سودانايل:
2025-06-03@18:38:03 GMT

المثقف بين الفاعلية والتنظير: مأزق الفعل المؤجل

تاريخ النشر: 4th, February 2025 GMT

إبراهيم برسي

هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظةٌ لا تأتي دفعةً واحدة، بل تتسلل عبر الزمن، عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتراكم حوله، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على أطلاله؟ هل أنا منتجٌ للمعرفة، أم مُجرّد مستهلكٍ لسردياتٍ لا تغيّر من مواضع السلطة شيئًا؟

إن المثقف ليس مجرد حامل أفكار، بل هو حاملٌ لقلقٍ دائم، لوعيٍ مفتوحٍ على الأسئلة التي لا تنتهي.

لكنه، في عالمٍ تحكمه الصورة وتعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال هو: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بالتغيير أصلًا؟

لقد كتب إدغار موران، وهو أحد أكثر العقول النقدية حدّة في عصرنا، أن: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” هنا تنكشف أزمة المثقف المعاصر: إنه يملك القدرة على تفكيك الظواهر، لكنه يعجز عن إعادة تركيبها، يملك المهارة في تحليل الأنساق، لكنه لا يستطيع صياغة رؤية بديلة. إنه عالق في حالةٍ من “الوعي المتشظي”، حيث يُصبح النقد فعلًا مغلقًا، يُعيد إنتاج نفسه بلا أفقٍ للفعل.

وفي ظل هذه الأزمة، يبدو أن المثقف قد تحوّل من كيانٍ مؤثر إلى شاهدٍ مأزوم، يتنقل بين تأمل الواقع وتحليل انسداداته، لكنه نادرًا ما يتجاوز تلك المرحلة إلى إعادة تشكيله. إنه يعيش في مساحةٍ بينية، حيث المعرفة موجودة، لكن الفعل مؤجلٌ إلى أجلٍ غير معلوم.

لم يكن هذا حال المثقف دائمًا. فقد ظلّ، عبر التاريخ، في موضع المسافة الحرجة بين السلطة والجماهير، بين الأفكار وصُنّاع القرار، بين المعرفة وضرورات الفعل.

في العصور القديمة، كان الفيلسوف هو مرآة المدينة، كما في حالة أفلاطون وأرسطو. أما في العصور الحديثة، فقد أصبح المثقف شاهدًا على ولادة الدول القومية، ومهندسًا للأيديولوجيات التي صنعت العالم الحديث.

لكن أين يقف اليوم؟

غير أن المثقف، في هذا الزمن المُعلّق بين ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة، لم يعد حتى ذلك الفاعل المتردد بين الفكرة والممارسة، بل أصبح ذاته كيانًا مأزومًا، مُستهلكًا داخل دوائر التنظير، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه.

إن ما بعد الحداثة، وهي مشروعٌ هائلٌ من الشك، لم تُنتج سوى تفكيكٍ لا بناء بعده، تفكيرٍ لا ينتهي إلى الفعل، ووعيٍ يتآكل تحت وطأة احتمالاتٍ لا تُحسم.

لقد صار المثقف، في عصر الاستعراض الدائم، كيانًا مفتوحًا للفرجة أكثر منه فاعلًا في التغيير. تحوّل إلى مُحلّلٍ للأحداث لا صانع لها، إلى ناقدٍ مستهلكٍ في محافل الأكاديميا، إلى شاهدٍ يُفكّك السرديات لكنه لا يجرؤ على صناعة سردية بديلة.

لقد تم تدجينه داخل آليات صناعة الرأي، داخل مؤسساتٍ تُعيد إنتاج النقد كسلعة، داخل شبكاتٍ يُصبح فيها الخطاب ذاته جزءًا من السوق، من آليات الامتصاص التي تُفرغ الفكرة من قدرتها على الصدمة.

وهكذا، يبدو المثقف محاصرًا بين خيارين متناقضين: إما أن يصبح جزءًا من المؤسسة، فيفقد استقلاله، أو أن يبقى على الهامش، فيفقد تأثيره.

فالسلطة لم تَعُد تكتفي بإسكات المثقف، بل امتصت دوره، جعلته جزءًا من بنيتها الرمزية، قدّمت له منابر يظن أنها مساحاتٌ حرة، لكنها في الحقيقة ليست سوى غرفٍ مُغلقة، تُعيد تدوير الخطاب في دوائر لا تنتهي.

ولكن، في عصرٍ يختزل كل شيء إلى صورة، إلى جملةٍ قصيرة، إلى رأيٍ عابر على منصةٍ افتراضية، هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق؟ هل لا يزال المثقف قادرًا على ممارسة دوره خارج الاستعراض، خارج الشبكات التي تُعيد إنتاج كل شيءٍ في قالبٍ يمكن استهلاكه سريعًا؟

أم أن الفكر النقدي قد أصبح بدوره أسيرًا لهذا التدفق السريع، عاجزًا عن التوقف طويلًا أمام أي شيء؟

إن الفاعلية لا تعني فقط الانخراط المباشر في الصراع، بل تعني أيضًا إعادة تشكيل الخيال السياسي، إعادة إنتاج الأفق الذي يجعل من التغيير ممكنًا.

ولكن، إذا كان المثقف قد تخلى عن هذه المهمة، إذا كان قد انزلق إلى موقع “المُفسّر” لا “المُحرّك”، فمن الذي سيتولى إعادة تشكيل العالم؟

هل ستكون الجماهير وحدها قادرةً على ذلك؟

أم أن الجماهير، التي تستهلك الشعارات بدورها، ليست إلا انعكاسًا لعجز المثقف عن إنتاج رؤيةٍ واضحة؟

إن العالم لا ينتظر المثقف، ولا يتوقف عند تنظيراته. إن لم يُنتج أدواته الخاصة للتفاعل مع الواقع، فإن قوى أخرى ستملأ الفراغ، وستُعيد صياغة المشهد دون أن تأخذ رأيه بالحسبان.

إن المثقف، إن لم يكن فاعلًا، فهو ليس سوى ظلٍّ يتلاشى عند أول اختبارٍ للقوة.

في النهاية، ليس السؤال: هل يجب على المثقف أن يكون فاعلًا؟

بل السؤال الأهم: هل بقي للمثقف شيءٌ ليقوله لم يُستهلك بعد؟

وهل بقي للفكر النقدي قدرةٌ على تجاوز الصدى ليُصبح صرخة؟

أم أن الزمن قد تجاوز المُفكرين ليُصبح لعبةً تُحسم في الشارع، في السوق، في الإعلام، حيث لا مكان لمن يتردّد أو يفكّر طويلًا؟

إن الفارق بين الفاعلية والتنظير لم يَعُد مجرد خيار، بل أصبح معضلةً تخصّ وجود الفكر ذاته:

هل لا يزال الفكر قادرًا على التأثير، أم أن دوره قد انتهى ليُصبح فقط تعقيبًا هامشيًا على الأحداث؟

وهل انتهى زمن الأسئلة العميقة، ليبدأ عصرُ الإجابات السريعة؟

أم أن المثقف، حتى في عجزه، لا يزال يملك قوةً لم تُستنفد بعد، قوة السؤال الذي لم يجد جوابه بعد؟

Sent from Yahoo Mail for iPhone

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هل لا یزال عید إنتاج

إقرأ أيضاً:

الإفتاء تحذر من هذا الفعل عند نحر الأضاحي| احترس الملاعنَ الثلاثَ

حذرت دار الإفتاء من فعل يفعله الكثيرون عند نحر الأضاحي في عيد الأضحى، حيث أجاب الدكتور على فخر، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، على سؤال حول: حكم نحر الأضاحي في الشوارع والأماكن العامة.

احذر هذا الفعل عند نحر الأضاحي

وأوضح أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، اليوم الثلاثاء: "الدين الإسلامي علمنا النظام ومن النظام أن نحترم القرارات الصادرة بتنظيم عملية نحر الأضاحى فى الأماكن المحددة، التى أقرتها الجهات المسئولة ".

وتابع: "مخالفة الجهات المسئولة فى الأماكن المحددة يعتبر مخالفة شرعية، وأيضا سنقع فى مخالفات أخرى نهانا عنها سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال (اتَّقوا الملاعنَ الثلاثَ : البَرازُ في الموارِدِ ، و قارِعَةِ الطَّريقِ ، و الظِّلِّ)".

وأضاف: "نحن فى العيد نتقرب إلى الله بالأضاحى، فلا يجوز لنا إلقاء القاذورات فى الطريق العام أو نحر الأضاحى فى الشوارع، ففيه الكثير مما يستوجب اللعن كما أبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم".

هل فضل العشر من ذي الحجة في النهار فقط ؟كلمتان تَمَسَّك بهما في العشر من ذي الحجة لتتعرض لنفحات اللهأفضل الأعمال المستحبة في العشر من ذي الحجة .. الأزهر: اغتنم هذه العباداتفضل أداء الصلاة على وقتها فى العشر من ذى الحجة؟.. الأزهر يوضحما حكم نحر الأضاحي في الشوارع وترك مخلفاتها في الطرقات؟

وقالت دار الإفتاء في بيان ما حكم نحر الأضاحي في الشوارع وترك مخلفاتها في الطرقات وعدم القيام بتنظيف هذا؟، إن هذا العمل المسئول عنه من السيئات العِظام والجرائم الجِسام؛ لأن فيه إيذاءً للناس؛ فقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، وفاعل ذلك إنما يتخلق بأخلاق بعيدة عن أخلاق المسلمين؛ فإن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول فيما رواه عنه عديدٌ من الصحابة رضيَ اللهُ عنهم: «المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِه» رواه الشيخان وغيرهما.

والذي ينحر الأضاحي أو غيرِها في شوارع الناس وطرقهم ، مع تركه للمخلفات فيها يؤذيهم بدمائها المسفوحة التي هي نجسة بنص الكتاب العزيز، ويعرضهم لمخاطر الإصابة بأمراض مؤذية، وأين هؤلاء من حديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الذي رواه مسلم وغيره عن أبي برزة رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا نبيَّ اللهِ، عَلِّمنِي شيئًا أَنتَفِعُ به، قال: «اعزِلِ الأَذى عن طَرِيقِ المُسلِمِينَ».

فكما أن إماطة الأذى صدقة، وهي من شعب الإيمان، فإن وضع الأذى في طريق الناس خطيئة، وهو من شعب الفسوق والعصيان، ووالله إنه ليجلب الأذى لفاعله في الدنيا والآخرة، وبرهان ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «اتَّقُوا المَلاعِنَ الثَّلاثةَ: البَرازَ في المَوارِدِ، وقارِعةِ الطَّرِيقِ، والظِّلِّ» رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن معاذ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم؛ فإن هذه الخصال تستجلب لعنَ الناسِ لفاعليها، وما نحن فيه مِن تقذير شوارع الناس ومرافقهم وتعريضهم للأمراض والأخطار مثير لغيظ الناس واشمئزازهم وحنقهم على فاعليها ومرتكبيها.

فالواجب القيام بهذا النحر في الأماكن المعدة والمجهزة لمثل ذلك، والواجب الحرص على الناس وعلى ما ينفعهم، والنأي بالنفس عن كل ما يُكَدِّر عيشَهم أو يؤذي أحاسيسهم وأبدانهم.

طباعة شارك نحر الأضاحي الأضاحي ما حكم نحر الأضاحي في الشوارع وترك مخلفاتها في الطرقات

مقالات مشابهة

  • عندما يلبس المثقف لباس الواعظ في إقصاء المختلف
  • مهنة في مأزق حقيقي في هذه الأيام.. ونداء للمواطنين
  • إعادة رسم خرائط أنهار العالم كله لتحسين التنبؤ بالفيضانات
  • شاهد.. ميسي يقترب من 38 عاما ولا يزال يتلاعب بالمدافعين
  • الإفتاء تحذر من هذا الفعل عند نحر الأضاحي| احترس الملاعنَ الثلاثَ
  • الروقي يشعل الجدل بتغريدة عن كاسترو: لا يزال يتقاضى راتبه من النصر
  • العالم يترقب رد روسي على هجوم الأحد المؤلم
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: (وعن … أنت منو عشان تتكلم..؟)
  • المحرمي يقترب من الحوثيين برعاية سعودية.. والزبيدي في مأزق
  • مسؤولة بهيومن رايتس: خطر تجدد القتال بطرابلس لا يزال قائماً وبشكل كبير