عن انهيار الطبقة الوسطى في السودان
تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT
في لقاء لي مطوّل مع المهندس صلاح إبراهيم أحمد، في منزله في الخرطوم، قال لي إنه سأل حسن الترابي (رحمهما الله) عقب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 1989 عن تصوّره لكيفية التخلص من المقاومة المدنية، خصوصاً التي تعتمل دوماً في قرائح طلاب الجامعات في السودان، فقال له عبارة موجزة، لكنها بليغة الأثر في عمقها ومحتواها: حأعدّمهم الساندوتش (سيلهيهم في مسألة المعاش).
المسرحية التي أدخل بوجبها الترابي السجن والونسات والدردشات بينه وبين النخبة آنذاك، كشفتا مبكّراً عن مخطط الجبهة الإسلامية القومية، وعن طرائق تفكيرها في كيفية التغلب على المقاومة السياسية المدنية التي طالما قطعت الطريق على أطماع القيادات العسكرية في السودان وطموحها، من خلال المحاولة للتخلص كليّاً من الطبقة الوسطى التي تعتبر العمود الفقري للمجتمع المدني، كما يقول روبرت بتنام ولاري ديموند وآخرون. وإذ نجحت الجبهة الإسلامية القومية في مبتغاها، فقد أورثت السودان فشلاً سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، جعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، تدارك المعضلات حضارياً ومدنياً، الأمر الذي بات الشعب يعاني من مغبّته ويعايش تداعياته، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الحالية.
نجحت تلكم العصابة في مرادها ورضيت بانفرادها بالحكم ثلاثة عقود أو يزيد، لكن ذلك كان على حساب الإضرار بالنقابات والأحزاب، وإضعافها إلى درجة فقدت فيها الأخيرة الحيلة للقيام بدورها وسيطاً بين الشعب ومؤسّساته الدستورية، بين المهنيين ونقاباتهم الشرعية، بين القوات النظامية وأدوارها الوظيفية، إلى آخره. كذلك إن محاولة اقتلاع السودان من محيطه الأفريقي الصوفي والروحاني الإنساني والعزم، بل التعنت في محاولة لإلحاقه بالفضاء المشرقي الأيديولوجي والسلفي الدوغمائى قد قضى على كل روافد الثقافة التي تعتبر عماد النهضة ومرتجع الذات المفعمة بالأريحية والمحرِّضة على تتبع دروب التثاقف والتواصل مع الآخر.
ولذا عندما انفجرت ثورة ديسمبر المجيدة في 2019، لم تكن لقيادتها، خصوصاً النخب المركزية، أي موجهات فلسفية أو فكرية، مجرّد حمولات عاطفية سرعان ما تبخّرت، فيما ظل الإبحار العنيف لسفينة الثورة يواجه صعوبات جمّة، سيما أن القطبان حينها، عبد الله حمدوك، لم يستطع أن يوازن بين التطلعات والمعضلات، بين تطلعات الشباب ومعضلات الانتقال، بين طموحات العسكر وأطماع القوى الإقليمية، بين المقدّرات المؤسسية والمؤامرات التي ظل يحيكها أزلام النظام السابق.
عليه، يجب ألا ننظر إلى الحرب الراهنة في السودان على أّنها مجرّد تمرّد من فئة طامحة إلى الحكم، وإن يكن فإنّه لم يكن أول تمرّد وحتماً لن يكون الأخير، بيد أنه تمرّد من نوعية مربكة لذهنية النخب المركزية ونفسيتها، لأنه لأول مرة يحدث من المجموعة القبلية نفسها التي ظلت تستخدمها النخب المركزية لتطويع الهامش قسرياً، وتنظر إليها باعتبارها ساعداً عضلياً لزم استخدامه لقمع الطموحات المشروعة للشعوب المقهورة في الريف السوداني.
هذه الحرب، يا سادتي، هي نتيجة انهيار لمنظومة بدأت تتآكل منذ أمد بعيد، منظومة تحكّمت فيها عصابات مافيوية، وجدت ضالتها في "برنامج الإصلاح الهيكلي"، فأحالت ممتلكات القطاع العام إلى حسابها الخاص، الأمر الذي أفقد الدولة وظيفتها الأساسية التي تتعلق بتنظيم الاقتصاد، وضع ضوابط التجارة والاستثمار، ترشيد الصرف، ضمان الأمن الغذائي للمواطنين، تأهيل البنية التحتية، إلى آخره. لا غرو، فالحروب العبثيّة التي أشعلتها جبهة الإنقاذ، وما زالت توقد أوارها، قد أفقدت الدولة المركزية الحيلة اللازمة لتحقيق التنمية الريفية الشاملة، بالنظر إلى ما أهدر من موارد مادّية وروحية، كان يمكن أن تساعد في تحقيق التماسك الوجداني للشعب السوداني.
ما إن اشتعل فتيل الحرب، حتى هرع البرجوازي الصغير وجزع متباكياً على بيته، عربته، وذهب امرأته، من دون أن يكلف نفسه النظر في دواعي الغبن الاجتماعي الذي جعل العاصمة نهباً من أطرافها ومقصداً للمحرومين مع جهاتها الأربع. ليت الأمر توقف عند حد الازدراء، لكنه تعدّى ذلك إلى الافتراء، ووصف هؤلاء المستضعفين المُستَغَلين بأنهم غرباء.
من هُجّروا نتيجة الحروب التي قادتها "الإنقاذ" في الريف السوداني، وما تلا ذلك من حرب إبادة جماعية في دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان، قد أحال العاصمة إلى كانتونات عرقية (فأحياء من مثل جبرونا وطردونا وزقلونا والعزبة ورأس الشيطان تُنبئ مسمّياتها عن غبن ساكنيها وغضبهم المكتتم)، وأخرى كالتي حفِلت بها قرى الجزيرة فيما سمّي الكنابي، قد افتقدت لعقود مضت إلى أبسط الخدمات أو المقومات الحياتية، وهم اليوم يُقَتّلون ويذبّحون، حتى كاد رفاتهم المتراكم أن يغلق منفذ الترعة، من دون أن يسترعي ذلك اهتمام العسكر أو يستدعي رأفة من قلوبهم التي جُبِلت على استضعاف البؤساء والنساء وأصحاب السحنات السوداء.
يجب ألا ننسى الألغام الاجتماعية والقبلية، بخاصة التي زرعتها ذات المجموعة المتنفذة، الاستخبارات العسكرية بالتحديد، التي دأبت على إدارة الشأن الأمني بعقلية تآمريه، فانفجرت في دار مساليت، مضحّية بحياة حاكم الإقليم ومتسبّبة في مقتل آلاف من شعوب دار مساليت ونزوحهم. أمّا من بقي من شعوب دارفور، فتطاوله طائرات النظام الغاشم بوتيرة شبه يومية بالبراميل المتفجّرة التي تترصد المدنيين، في محاولة لكسر إرادتهم وهزيمة كبريائهم التي صانتها الحادثات وأيدته السنن الراتبات.
بما أن محور النقاش في هذه الورقة هو الاقتصاد السياسي، فيلزم التحدّث عن رؤية وطنية تتجاوز الحيف الذي ظلت تمارسه النخب المركزية التي لم تراعِ الميزات الاستراتيجية للأقاليم السودانية المختلفة، بل ظلت تعوّل على البندقية وسيلة لتطويع الهامش قسرياً، بعد أن فشلت حيلتها الأيديولوجية وتكشف عوار مكرها السياسي والأمني. ففي وقتٍ كانت دارفور تئن فيه من الجراح، كانت النخب "الإنقاذية" تتلهى ببناء سد مروي الذي تضاعفت تكلفته، وتناقصت سعته الإنتاجية نسبةً إلى ما اعتور النظم الإدارية من فساد ومحسوبية وغياب للشفافية.
الانتصار الحقيقي للشعب السوداني، بما فيها مجموعات السودان الشمالي النيل وسطى، هو بالانعتاق مع سطوة المليشيات العسكرية ومن سيطرة الرأسمالية النهبوية التي ما برحت تتدثّر بدثار القومية والمؤسّسية فانفضح زيفها، ما أحال البلاد إلى رماد والشعب إلى شتات. تفكيك هذا الجيش الذي أصبح بمثابة مليشيا تتناسل منها كل المليشيات القبيلة والعقائدية بات ضرورياً، سيما أنه قد أصبح مرفأً للمجموعات الإرهابية والداعشية التي باتت تهدّد الأمن القومي، وتقلق السلام الإقليمي والدولي. يجب أن يُعاد بناء الجيش على أسس احترافية ومهنية، تراعي أسس التكافؤ بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
ختاماً، التعويل في المرحلة المقبلة يجب أن يعتمد بدءاً على إبرام تسوية وطنية شاملة، علّها تفضي إلى توافق يساعد في استقطاب كل المؤمنين بأهداف ثورة ديسمبر المجيدة. وإذا كانت الحرب قد كشفت كثيراً من العورات الثقافية والسياسية للمجتمع السوداني، فإنها قد بيّنت أهمية "الحوار" وسيلة لتقويم العملية التي رافقت المسيرة الوطنية. لا بد من "الاعتراف" بالمظالم التاريخية التي طاولت المهمّشين في أنحاء البلاد كافة، ومن ثمّ السعي لإنصافهم من خلال المعالجة للاختلالات الوظيفية والهيكلية التي لازمت تكوين الدولة السودانية منذ 1821.
الوعظ والمناشدات الأخلاقية لا تكفي وحدها لمعالجة أمراض العنصرية والقبلية، فلا بد من وضع إصلاحاتٍ دستوريةٍ وفرض ضوابط قانونية تدرأ خطر التدميرية البشرية. لا أدرى حقيقة إن كان السودانيون قد تجاوزوا مرحلة التشافي، بالنظر إلى ما ارتكبوه من جرائم ضد بعضهم، بيد أنهم لا يملكون غير العمل معاً لتجنيب بلدهم حالات الانقسام أو الانفصال المحتمل. وإذا حدث ذلك، لا قدر الله، فإن النخب المركزية، الأيديولوجية منها خصوصاً، تتحمل العبء الأكبر في سَوق البلاد سَوقاً نحو هذا السيناريو المشؤوم، وذلك بإصرارها على فرض نظام "الكليبتوقراطية" (حكم اللصوص) من دون طائل، علماً أن الشعوب قد انعتقت من الخرافة، ولم يعد بمقدور أحدٍ إرجاعها إلى الحظيرة، وإذا شئت إلزامها بيت الطاعة.
نقلا عن العربي الجديد
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان
إقرأ أيضاً:
وزير المالية السوداني: وقف الحرب أولا وشعبنا سيحكم نفسه بنفسه
وفي حلقة جديدة من بودكاست "ذوو الشأن"، سلط الدكتور جبريل إبراهيم، الذي يترأس حركة العدل والمساواة، الضوء على مسيرته الحافلة بالتحولات، من قرية طينية نائية على الحدود التشادية إلى أروقة السياسة والاقتصاد في السودان، مرورا بتجربة دراسية وعملية غنية في اليابان والسعودية ولندن.
وتناول الوزير السوداني الأوضاع الاقتصادية الراهنة، معترفا بصعوبتها جراء الحرب، لكنه نفى وجود مجاعة شاملة، مشيرا إلى وفرة الإنتاج الزراعي ومشكلة رئيسية في إيصال الغذاء للمتضررين، كما تطرق إلى جذور الصراع في دارفور، وخلفيات تأسيس حركة العدل والمساواة، وموقفه من حمل السلاح.
بدأ الدكتور جبريل إبراهيم حديثه مستذكرا طفولته في قرية صغيرة قرب الطينة، المحاذية لتشاد، حيث الحياة القاسية وشظف العيش. وقال "الناس تتنقل نصف اليوم للوصول إلى مصادر المياه، وتعُود نصف اليوم الآخر"، واصفا كيف قاده إعجابه بمظهر أخيه الأكبر الأنيق إلى الالتحاق بالمدرسة.
وروى كيف تنقل بين المدارس الداخلية من الطينة إلى الفاشر، ثم إلى جامعة الخرطوم، مواصلا "انزياحا شرقا" أوصله إلى اليابان، التي يسميها البعض "بلاد الوقواق"، موضحا أن اسمها الحقيقي "واكوكو" يعني "بلاد السلام".
إعلانوأمضى إبراهيم 7 سنوات في اليابان، حيث درس الاقتصاد وأتقن اللغة اليابانية، التي بدأت تتآكل بمرور الزمن، على حد قوله. وعن تجربته هناك، ذكر كيف كان الأفارقة منظرا غريبا لليابانيين، خاصة في القرى، حيث كان الأطفال يتجمعون حولهم.
تكوين ورؤى اقتصاديةوبعد اليابان، انتقل وزير المالية للعمل في السعودية لمدة 4 سنوات، مدرسا للاقتصاد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، قبل أن يعود إلى السودان حيث كُلف بتأسيس شركة "عزة" للنقل الجوي، وهو الاسم المستعار الذي كان يُطلق على السودان إبان الاستعمار.
ثم غادر إلى تشاد ومنها إلى الإمارات، قبل أن يستقر في لندن لاجئا بعد أن طلبت الحكومة السودانية آنذاك تسليمه، وأوضح أن اتهامه بدعم الثورة في دارفور كان السبب وراء طلب تسليمه.
وعن الأوضاع الاقتصادية الحالية، أقر إبراهيم بصعوبتها، مشيرا إلى أن معظم النشاط الاقتصادي ومصادر إيرادات الدولة كانت متمركزة في العاصمة الخرطوم التي تضررت بشدة، وأكد أن الدولة لم تصل إلى الصفر في إيراداتها، وتعتمد حاليا على مواردها الذاتية من ضرائب وجمارك وعوائد الذهب.
ونفى الوزير وجود مجاعة شاملة، مؤكدا أن إنتاج السودان من الغلال يفوق الحاجة، وأن برنامج الغذاء العالمي يشتري الذرة من السودان لتصديرها، وأرجع شح الغذاء في بعض المناطق إلى ممارسات "المليشيا المتمردة" التي تمنع وصوله، فضلا عن فقدان القدرة الشرائية للمواطنين النازحين.
رؤية لإعادة البناءوطرح الدكتور جبريل إبراهيم رؤيته لإعادة بناء الاقتصاد السوداني، مرتكزة على محورين: الأول هو الاستثمار في "رأس المال البشري" عبر التعليم النوعي والخدمات الصحية، والثاني هو تطوير البنية التحتية المادية من طرق وجسور والسكك الحديدية وموانئ وشبكات خدمات.
وأشار إلى سعي وزارته قبل الحرب لرفع نصيب التعليم والصحة في الميزانية إلى 40%. ولتمويل البنية التحتية، دعا إلى شراكات إستراتيجية بنظام البناء والتشغيل ثم تحويل الملكية "بي أو تي" (BOT)، مؤكدا تهيئة البيئة التشريعية لذلك.
إعلانوفيما يتعلق بالمساعدات الخارجية، أوضح أن أموال الغرب "مُسيّسة"، وأن الدعم حاليا يأتي عبر طرف ثالث، غالبا وكالات الأمم المتحدة، بعد تصنيف التغيير في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 انقلابا، وأشاد بالدعم الإغاثي من الدول العربية والخليجية وإيران وتركيا.
الحرب والسياسة والمستقبلوتطرق وزير المالية إلى الحرب الدائرة مع قوات الدعم السريع، معتبرا إياها "مشروعا إقليميا ودوليا كبيرا" وأن الدعم السريع "مجرد أداة تستخدم مرحليا"، وربط الصراع بأطماع في سواحل البحر الأحمر وموارد السودان المائية والزراعية والمعدنية، وربما بمحاولة "تغليف المسألة بمحاربة الإسلام السياسي".
وبشأن الأوضاع في الفاشر، أكد صمود المدينة أمام هجمات الدعم السريع المتكررة، قائلا "لن تسقط بإذن الله"، مشيرا إلى رمزيتها التاريخية كعاصمة لإقليم دارفور.
وعن موقفه من الحكم العسكري، قال إبراهيم إنه مع الحكم المدني تماما، وإن الظرف الحالي فرض وجودا عسكريا في السلطة، مددت الحرب عمره.
وأعرب عن ثقته في قدرة الشعب السوداني على تغيير الأنظمة العسكرية عبر الثورات، متوقعا حوارا سودانيا-سودانيا شاملا بعد الحرب لرسم خارطة طريق نحو انتخابات حرة.
وردا على تصريحات الفريق البرهان حول أداء بعض الوزراء، نفى الدكتور جبريل أن يكون من المقصودين، مؤكدا أن التعيينات في الدولة تخضع لإجراءات وقوانين تحد من سلطة الوزير المطلقة، وأن صلاحياته في التعيين المباشر تقتصر على 3 أشخاص.
جذور الصراع في دارفوروعاد إبراهيم بالذاكرة إلى نشأة حركة العدل والمساواة، مؤكدا أنها حركة قومية وليست قبلية أو إقليمية، تهدف إلى تحقيق العدالة والتنمية المتوازنة في كل أقاليم السودان. وأوضح أن فكرة الحركة تبلورت منذ عام 1995 نتيجة شعور بالظلم والتهميش.
وكشف الوزير أنه كان "الوحيد الذي اعترض على حمل السلاح" في المؤتمر الذي تقرر فيه ذلك بألمانيا، مفضلا الحوار، لكن قناعة الأغلبية كانت أن الحكومة آنذاك "لا تسمع إلا أصوات المدافع". ورغم ذلك، أكد أنه ليس نادما على خيار التمرد المسلح الذي فرضته الظروف.
إعلانوأرجع أسباب الصراع في دارفور إلى الشعور بالظلم من قبل المركز في توزيع الفرص والمشروعات التنموية، وإلى دور الحكومة أحيانا في "اللعب على التناقضات القبلية وتفضيل مكونات على أخرى"، مما أدى إلى تطاحن كبير.
واختتم الدكتور جبريل إبراهيم حديثه بالتأكيد على أن وقف الحرب هو الأولوية، وأن الشعب السوداني بعد ذلك "سيحكم نفسه بنفسه"، معربا عن تفاؤله بمستقبل السودان رغم التحديات الجسيمة.
30/5/2025