض النمو الإجمالي، تبدو عالقةً في مرحلة متوسطة من التنمية الاقتصادية، ولا تزال تضم نسبةً كبيرةً من فقر العالم. ولا تزال دول في أفريقيا تُعاني من سوء التغذية المُنتشر. وكل ذلك يعني فشلًا ذريعًا لاقتصادنا العالمي.

أزمة دائمة

قال المؤرخ الإنجليزي جي. إم. يونغ ذات مرة إنه لفهم شخص ما، عليك أن تنظر إلى ما كان يحدث في العالم. لقد دفعت تجربة الأزمة المالية المبكرة الكاتب إلى دراسة الاقتصاد في الجامعة، وشكل مع طلابه حيث مجموعة أطلقوا عليها اسم "جمعية اقتصاديات ما بعد الأزمة"، والتي تساءلت علنًا عن سبب عدم تدريس أي شيء في جامعتهم عن الأزمة التي شكلت حياة الناس. وأصدر الكاتب مع مجموعته تقريرًا عن حالة التعليم في جامعة مانشستر عام 2014، اتهموا فيه نظامهم التعليمي يركز بشكل مفرط على النظرية الرياضية المجردة، المنفصلة عن الواقع، والعاجزة عن تزويد الطلاب بمهارات التفكير النقدي التي يتوقعونها في الجامعة.

خارج قاعات الدراسة، ألقوا بعض المؤلفين باللوم في الأزمة على المصرفيين والاقتصاديين أنفسهم. كان هذا اللوم رغم أنه مبالغ فيه جزئيًا، إلا أنه مرتبط بلصورة العامة التي يُحب علم الاقتصاد إظهارها بمظهر العارف بكل شيء، أو كما قال كتاب تحرير الاقتصاديات، الصادر عام 2006، إن علم الاقتصاد قادر على كشف "الجانب الخفي لكل شيء"، ومطبق أفكار الاقتصاديين على الجريمة والمدارس والعنصرية. ولم يُشر الكتاب، ولو تلميحًا بسيطًا، إلى ما كان يجري في القطاع المالي قبيل انهياره.

لقد تغير الكثير منذ ذلك الحين، ولا سيما أن مهنة الاقتصاد قد خضعت لمراجعة شاملة لأوجه قصورها. لكن الحقيقة المُحزنة هي أنه لا تزال دراسة الاقتصاد مُجردة للغاية، وضيقة الأفق، وتُغفل العديد من الأزمات التي نواجهها.

الأسوأ لم يأتِ بعد

مع تقلبات المناخ العالمي، أصبحت الظواهر الجوية المتطرفة أكثر شيوعًا: الفيضانات والأعاصير ودرجات الحرارة القصوى في كلا الاتجاهين. ومع ارتفاع منسوب مياه البحر، ستشهد مدن ساحلية لا حصر لها فيضانات، وقد تختفي العديد من جزر المحيط الهادئ تمامًا. وستواجه البشرية صعوبات جمة في إنتاج الغذاء، وانتشار الأمراض، والهجرة الجماعية، بل وحتى الحروب. وبطبيعة الحال، سيؤدي كل هذا إلى تكاليف اقتصادية باهظة، تعيق النمو وتعطل سبل العيش في جميع أنحاء العالم.

وعندما اجتاح كوفيد-19 العالم في عام 2020، دخل العالم في عمليات إغلاق غير مسبوقة، أدت إلى توقف نصف اقتصاداته. كان ما يقرب من 93% من العاملين في العالم يعيشون في دول فرضت عمليات الإغلاق. ووصل عدد وفيات إلى الملايين. وقُدرت الخسائر في الناتج الاقتصادي بتريليونات الدولارات. وشهدت شمال أفريقيا والشرق الأوسط ارتفاعًا غير مسبوق في معدلات الفقر حتى قبل الجائحة.

وبمجرد أن خرج العالم من الإغلاق، اعتقد البعض أننا قد نتجه نحو انتعاش اقتصادي قوي، على غرار "العشرينيات الصاخبة" التي أعقبت جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918. إلا أن إعادة تشغيل اقتصادنا العالمي المعقد بشكل متكرر خلق مشاكل أكثر مما كان متوقعًا، حيث تعطلت سلاسل التوريد، وظهرت اختناقات في جميع أنحاء العالم. لقد ظلت هذه الاختناقات في كيفية إنتاج سلعنا وشحنها مخفية لسنوات لأن الأمور بدت وكأنها تسير على ما يرام؛ ولكن ظهرت مواطن الخلل بمجرد تعرضها لاختبار حقيقي. وفي سردية بدأت تتكرر، لم يحصل العمال الذين اعتمدنا عليهم للحفاظ على استمرار هذه الأنظمة على حقهم.

بالنظر إلى الماضي، ندرك أن النظرة إلى نهاية التاريخ تتطلب دائمًا نظرة متفائلة. ولكن اليوم، يُذكّر غزو روسيا لأوكرانيا عام ٢٠٢٢ الغرب بأن عالمنا ليس عالم سلام ووئام. وإن احتمالية نشوب حروب متجددة بين القوى العظمى، بما في ذلك التداعيات النووية، تُثير قلقًا بالغًا، وتعزز هذا القلق بتصاعد "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين. وتهدد حرب غزة بتصعيد التوترات في الشرق الأوسط وخارجه.

إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.إن الحرب تُزعزع مفاهيم الازدهار، فضلًا عن الأضرار المباشرة والجسيمة التي تُسببها الصراعات نفسها. بالنظر إلى اعتماد الاقتصاد العالمي الكبير على الاستقرار في المناطق المحيطة بروسيا والصين، فإن تداعيات هذه الصراعات ستكون واسعة النطاق. فقد عانت أوروبا من العقوبات المفروضة على روسيا، إذ نفدت إمدادات النفط والغاز التي اعتمدنا عليها لفترة طويلة. وارتفعت أسعار الطاقة عدة مرات في بعض الحالات، مما فاقم ما يُسمى بأزمة غلاء المعيشة. وتُعد أوكرانيا أيضًا من كبار منتجي القمح، وقد ارتفعت أسعار الحبوب فيها أيضًا، وكان التأثير الأشد وطأة على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المجاورة.

من السهل النظر إلى كل أزمة على أنها مُنعزلة؛ ولكننا يجب أن نتبنى عقلية حل المشكلات عبر النظر إلى ترابط مفرداتها ومظاهرها وأسبابها. فمثلاً، يُعدّ تغير المناخ وعدم المساواة قضيتين متلازمتين. ومن الظلم التاريخي الفادح أن الدول التي تُعدّ تاريخياً مسؤولة عن أكبر قدر من الانبعاثات هي الأقل تضرراً من تغير المناخ. وفي المقابل، ستعاني الدول الأشد فقراً، التي لم تُصدر ولن تُصدر نسبة كبيرة من غازات الاحتباس الحراري، أكثر من غيرها. حتى داخل الدولة الواحدة، تُصدر الدول الأغنى انبعاثات أكثر بكثير من الدول الأفقر. فاليخوت الفاخرة، والرحلات الجوية الخاصة، والسلع النادرة، والمنازل المتعددة، ومستويات الاستهلاك المرتفعة عموماً، ليست سوى بعض الأمثلة على كيفية مسؤولية الأغنياء عن الانبعاثات أكثر من الفقراء. ولذلك، يجب على أي حل لتغير المناخ أن يُعالج عدم المساواة بالضرورة.

إن الأزمات المتنوعة على اختلافها قد تثير اليأس؛ لكن هناك أيضًا العديد من الجوانب الإيجابية في العالم الذي نعيش فيه: فقد تحقق تقدم ملحوظ في مجالات الفقر والصحة والتعليم على مستوى العالم. والتغيير دائمًا متعدد الأوجه ومعقد، ويقع على عاتقنا دراسة هذا التعقيد بدقة على أمل الحفاظ على الإيجابيات والقضاء على السلبيات. وهذا يتطلب واقعية، بدلًا من التفاؤل أو التشاؤم.

لماذا نزداد فقرًا؟

يعيش الناس في فقرٍ أكبر بكثير مما ينبغي أن يكونوا عليه. وقد أدت ديناميكيات الاقتصاد العالمي المختلة إلى أوضاعٍ أوضاعٌ كان من الممكن تحسينها جذريًا لو كان اقتصادنا مُصممًا بشكلٍ أفضل. فاقتصادنا العالمي غير المتكافئ والمختل قد جعل حياة الفرد العادي أسوأ دون أي مبرر. ومع ازدياد صعوبة الحياة، تتبدد التوقعات بشأن التقدم، ولذلك يأتي السؤال: لماذا نزداد فقراً؟! والجواب يكمن فيما يلي:

1 ـ اقتصاد غير متكافي: توجد تفاوتات هائلة بين الناس تتجلى بطرقٍ عديدةٍ ومؤذية. ولا يحظى العديد من عمالنا الأساسيين بالتقدير اللائق مقارنةً بمن يؤدون وظائف نعلم يقيناً أنها أقل أهمية. إنه اقتصاد يهيمن فيه الأثرياء والشركات العملاقة على بقية أفراد المجتمع. ويواجه الناس عوائق اقتصادية لا حصر لها بسبب عوامل خارجة عن إرادتهم، كالطبقة الاجتماعية والعرق والجنس. ولا يزال معظم سكان العالم يعيشون في فقر. يمكن معالجة جميع مشاكل الاقتصاد غير المتكافئ بكبح جماح الأغنياء وأصحاب النفوذ، ودعم الفقراء والمهمشين، مع وجود مجال للاختلاف المعقول حول كيفية تحقيق ذلك.

2 ـ الخلل الوظيفي: يبدو أن سوق الإسكان لا يخدم مصالح أحد تقريباً، مما يخلق ظروفاً معيشية غير مقبولة لكثير الناس. إضافة إلى أن النظام النقدي غير مفهوم جيداً، وقد أدى هذا النقص في الشفافية إلى خيارات سياسية خاطئة. ولا تمتلك الدول الأنظمة المناسبة لتوقع التضخم الهائل وإدارته. وأخيرًا، فإن نظامنا التجاري العالمي هشٌّ، مُرهَق، وقائم على الاستغلال، مما يجعله عرضةً للانهيار. هذه المشكلات تؤثر علينا جميعًا، ولذا فإن الحلول أكثر تحديدًا من مجرد إعادة توزيع المال والسلطة. إنها حلولٌ واعدةٌ تعود بالنفع على الجميع، أغنياء وفقراء على حدٍ سواء.

3 ـ سياسات التقشف: تُجسد الرعاية الصحية حقيقةً جوهريةً وهي أن الاقتصاد والأهداف الإنسانية ليسا متعارضين. كثيرًا ما يُرادف مصطلح "الاقتصاد" مصطلح "القسوة" و"اتخاذ القرارات الصعبة"، وكأن ما يُفيد الاقتصاد لا يُمكن أن يُفيد الناس. والحقيقة هي أن خفض الإنفاق على الصحة والمدارس يُعدّ بمثابة إلحاق ضرر اقتصادي جسيم، مع تفاقم معاناة المرضى والأطفال بشكل غير ضروري. فقد أشار أحد التقارير إلى أن سوء الصحة يُكلّف سكان المملكة المتحدة حوالي 2200 جنيه إسترليني من دخلهم السنوي بسبب ترك الوظائف، وتقليص ساعات العمل، وتكاليف الرعاية الصحية.

وللمقارنة، يُمثّل هذا المبلغ حوالي 7% من متوسط الدخل في المملكة المتحدة، وهي زيادة ملحوظة في الأجور. حتى لو كان الهدف هو "اقتصاد قوي يُولّد الإيرادات"، فإن انخفاض الدخل والبطالة يعنيان وظائف متدنية الأجر أو البطالة التامة. كما أن التهاون في الإنفاق على الصحة يُمكن أن يُضاعف التكاليف لاحقًا. ولهذا السبب، فإنه في المملكة المتحدة: كل 200 مليون جنيه إسترليني تُخفض من إنفاق هيئة الخدمات الصحية الوطنية  تُكلف مليار جنيه إسترليني لاحقًا. ولا تقتصر هذه الحقائق على الدول الغنية كالمملكة المتحدة، إذ يظلّ الاستثمار في تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية هو السبيل الأمثل للمضيّ قدمًا في كافة الدول غنية أو فقيرة.

4 ـ  الأفكار الاقتصادية الخاطئة: تكلف هذه الأفكار ثمنًا باهظًا. وبسبب دخول بعض هذه الأفكار علم الاقتصاد، وبدعمٍ من جهاتٍ سياسية، يسود اعتقادٌ واسعٌ بأنّ الأوقات العصيبة حتمية. وميثال ذلك ما حدث في ٢٠٢٣، عندما زعم الخبير الاقتصادي في بنك إنجلترا، هيو بيل، أنّ على البريطانيين "تقبّل أنّهم أفقر حالًا".

سؤال جوهري

السؤال المحوريّ الذي يطرحه الكتاب هو: هل يُمكّن الهيكل الحاليّ للاقتصاد الناس ليس فقط من البقاء، بل من الازدهار؟

هناك من يعتبر هذا السؤال ضربًا من العبث: فبحسب رأيهم، يُعرَّف علم الاقتصاد غالبًا بأنه دراسة "تخصيص الموارد النادرة"، ما يعني ضمنيًا أنه لا يُمكننا فعل الكثير حيال هذه الندرة المتأصلة، على الأقل في المدى القريب. وبالتالي، فإن الاقتصاد نفسه ليس إلا تعميمًا لعدد لا يُحصى من القرارات الفردية المُرتبطة بمواردها، لذا فإن التدخل في هذه القرارات يعني التدخل في الواقع، وهو ما لا يُؤدي أبدًا إلى نتائج إيجابية. على الرغم من أن هذا رأي متطرف، إلا أن التشاؤم بشأن قدرتنا على تحسين الاقتصاد بشكل ملحوظ منتشر على نطاق واسع. قد يتفق الكثيرون بشكل عام مع أهداف الكتاب ويرغبون في رؤية بعض التغييرات، مثل الإصلاحات المنطقية في التعليم والصحة والإسكان. ومع ذلك، فهم أيضًا مترددون في إحداث تغييرات جذرية، خشية أن نُعرِّض للخطر المكاسب المادية التي حققها العالم على مدى القرون القليلة الماضية.

كلا هذين الرأيين ـ سواءً كان يدعو إلى عدم التدخل أو إلى تدخل محدود في الاقتصاد ـ خاطئان بنفس القدر، بل ويقتربان من الخرافة. يكشف بحث معمق في كيفية عمل الاقتصاد عن شبكة معقدة من الممارسات والقوانين والمؤسسات القوية التي تُشكِّله بطرق مُتعمَّدة وقابلة للتغيير. إن اعتبار هذه المؤسسات القائمة أمراً طبيعياً أو حتمياً أمرٌ لا يُمكن تبريره. بإمكاننا فهم كيفية بنائها وتعلم كيفية تغييرها. تُبيّن أمثلةٌ لا حصر لها عبر التاريخ أنواع التحولات الاقتصادية التي يُمكن تحقيقها والتي تُحسّن حياة الناس دون أن تُشكّل خطراً كبيراً على المزايا التي لا جدال فيها لمجتمعنا الحالي. ليس هناك طريقة أفضل لفهم ذلك من النظر إلى كيفية نشأة الاقتصاد نفسه.

مقالات مشابهة

  • طلب غير مسبوق على تذاكر مونديال 2026.. 5 ملايين طلب خلال 24 ساعة فقط
  • حروب الشيطنة إنقاذ لسمعة الكيان الصهيوني
  • السلاح.. صناعة للموت وإبادة للشعوب
  • مؤسسة النفط تستعرض الشراكات التي تقيمها مع الشركات الأوروبية وسبل تطويرها
  • أوهام الازدهار العالمي.. تفكيك أسباب الفقر في عالمٍ يزداد غنى .. كتاب جديد
  • ما الدول التي يفضل «ترامب» استقبال المهاجرين منها؟
  • ترامب يكشف عن الدول التي يفضل استقبال المهاجرين منها
  • خالد حنفي: 500 مليار دولار حجم مشروعات إعادة الإعمار التي تستهدفها مبادرة عربية - يونانية جديدة
  • على صلة بحزب الله وايران.. اليكم آخر المعلومات عن ناقلة النفط التي احتجزتها أميركا في الكاريبي
  • إيرواني: يجب على العالم أن يتحرك بحزم لإنهاء الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة