لا أحد ينتبه للهندباء البريّة !
تاريخ النشر: 20th, August 2023 GMT
«هل يمكن للطبيعة أن تمارس أدوارها بينما نُغلقُ أعيننا؟» كان هذا أحد أسئلتي المُعذبة في طفولة بعيدة، «فما الذي يحملُ الطبيعة على ذلك إن لم تكن مرئية أصلا؟» لكن ما زاد شقائي هو أن تتبرعم حياة ما أو تموت في أكثر الأماكن قسوة دون أن تثير انتباه أحد لنضالها في شقوق مُظلمة ومعزولة.
استيقظت هذه الأسئلة مجددا وأنا أعيد قراءة واحدة من أعذب روايات ياسوناري كاواباتا «هندباء برّية»، ترجمة: جولان ناجي.
رواية تكتنفها الغرابة منذ اللحظة التي نعرف فيها أنّ الكاتب تركها غير منتهية،؛ لأنّه قرر إنهاء حياته عام 1972، وحتى الولوج إلى تلك المحاورة الفلسفية العميقة.
يحاول «هيسانو» أن يُخرج خطيبته وأمّها من فكرة مُوجعة تكمن في أنّهما كانتا السبب في موت الأب، فالأمّ دفعت الابنة لمرافقة والدها لركوب الأحصنة والابنة شاهدت سقوط والدها وحصانه من أعلى الجرف، ولأنّ الأمر فوق تحملها فقد كابدت نوبة «عمى الجسد»، وهو مرض نادر يعني تعطل وظيفة عصب بصري بشكل مؤقت. ترغبُ الأمّ في أن تُبعد الخطيب عن ابنتها، فترسلها إلى مصحة المجانين؛ الأمر الذي يثيرُ تعجبنا بوصفنا قرّاء كما يثير تعجب «هيسانو».. فلماذا تخلطُ الأمّ بين العمى وبين مستشفى المجانين!
ثمّة ارتداد إلى زهرة الهندباء الأكثر تصميما على الحياة والتبرعم، تلك التي لا يتم فحصها بانتباه في طوكيو. النبتة البرية التي لا تزرع في حديقة أو في إصيص، على نقيض زهرة الكاميليا التي تنمو في الحدائق، وتُدرك أنّها مرئية من محبيها. هكذا يظن البعض أنّنا غير موجودين قياسا بعدم معرفة الآخر بنا، لكن في الحقيقة جهل أحدنا بالآخر لا ينفي وجوده. ولذا فعندما تُزهر الهندباء، فتلك علامة فارقة، تُخفف شعور الزوار بالذنب تجاه ذويهم وأحبتهم الذين احتُجزوا في مكان بالغ القسوة مثل تلك المصحة.
يُلاحظ الخطيب والأمّ طوال طريق العودة أشياء كثيرة، لكنهما يختلفان حولها. فهي لا تمثلُ ذات الشيء لكليهما ابتداء من زهرة الهندباء، وليس انتهاء إلى الصبي الجني الذي مرّ بينهما.
لم تكن الأشياء وحدها التي يختلفان حولها، وإنّما الأفكار التي يضمرانها للقصص التي رافقت ليلتهما العصيبة عندما تركا الابنة لأول مرّة في مصحة المجانين! تصعد بين الأمّ وخطيب الابنة محاورة طويلة، يربطُ هذه المحاورة العميقة «الابنة» التي رغم غيابها بوصفها فاعلا أصيلا في الأحداث، إلا أنّها مُستعادة من خلال الأحاديث.. هكذا تبدو الغائبة وغير المرئية كثيفة الحضور؛ ولذا تُقلب حكاية الابنة على أكثر من وجه، وفي كل مرّة تظهر حقيقة غائبة كمن يجمع قطع «البازل» المتفرقة.
فهل هو الهلع الذي جعل الابنة تصابُ بعمى الجسد عقب مشاهدتها سقوط والدها، وهل يمكن أن نبقى محبوسين في لحظة تلاشي أحبتنا من أمام أعيننا!
لكن الفكرة المُرعبة هي رغبتنا المحمومة في أن نُرى، فعندما سُمح للمرضى بالقرع على الناقوس، فإن الصوت المدوي كان ارتداد آلامهم، كان يجعلهم يصدقون بحقيقة وجودهم في الحياة، رغم أنّ أهالي البلدة لا يعرفون من عساه يقرع الناقوس في تلك اللحظة!
كما أنّ الشجرة التي حفر المجانين أسماءهم عليها -فتركوا الندوب على جذعها- كانت محاولة أخرى لترك علامة تخصهم كي يثبتوا أنّهم كانوا موجودين هنا يوما ما، وفي الحقيقة «لا نعرف على وجه اليقين إن كانت الشجرة وهي تنزُ دمع جراحها تبكي على المجانين أو بسببهم! لكن المؤكد فيما لو قطعت الشجرة لن يعود هنالك ما يدل على أنّ المجانين كانوا أحياء!»، الأمر الذي يجعلنا نتعجب لأنّ «الجنون في تجلياته أوضح من العقل».
تدفعنا الرواية لأن نُقدر تلك الحيوات التي عُزلت أو عَزلت نفسها عن الضوء بالمعنى الواقعي والمجازي، تلك التي تنمو في الخفاء غير مُنشغلة بترك علامة أو أثر لكي تُرى، تلك التي تُرينا الوجه الآخر من قصّتها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
ماذا يحتاج العمل التجاري في عُمان؟
حيدر بن عبدالرضا اللواتي
haiderdawood@hotmail.com
يتطلع الجميع لأن يستمر العمل التجاري في سلطنة عُمان بصورة أكبر خلال المرحلة المقبلة في إطار المنافسة العالمية، بعد أن واجه عدة صعوبات في المرحلة الماضية بسبب تفشي وباء كوفيد-19، والأزمات المالية وتراكم الديون الخارجية، والصعوبات المالية التي تعرّض لها التجار وأصحاب الشركات وغيرهم من مالكي المؤسسات التجارية، ويأمل الجميع، وخاصة رواد الأعمال العُمانيين والباحثين عن الأعمال، وكذلك التجار والمستثمرين أن تمنح لهم الفرص التجارية الجدية، وبدون أية صعوبات أو مشاكل تعترض أعمالهم اليومية.
الوضع التجاري في البلاد كما يوصف من قبل المؤسسات الدولية بأنه مدعوم بإطار قانوني قوي، ويهدف إلى تنظيم الأنشطة الاقتصادية وتشجيع الاستثمار بصورة أكبر. كما يتميز بوجود تسهيلات للمستثمرين، بما في ذلك الحوافز والفرص في القطاعات الاقتصادية المعروفة. فسلطنة عُمان تتميز اليوم ببيئة استثمارية جاذبة، بجانب موقعها الجغرافي الهام وسط نقاط التقاء طرق التجارة العالمية، الأمر الذي يمنحها فرصة لفتح أسواق المنتجات الوطنية، وتصديرها وإيصالها إلى الأسواق الناشئة عبر ممرات النقل الحيوية. كما يتميز الوضع التجاري في البلاد بأنه مستقر سياسيًا، ويعمل ضمن رؤية وأهداف "عُمان 2040"؛ الأمر الذي يعمل الجميع على تعزيز مناخ الاستثمار وتنويع الاقتصاد وفتح آفاق أكبر لاستغلال كل مصدر طبيعي في البلاد نظرًا لحاجة العالم إلى تلك المصادر المهمة.
لقد شهدت سلطنة عُمان خلال العقود الخمسة الماضية الكثير من التطورات الاقتصادية فيما يتعلق بتحديث الأطر القانونية التشريعية، وتوسعة البنية الأساسية اللوجستية مثل الموانئ والطرق والمطارات والمناطق الصناعية، إضافة إلى إطلاق منصات إلكترونية وتسهّيل إجراءات الاستثمار.
تقرير "ممارسة أنشطة الأعمال 2020" الصادر عن البنك الدولي يشير إلى صعود عُمان 10 مراتب في العمل التجاري في الآونة الأخيرة لتحتل اليوم المرتبة 68 على مستوى العالم. ومع تقديم الحوافز التجارية وقتل البيروقراطية وتسهيل القوانين والأعمال، فإنَّ ذلك سيؤدي حتمًا إلى احتلال مرتبة متقدمة في العمل التجاري؛ الأمر الذي يتطلب القضاء على التحديات التنفيذية والإجرائية، وقتل البيروقراطية، وتقليل الفجوة بين الإصلاحات المعلنة والتطبيق الفعلي على الأرض.
وتتسم البيئة الاقتصادية والتجارية في عُمان بالاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة؛ الأمر الذي يُعزِّز الثقة بهذه البيئة لجذب الاستثمار، والمضي قُدمًا في تقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، بجانب تنويع الاقتصاد؛ مما يخلق فرص عمل جديدة للباحثين عن الأعمال في قطاعات الاستثمار كالسياحة، واللوجستيات، والزراعة، والصناعة وغيرها. كما إن الحكومة مستمرة في إجراء الإصلاحات الاقتصادية ضمن رؤية "عُمان 2040"، لتحسين مناخ الأعمال، وتسهيل الإجراءات، وتشجيع ريادة الأعمال.
ومن واقع وجهة نظر التجار وأصحاب الأعمال، فإن تأسيس الشركات وبدء الأعمال التجارية أصبحت اليوم أكثر سهولة مع توفر منصات إلكترونية مثل "استثمر بسهولة"، في الوقت الذي ما زالت التحديات والبيروقراطية تُشكِّل مُعضلة في العمل التجاري للبعض بسبب بطء الإجراءات أحيانًا أو الحاجة للتنسيق بين عدة جهات حكومية في وقت واحد. كما إن مسألة الوصول إلى التمويل تعد تحديًا أمام بعض رواد الأعمال، خصوصًا الشباب، رغم وجود مؤسسات تمويلية عديدة للقيام بهذه المسؤولية.
لقد شهدت بيئة الاستثمار تطورات عدة في البلاد من أجل ممارسة الأعمال نتيجة لصدور حزمة من الإصلاحات التشريعية والإجرائية؛ حيث صدر قانون استثمار رأس المال الأجنبي بالمرسوم السلطاني رقم 50/2019، الذي أتاح تملك الأجنبي بنسبة 100% في معظم القطاعات، وألغى الحد الأدنى لرأس المال؛ مما ساهم في إزالة عقبة كبيرة أمام دخول المستثمرين. كما صدرت قوانين خاصة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص والتخصيص؛ بهدف تشجيع استثمارات القطاع الخاص في المشاريع الكبرى. فضلًا عن ذلك، تتخذ الحكومة خطوات لتقليص الرسوم، وتقديم إعفاءات ضريبية وحوافز خاصة في المناطق الاقتصادية، الأمر الذي يساهم في تقليل تكلفة بدء المشاريع، وتعزّز الجاذبية الاقتصادية للمستثمرين الأجانب. ومنصة "استثمر بسهولة"، التي تم دمجها لاحقًا في منصة عُمان تعمل على تقديم الأعمال الشاملة من خلال تقديم نافذة إلكترونية موحدة تجمع أكثر من 50 خدمة حكومية للمستثمرين؛ مما يسهّل تأسيس الشركات والحصول على التراخيص عبر الإنترنت على نحو سريع وسهل. وكل هذه العوامل، تجعل عُمان وجهة جذابة للاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة.
سلطنة عُمان تتميَّز اليوم بتوفير فرص متزايدة وخاصة لرواد الأعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تعد العمود الفقري للاقتصادات في العالم، ويرى الشباب أن هناك فرصًا عدة واعدة خاصة في قطاعات التكنولوجيا، والخدمات الرقمية، والتجارة الإلكترونية، في الوقت الذي تلتزم فيه الحكومة بتقديم الدعم من خلال توفير من خلال برامج التدريب في هذه القطاعات، مع حث المؤسسات على زيادة كفاءتها وربطها بسوق العمل الحقيقي. كما تُعزّز من ثقافة ريادة الأعمال؛ لتُصبح خيارًا مقبولًا ومشجعًا لدى فئة الشباب، مع زيادة الفعاليات والمسابقات والمبادرات التي تروج لهذه الثقافة.
رابط مختصر