بين التربية والرعاية يتجلّى بناء الأجيال
تاريخ النشر: 22nd, January 2025 GMT
سلطان بن ناصر القاسمي
كانت تلك الأوقات من أجمل ما عشته، عندما اجتمعت مع جيرانٍ أحبّة في أجواء من المرح والبهجة، حيث كنا نتشارك أحاديث الأخوّة وننهل من دروسٍ عفوية تلقيها علينا خبرات الحياة. من بين تلك الجلسات، كانت هناك لحظات مميزة، حيث انبرى أحد الآباء ليحدثنا عن الفرق بين التربية والرعاية. بحديثه العميق والعفوي، جعلنا نتأمل في معاني هذه المصطلحات التي كثيرًا ما نستخدمها دون إدراك الفرق الدقيق بينهما.
في البداية، لا بد أن نوضح المفهومين بمزيد من الدقة. فالتربية، كما يمكن تعريفها، هي العملية التي يسعى من خلالها الأهل إلى تهيئة بيئة آمنة تُساعد أبناءهم على التكيف مع المجتمع الذي يعيشون فيه بعاداته وتقاليده. إنها تشمل تعزيز المهارات، وترسيخ القيم، وصقل الشخصية ليتفاعل الأبناء بوعي وثقة مع محيطهم. أما الرعاية، فهي تتعلق بتوفير متطلبات الحياة الأساسية، من مأكل وملبس ومسكن، بما يضمن حياة صحية وكريمة لأفراد الأسرة.
وحين نعود لتلك الجلسة الدافئة، نجد أن ذلك الأب المربي لم يكن يحمل شهادات أكاديمية عليا في التربية، لكنه كان خريج "مدرسة الحياة العمانية الأصيلة". كانت القيم والعادات والتقاليد هي معلمه الأول، فانعكست خبراته على أبنائه الذين بدوا كأنهم نتاج فلسفة تربوية متعمقة. من خلال كلماته ومواقفه، أدركنا أنه يرى التربية ضرورة اجتماعية لا يمكن إغفالها، خاصة في مجتمع تحكمه عادات وتقاليد تُعرف بـ"السمت العماني". كان لأبنائه سلوكيات راقية، ومواقف اجتماعية نبيلة، تنم عن استثمار عميق في غرس قيمٍ تستحق الإشادة.
إن التربية ليست مجرد تدريب الأبناء على السلوكيات الإيجابية أو تعريفهم بالعادات والتقاليد؛ إنها بناء متكامل يبدأ من الصغر، حيث يتعلم الأبناء التمييز بين الصواب والخطأ، والتعامل مع الحياة برؤية واضحة. أما الرعاية، فهي مكمّلٌ لهذه العملية، تتجلى في توفير الاحتياجات اليومية من طعام ولباس، والاهتمام بالمظهر العام، وضمان بيئة مستقرة. هنا يأتي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم ليجسد مفهوم الرعاية بوضوح: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته..."، ليشمل الحديث جميع جوانب الرعاية، من الأدوار الأسرية إلى المسؤوليات المجتمعية. ولكن ما هي التربية في جوهرها؟ يمكن تلخيصها في خمسة محاور رئيسية:
أولًا: بناء القناعات: تعد القناعات البنية الأساسية التي تشكل رؤية الإنسان للعالم وتوجهاته في الحياة. يبدأ بناء هذه القناعات منذ السنوات الأولى من عمر الطفل، حيث يكون للآباء الدور المحوري في غرس القيم والمبادئ التي ستشكل شخصيته. إن غرس قناعات راسخة لا يعني فرض الآراء بقدر ما يعني تقديم نموذج يحتذى به، والحديث مع الأبناء بطريقة تحفزهم على التفكير والتساؤل. على سبيل المثال، يمكن للوالدين تعزيز قيمة الصدق عبر مواقف يومية تعكس هذه القيمة، مما يجعلها جزءًا أصيلًا من منظومة القناعات لدى الطفل. إضافة إلى ذلك، يُسهم التعليم والتثقيف في توسيع آفاق الطفل وتعريفه بمفاهيم الحياة المختلفة، مما يعزز لديه فهمًا أعمق للمبادئ والطموحات التي يجب أن يسعى لتحقيقها.
ثانيًا: توجيه الاهتمامات: يعد توجيه اهتمامات الأبناء نحو أنشطة مفيدة خطوة أساسية في تطويرهم. فالأطفال يمتلكون طاقة كبيرة تحتاج إلى التوجيه الصحيح حتى لا تُهدر في أمور غير مثمرة. يمكن للوالدين تقديم بدائل إيجابية لأوقات الفراغ مثل الرياضة، القراءة، والأنشطة الفنية، مع الحرص على معرفة ميول الطفل ودعمها. ومن المهم أن يتم هذا التوجيه بطريقة تشجع الطفل على اكتشاف شغفه الخاص، وليس بطريقة تفرض عليه اهتمامات بعينها. على سبيل المثال، إذا كان الطفل مهتمًا بالرسم، يمكن دعمه من خلال توفير الأدوات المناسبة وتشجيعه على المشاركة في ورش عمل تُنمي مهاراته. إن التوازن بين التوجيه والتشجيع الذاتي يضمن أن يصبح الطفل قادرًا على استثمار وقته فيما يفيده على المدى الطويل.
ثالثًا: تنمية المهارات: تمثل المهارات بأنواعها المختلفة (العقلية، الرياضية، الفنية، الاجتماعية، الإدارية) أحد الأعمدة الأساسية في بناء شخصية الإنسان وتمكينه من مواجهة تحديات الحياة. هنا، يظهر دور الآباء في توفير بيئة تحفز النمو الطبيعي لتلك المهارات. على سبيل المثال، يمكن تنمية المهارات العقلية من خلال تشجيع الطفل على حل الألغاز أو قراءة القصص التي توسع مداركه. أما المهارات الاجتماعية، فيمكن صقلها من خلال توجيهه للمشاركة في الأنشطة الجماعية التي تعزز مفهوم التعاون والاحترام المتبادل. ومن الجدير بالذكر أن تنمية المهارات تتطلب الصبر والمثابرة؛ حيث إن تطوير أي مهارة يحتاج إلى وقت وتكرار. علاوة على ذلك، يجب أن يكون الوالدان قدوة في الاستفادة من مهاراتهما، لأن الأطفال يتعلمون بشكل كبير من خلال الملاحظة.
رابعًا: فهم قواعد العلاقات: إن فهم الأبناء لطبيعة العلاقات الاجتماعية يعد من أهم الفنون التي يجب أن يتقنوها منذ الصغر. يبدأ ذلك من خلال تعلم كيفية اختيار الأصدقاء، والتمييز بين العلاقات الإيجابية والسلبية. هنا يأتي دور الآباء في توجيه أبنائهم بأسلوب حكيم وداعم، حيث يمكنهم أن يوضحوا أهمية الصداقة الحقيقية التي تبنى على الاحترام المتبادل والمساندة. إضافة إلى ذلك، يجب أن يتعلم الأبناء كيفية إدارة الخلافات داخل العلاقات، سواء بحل النزاعات بطرق ودية أو باتخاذ قرار بإنهاء العلاقة إذا كانت تضر بمصالحهم. إن توضيح هذه القواعد يمنح الأبناء الأدوات اللازمة لبناء شبكة اجتماعية داعمة تساندهم في مختلف مراحل حياتهم.
خامسًا: اختيار القدوات: اختيار القدوة المناسبة هو أمر في غاية الأهمية لأنه يحدد الإطار الذي يسعى الأبناء لتشكيل شخصياتهم من خلاله. يجب أن يتعلم الأبناء أن القدوة ليست بالضرورة شخصية مشهورة، بل يمكن أن تكون شخصًا عاديًا يتميز بأخلاقه، علمه، أو إنجازاته. يمكن للآباء مساعدة أبنائهم في هذا الجانب من خلال تسليط الضوء على شخصيات تاريخية أو معاصرة لها تأثير إيجابي، مع توضيح سبب اختيار هذه الشخصيات. كذلك، من المهم أن يفهم الأبناء أن القدوة لا تعني التقليد الأعمى؛ بل الاستلهام من الصفات الجيدة والعمل على تطويرها بما يتناسب مع شخصياتهم. إن اختيار القدوات يشكل رؤية الأبناء للأهداف التي يطمحون لتحقيقها والطريق الذي يسلكونه في حياتهم.
هذه المحاور الخمسة هي جوهر التربية، فهي التي تشكّل العقول وتصقل النفوس، وتُبنى عليها القيم والمبادئ التي تُرسي دعائم حياة الأبناء. أما ما عداها فهو رعاية تُعنى بتوفير احتياجات الجسد، ويمكن تفويضها للآخرين عند الضرورة. لكن التربية أمرٌ لا يُفوض ولا يُنقل، فهي أمانة عظيمة وواجب أصيل يقع على عاتق الأب والأم في المقام الأول، يعاونهم فيها المربون المخلصون.
وأخيرًا.. إنَّ التربية هي الرسالة التي يتركها الآباء في أبنائهم، فهي الأثر الذي لا يمحوه الزمن، والإرث الذي يمتد نفعه إلى الأجيال القادمة، فبها يُصنع الإنسان الذي يعانق المجد ويساهم في بناء المجتمع برؤية صائبة وروح ملهمة.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
وزير التربية .. تطوير امتحان (التوجيهي) ليكون إلكترونيًا من خلال بنك الأسئلة
#سواليف
نظّمت مؤسسة عبد الحميد شومان، السبت، حلقة نقاشية بعنوان “ضعف #الطلبة #الأردنيين في #اللغة_الإنجليزية: تحديات وحلول”، برعاية وزير التربية والتعليم ووزير #التعليم_العالي والبحث العلمي #عزمي_محافظة.
وقال محافظة إن الوزارة تواكب باستمرار التطورات المتسارعة في التعليم وأساليب التدريس الحديثة، مشيرا إلى الجهود التي تبذلها الوزارة بالتعاون مع المركز الوطني لتطوير المناهج لتطوير المناهج الدراسية بشكل عام.
ولفت إلى أن الوزارة تعمل باستمرار على توفير الأدوات والأساليب التعليمية الحديثة المتعلقة بمنهاج اللغة الإنجليزية، خاصة تلك المتعلقة بمهارات المحادثة والاستماع، وتدريب #المعلمين على استخدام تلك الأدوات والمهارات الجديدة، وأساليب التقييم غير التقليدية، لتنعكس إيجابيًا على الطلبة.
مقالات ذات صلةوأشار إلى جهود الوزارة في تطوير #امتحان_الثانوية_العامة ( #التوجيهي )، ليكون امتحانًا إلكترونيًا من خلال #بنك_الأسئلة الذي يعدّه المركز الوطني لتطوير المناهج.
بدورها، قالت الرئيسة التنفيذية للمؤسسة، فالنتينا قسيسية، إن اللغة الإنجليزية اليوم ليست مجرد لسان آخر يستعرض به المتحدث، ولا هي لغة للترفيه؛ فقد تطورت واستحوذت على النصيب الأكبر من الاهتمام، لتصبح لغة العلم والمعرفة والأدب، وعدم الإلمام بها يعرض الطالب لتفويت الكثير من الفرص التعليمية المهمة، وقد يجعله يخسر تعليمًا نوعيًا.
وأشارت إلى أن التقارير الأخيرة، منها تقرير منتدى الاستراتيجيات الأردني، تبيّن أن هناك ضعفًا واضحًا لدى الشريحة الأكبر من الطلبة في هذه اللغة.
وبيّنت أن ضعف الطلبة باللغة الإنجليزية معضلة تتداخل فيها عوامل عديدة يصعب على مؤسسة منفردة ضبطها؛ فهي مشكلة لغوية وتربوية وتنموية وثقافية واجتماعية، مؤكدة أن معالجة هذا الضعف ليست مسؤولية معلم فقط، ولا إصلاحًا يرتبط بالمنهاج وحده، بل هي مسؤولية تكاملية تشترك فيها السياسات التعليمية، والخطط الوزارية، والتأهيل التربوي، والبحث العلمي، والدعم المجتمعي.
وقدّم باحثون وخبراء خلال الحلقة النقاشية، التي كانت مقررتها الدكتورة ديما الملاحمة، أوراق عمل حول أسباب ضعف الطلبة في اللغة الإنجليزية، والطرق الممكنة لتصويبه.
واشتملت الجلسة الأولى، التي جاءت بعنوان “العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية”، على أوراق عمل قدّمها: الدكتور فواز العبد الحق بعنوان “هندسة تعليم اللغة الإنجليزية من منظور التخطيط اللغوي”، والدكتور تيسير أبو عوده، وجاءت ورقته بعنوان “عالم اللغة الإنجليزية: الطبقة الاجتماعية وصناعة الإنسان الحداثي”، والدكتورة لين الفطافطة، وكانت ورقتها بعنوان “تأملات إثنوغرافية من وحي صفوف مهارات الاتصال”.
وحملت الجلسة الثانية عنوان “تطوير المناهج وتحديث الأنشطة اللامنهجية”، إذ قدّم فيها سهيل العساسفة ورقة بعنوان “واقع تطوير مناهج اللغة الإنجليزية: خبرة ميدانية”، في حين قدّم الدكتور مروان الجراح ورقة عنوانها “تعليم اللغة الإنجليزية: من التحديات إلى الحلول التطبيقية”، فيما قدّمت الدكتورة دعاء سلامة ورقة عمل بعنوان “دور الثقافة المجتمعية والمنهج الخفي في ضعف الطلاب باللغة الإنجليزية”.
أما الجلسة الثالثة فجاءت بعنوان “تأهيل الكوادر وتأمين الموارد التعليمية الحديثة”، وقدّم فيها أيمن الأحمد ورقة بعنوان “أثر متطلبات اللغة الإنجليزية في برامج الدراسات العليا في إعداد البحوث والرسائل العلمية”، ومحمد الجيوسي ورقة بعنوان “تباين البنية التحتية التقنية وأثره على تعليم الإنجليزية: تحديات وحلول رقمية”، وإياد النجار ورقة كان عنوانها “إعداد وتأهيل المعلمين قبل الخدمة”.
واشتملت الجلسة الأخيرة على شهادات وملاحظات ميدانية، فقدّمت خلود أبو تايه ورقة بعنوان “الثورة الرقمية: نعمة أم نقمة لطلبة اللغة الإنجليزية”، وإيمان غانم ورقة بعنوان “رؤية من الواقع التعليمي”، وفايزة أبو داري ورقة بعنوان “نظرة تأملية لواقع تعليم اللغة الإنجليزية”، وأخيرًا قدّمت مها سقف الحيط ورقة بعنوان “أسباب ضعف مهارات المحادثة والكتابة لدى الطلاب الأردنيين”.