لا تخدعوا أنفسكم بأن الأمر سيقتصر على جامعة كولومبيا
تاريخ النشر: 17th, March 2025 GMT
جامعة كولومبيا الآن بؤرة الحرب الثقافية الأمريكية، إذ تستهدف إدارة ترامب طالبا سابقا في جامعة كولومبيا ـوتستهدف الجامعة نفسهاـ على سبيل اختبار نظامها الاستبدادي الجديد.
ولا تقتصر قصة جامعة كولومبيا على محمود خليل، طالب الدراسات العليا السابق في الشؤون الدولية، الذي كان أحد قادة الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين التي برزت إثر هجمات حماس في السابع من أكتوبر 2023، ولكن عندما داهم مسؤولو الهجرة الفيدراليون شقته في نهاية الأسبوع الماضي واقتادوه إلى منشأة في لويزيانا لبدء إجراءات الترحيل، كاشفين بوضوح ما يعتري إدارة ترامب من حقد وعجز.
بدا العجز واضحا منذ البداية. فعند اعتقال خليل، يبدو أن الضباط الفيدراليين كانوا يعتقدون أنه موجود في الولايات المتحدة بتأشيرة طالب، وهذا غير صحيح؛ فهو يحمل البطاقة الخضراء «جرين كارد» أي أنه مقيم دائم في الولايات المتحدة بصفة شرعية.
وكان الحقد واضحا هو الآخر. فبرغم إقامته الدائمة، التي يبدو أن رجال الأمن الموجودين في موقع الحدث قد علموا بها مبكرا، لم تسمح الحكومة لخليل بإجراء محادثة سرية مع محاميه إلا بعد أن تلقت أمرا بذلك من قاض فيدرالي. وقد تم إبعاد خليل عن عائلته بينما زوجته، المواطنة الأمريكية، حامل في شهرها الثامن.
فما السبب في اعتقاله، واحتمال ترحيله، وعزله عن محاميه؟ وفقا لإشعار المثول الذي قدمته وزارة الأمن الداخلي لخليل، «قرر وزير الخارجية أن وجودك أو أنشطتك في الولايات المتحدة ستكون لها عواقب وخيمة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة».
وبرغم ما في هذا البيان من إدانة ظاهرة، فالحقيقة هي أنه تم احتجاز خليل بسبب نشاطه الاحتجاجي، وليس لتقديمه دعما غير قانوني لإرهابيين. وكما صرح مسؤول في الإدارة لـ«ذي فري برس» فإن «الادعاء هنا ليس بمخالفته للقانون».
وفي مقابلة مع إذاعة أمريكا الوطنية أوضح تروي إدجار نائب وزير الأمن الداخلي، أن الإدارة تستهدف حرية خليل في التعبير، إذ قال إدجار: «لقد دعونا الطالب وسمحنا له بدخول البلد، فوضع نفسه وسط نشاط مؤيد للفلسطينيين، وفي هذه المرحلة، كما ذكرت، يمكن أن يراجع وزير الخارجية إجراءات منحه التأشيرة في أي وقت وإلغائها».
غير أنه ما من تأشيرة لتراجع. فخليل مقيم دائم الآن. ولا مجال للظن الخاطئ بأن اعتقال محمود خليل واحتجازه ليسا اعتداء مباشرا على حرية التعبير.
ومع أنني أشعر بالفزع من تصرفات الإدارة، فإنني غير مندهش من أن القضية نشأت مما كان يفعله شخص ما في جامعة كولومبيا. فالجامعة تشهد اضطرابات سياسية متفاوتة منذ عقود.
فالواقع أنه حدث قبل عشرين عاما أن اضطررت للمرة الأولى للمرور عبر أجهزة الكشف عن المعادن لإلقاء خطاب في جامعة كولومبيا. كنت في ذلك الوقت رئيسا لمؤسسة الحقوق الفردية في التعليم (التي تعرف الآن بـ«مؤسسة الحقوق الفردية والتعبير»)، وذهبت إلى الحرم الجامعي للدفاع عن حق الطلاب اليهود في الاعتراض على معاداة السامية في قسم لغات وثقافة الشرق الأوسط وآسيا في الجامعة.
لن أنسى أبدا مناخ التهديد الذي ساد الحرم الجامعي والفعالية نفسها. كان الحاضرون يصيحون في وجهي ويهتفون ضد بعضهم بعضا. والمتظاهرون يهتفون في القاعات.
لكن تلك كانت تجربة تافهة بالمقارنة مع ما حدث في الحرم الجامعي عقب هجمات حماس.
فقد واجه الطلاب اليهود محنة في جامعة كولومبيا وفي العديد من جامعات النخبة الأمريكية الأخرى. ففي حين كان العديد من المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين ينتقدون الرد العسكري الإسرائيلي سلميا وقانونيا، غالبا ما كانت المظاهرات تتخذ منعطفا قاتما.
إذ احتفل أنصار حماس بالهجمات، وخرجت المظاهرات ضد إسرائيل عن السيطرة. فاحتل المتظاهرون مساحات كبيرة من حرم الجامعة لأيام متواصلة، وفي جامعة كولومبيا، استولى فصيل من المتظاهرين على قاعة هاميلتن، وهي مبنى إداري مركزي.
ووفقا لشكوى من ٢٣٤ صفحة تقدم بها تحالف من الطلاب اليهود والمنظمات اليهودية ضد جامعة كولومبيا، فإن «الطلاب اليهود والإسرائيليون تعرضوا للبصق والاعتداء الجسدي والتهديد والاستهداف في الحرم الجامعي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي بالتعبيرات القاسية»، ومن بينها عبارات مثل «الموت لليهود» و«الخنزير الصهيوني» و«قاتل الأطفال».
وفي حين أنه يصعب تحديد صدق كل ادعاء ضد جامعة كولومبيا بالتمييز أو التحرش المعادي للسامية، فقد كان الوضع خطيرا بحيث أجرت إدارة بايدن تحقيقا بموجب الباب السادس ضد الجامعة في نوفمبر 2023، حتى قبل احتجاجات عامي 2024 و2025 الخارجة عن القانون.
ويوجب الباب السادس من قانون الحقوق المدنية لعام 1964 على المؤسسات التعليمية الممولة فيدراليا حماية الطلاب من التمييز على أساس العرق أو اللون أو الجنسية الأصلية. وقد فسرت إدارتا بايدن وترامب هذا الباب السادس باعتبار أنه يحظر التمييز والمضايقة المعادية للسامية.
غير أنه في الوقت نفسه، ليست حماية الطلاب من التمييز هي الأولوية الوحيدة لجامعة كولومبيا. إذ ينبغي أن تولي الجامعة أيضا اهتماما بالغا بحرية التعبير والحرية الأكاديمية.
وليست جامعة كولومبيا بالجامعة العامة، ولذا فهي غير ملزمة بالتعديل الأول للدستور (الذي يقتصر على الحماية من الرقابة الحكومية)، ولكنني مقتنع بالقوة الأخلاقية لكلمات المحكمة العليا في قضية سويزي ضد نيو هامشير عام 1957: «يجب أن يظل المعلمون والطلاب أحرارا دائما في التساؤل والدراسة والتقييم، واكتساب النضج والفهم الجديدين، وإلا ستركد حضارتنا وتموت».
بعبارة أخرى، ثمة التزام مزدوج يقع على عاتق الجامعات، وهو حماية الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والموظفين من التمييز والتحرش، مع حماية حرية التعبير في الحرم الجامعي أيضا. وليست هذه بالمهمة اليسيرة. فهي تتطلب مزيجا من الحكمة والشجاعة.
وإدارة ترامب لا تمتلك الحكمة أو الشجاعة، وهي الآن بصدد استخدام مزاعم معاداة السامية في الحرم الجامعي مبررا لانتهاكات جسيمة للإجراءات القانونية الواجبة وحرية التعبير. وهكذا تحل محل المخاوف الحمراء التي سادت فترة معاداة الشيوعية في القرن العشرين موجة جديدة من الجنون المستعر ضد مؤيدي القضية الفلسطينية من اليسار.
ولست أول من يعقد هذه المقارنة، ويرجع ذلك جزئيا إلى وجود تشابه واضح، ففي كلتا الحالتين، كانت للرقابة جاذبية سياسية. فالشيوعية أيديولوجية بغيضة، وعدم شعبية الشيوعيين وأفكارهم (خاصة في ذروة الحرب الباردة) جعلهم أهدافا تجتذب الشعبويين والديماجوجيين. فكان بإمكان الحكومة فرض الرقابة على الشيوعيين وسط تصفيق حار.
والتعاطف مع حماس (ناهيكم بدعمها) بغيض بالقدر نفسه. وثمة حشد من الناس في الجامعات قالوا أشياء بغيضة فعلا بحق إسرائيل والصهيونية واليهود. فدعوا إلى تدمير الدولة اليهودية وإلى العنف ضد اليهود. ومعاقبة هذه الأصوات تجلب هي الأخرى تصفيقا حارا، وخاصة من قطاعات في قاعدة الرئيس ترامب الانتخابية، دون أن تقتصر عليها.
ومع ذلك، وفي حين ننظر بخجل إلى تجاوزات المكارثية في الماضي، فإننا سوف ننظر في خجل إلى تجاوزات اللحظة الراهنة، إذا سمحنا للغضب من مظاهرات الحرم الجامعي أن يطغى على التزامنا بالإجراءات القانونية الواجبة وحرية التعبير.
ولنبدأ بحرية التعبير. من الصعب أن أحصي جميع أوجه اختلافي مع نشاط خليل المناهض لإسرائيل. فالمخيمات تعارضت مع حقوق الطلاب الآخرين في الحرم الجامعي. وهناك أيضا أدلة على أن جماعة مؤيدة للفلسطينيين كان خليل ينتمي إليها قد أيدت الهجمات العنيفة على إسرائيل، ومن ضمن ذلك نشر مقال يصف هجمات السابع من أكتوبر بأنها «نصر أخلاقي وعسكري وسياسي».
لكن مشاعري تجاه جوهر هذه الآراء لا تمت بصلة لدستوريتها. فالواقع إن الهدف الأساسي من بند حرية التعبير في التعديل الأول من الدستور هو حماية التعبير الذي يسعى مواطنون آخرون إلى قمعه. أما التعبير ذو الشعبية فلا يحتاج إلى حماية قانونية.
ثم إنه من الثابت منذ أمد بعيد أن التعديل الأول للدستور لا يقتصر على حماية حقوق المواطنين الأمريكيين فحسب. فقد قضت المحكمة العليا في قضية «بريدجز ضد ويكسون» عام 1945 بأن «حرية التعبير والصحافة مكفولة للأجانب المقيمين في هذا البلد».
غير أن هذا لا ينهي التحقيق. إذ يتبين أن القوانين الفيدرالية تعكر صفو الأمور وتخول للمسؤولين الفيدراليين ترحيل المقيمين الدائمين القانونيين أنفسهم إذا ما ثبت أنهم يمثلون تهديدا للأمن القومي أو يدعمون منظمات مصنفة ضمن المنظمات الإرهابية. ونادرا ما يتم الاحتجاج بهذه القوانين، لدرجة أنه لا توجد سوابق قضائية كافية لتحديد كيفية تطبيق المحاكم لها على خليل تطبيقا دقيقا.
ومن المهم أن نتخذ منعطفا تقنيا موجزا للتوضيح. في الوقت الحالي، تعتمد الإدارة على المادة 1227 من قانون الولايات المتحدة رقم 8 التي تنص على أن «أي أجنبي تتوافر أسباب معقولة للاعتقاد بأن وجوده أو أنشطته في الولايات المتحدة قد تستتبع عواقب وخيمة محتملة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، يكون قابلا للترحيل».
وتنص مادة أخرى، هي المادة 1182 من الباب الثامن في قانون الولايات المتحدة، على أن أي أجنبي «يؤيد أو يتبنى نشاطا إرهابيا أو يقنع آخرين بتأييد أو تبني نشاط إرهابي أو بدعم منظمة إرهابية» يمكن منعه من دخول البلد. ويمكن لانتهاك هذه المادة نفسها أن يشكل سببا للترحيل.
لكن الاستناد إلى هذه القوانين يثير تساؤلات إضافية. فهي، أولا، فضفاضة للغاية. ففكرة أن احتجاج طالب دراسات عليا داخل الحرم الجامعي يمكن أن يفضي إلى «عواقب وخيمة محتملة على السياسة الخارجية» تكاد تكون فكرة عبثية في ظاهرها، وحتى لو أن خليل أيد الهجمات الإرهابية على إسرائيل، يظل ذلك في نطاق حرية تعبير التي يحميها الدستور. والتعديل الأول في الدستور يسمح بمناصرة العنف، والعنف غير القانوني، ما دام المتحدث لا يحرض على عمل وشيك خارج عن القانون.
يحمي هذا المعيار متظاهري الحرم الجامعي الذين هتفوا داعين إلى «عولمة الانتفاضة»، ويحمي أيضا من يطالبون بالتهجير القسري للفلسطينيين من غزة. ففي كلتا الحالتين، يؤيد المتظاهرون أعمالا عنيفة غير قانونية. ومع ذلك، في كلتا الحالتين، يحمي الدستور حريتهم في التعبير.
والاعتداء على الإجراءات القانونية الواجبة لا يقل خطورة عن الاعتداء على حرية التعبير. ففي هذا الشهر، أعلنت إدارة ترامب إلغاء عقود ومنح فيدرالية تقدر قيمتها بنحو أربعمائة مليون دولار لجامعة كولومبيا. وجاء في بيان الإدارة أن عمليات الإلغاء جاءت «بسبب تقاعس الجامعة المستمر في مواجهة التحرش المستمر بالطلاب اليهود»، و«من المتوقع أن تتبعها عمليات إلغاء أخرى».
للوهلة الأولى، يبدو الإجراء قانونيا. ففي نهاية المطاف، يلزم الباب السادس المدارس بحماية الطلاب من التحرش، وهناك أدلة كافية على أن الطلاب اليهود واجهوا محنة في الحرم الجامعي.
لكن ثمة مشكلة، فالقوانين واللوائح الفيدرالية لا تسمح بإنهاء المساعدة المالية الفيدرالية إلا عندما «يتعذر ضمان الامتثال بالوسائل الطوعية» وعندما «يكون هناك استنتاج صريح مسجل، بعد فرصة الاستماع، بعدم الامتثال».
ولم تعقد جلسة استماع. بل تصرفت الإدارة ببساطة. وكقاعدة عامة، لا تتبع أمتنا نهج ملكة القلوب في «أليس في بلاد العجائب»: «العقوبة أولا، ثم الحكم». أو هذا ما يفترض على الأقل.
ولزيادة الطين بلة، أرسلت إدارة ترامب يوم الخميس رسالة إلى جامعة كولومبيا تطالبها فيها بإجراء تغييرات في حوكمتها، وإجراءات القبول فيها، وبرامجها الأكاديمية «كشرط مسبق للمفاوضات الرسمية» مع الإدارة. غير أن الإدارة لا تملك السلطة القانونية أو الدستورية لفرض هذه المطالب. فلا تزال جامعة كولومبيا جامعة خاصة تتمتع بحقوقها الدستورية الخاصة.
وتقول الإدارة إن هذا أول الغيث. في العاشر من مارس، أخطرت وزارة التعليم ستين جامعة باحتمالية مواجهتها إجراءات من جراء عدم حمايتها للطلبة اليهود من التحرش المعادي للسامية. وكتب الرئيس نفسه أن احتجاز خليل هو «الأول ضمن اعتقالات عديدة قادمة».
والتأثير المرعب على حرية التعبير هنا تأثير عميق. فحتى لو تم الدفاع عن حقوق خليل في نهاية المطاف، وحتى لو نجحت جامعة كولومبيا في مقاومة جهود الإدارة لإلغاء المنح والعقود والتحكم فيما تدرّسه ومن يدرسون فيها، فلن يكون غير القليل للغاية من الأشخاص أو المؤسسات مستعدين لمواجهة الإدارة، لو أن للمواجهة هذه الثمن الباهظ.
ومثلما قال جيلاني كوب، عميد كلية الصحافة بجامعة كولومبيا، لحشد من الطلاب كثير منهم من دول أجنبية: «لا أحد يستطيع حمايتكم».
يتردد أن الجامعة بدأت في التدقيق في الخطاب الذي من الواضح أنه محمي دستوريا في جامعة عامة. ففي السادس من مارس، ذكرت وكالة أسوشييتد بريس أن جامعة كولومبيا تجري تحقيقا مع طالبة تدعى مريم علوان بتهمة التحرش التمييزي. ومن جرائمها المزعومة كتابة مقال يدعو إلى سحب الاستثمارات من إسرائيل.
والمفارقة المريرة في لحظتنا غير الدستورية الراهنة هي أن آراء الطلاب الأجانب قد تكون ذات قيمة خاصة عندما تهيمن الشؤون الخارجية على الخطاب الأمريكي. فلماذا لا نرغب في الاستماع إلى آراء الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين غالبا ما يكون لديهم معرفة مباشرة بالأوضاع القائمة على الأرض؟ وهل حقا لا نريدهم أن ينعموا بالتعبير عن آرائهم بحرية عندما يفعلون ذلك؟
إنه لأمر مريع أن نقول للمهاجرين أو الطلاب الأجانب: «مرحبا بكم في أرض الأحرار، لكن انتبهوا لما تقولونه».
لقد أشرت إلى قضية سويزي ضد نيو هامشاير سابقا. لقد نشأت هذه القضية من قانون صدر عام 1951 في نيو هامشاير بهدف قمع ما يسمى بالأنشطة التخريبية. وعلى حد تعبير المحكمة العليا: «تم وضع برنامج ولاء للقضاء على « الأشخاص التخريبيين » بين موظفي الحكومة. إذ طولب جميع الموظفين القائمين، والمرشحين لمناصب انتخابية مستقبلا، بالإدلاء بتصريحات تحت القسم بأنهم ليسوا «أشخاصا تخريبيين».
ولقد تغيرت هوية «الأشخاص التخريبيين»، فبعد أن كانوا الشيوعيين أصبحوا المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين، لكن دافع الرقابة لا يزال على حاله.
ومع ذلك، وكما ذكرت المحكمة العليا في قضية سويزي، فإنه «لا تنبغي إدانة محض الخروج عن المألوف أو المعارضة للأعراف السائدة. فغياب هذه الأصوات سيكون علامة على مرض خطير في مجتمعنا».
لقد ظننا أننا عالجنا هذا الداء عندما تجاوزنا فترة «الخوف الأحمر» والحرب الباردة مع بقاء التعديل الأول على حاله دونما مساس. ولكن المرض يعاودنا. ولقد أصبحت جامعة كولومبيا هي المريض رقم صفر في تفشي الرقابة والقمع. وما لم يتم إيقاف الأمر عند هذا الحد، فلكم أن تتوقعوا خضوع المزيد من الجامعات لسيطرة ترامب. ولكم أن تتوقعوا انتشار القمع السياسي ليتجاوز حدود الجامعة. ولكم أن تتوقعوا استماع المزيد من المعارضين لطرق على الباب وسؤال: «هل أنت فلان؟»
ومرة أخرى، نرى الحرية الأمريكية في الميزان. لقد سلم دستورنا سابقا من موجات من القمع الحكومي، ولا ضمانة لأن يسلم من موجات أخرى.
ديفيد فرينش من كتاب الرأي في نيويورك تايمز
** خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الولایات المتحدة فی جامعة کولومبیا فی الحرم الجامعی المحکمة العلیا الطلاب الیهود حمایة الطلاب حریة التعبیر إدارة ترامب على أن غیر أن
إقرأ أيضاً:
الهيمنة على المسجد الإبراهيمي: الاحتلال يكافئ الصهيونية الدينية بالسيطرة على المقدسات
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في خطوة اعتبرها الفلسطينيون انقلابًا على الوضع القائم وانتهاكًا صارخًا للاتفاقيات الدولية، أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا سحب صلاحيات وزارة الأوقاف الفلسطينية وبلدية الخليل في إدارة المسجد الإبراهيمي الشريف، ونقلها إلى ما يُعرف بـ«المجلس الديني اليهودي» في مستوطنة كريات أربع.
هذه الخطوة غير المسبوقة قوبلت برفض شعبي ورسمي واسع، وسط مخاوف متصاعدة من أن تكون تمهيدًا لفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الحرم الإبراهيمي، بل وامتدادًا لسيناريو تهويد المسجد الأقصى لاحقًا.
أن القرار الذي صدر دون أي تنسيق مع الجهات الفلسطينية، يضرب بعرض الحائط كل التفاهمات الدولية حول المدينة القديمة في الخليل، ويضع المسجد الإبراهيمي، ثاني أقدس مسجد في فلسطين، على رأس أولويات مشروع التهويد الاستيطاني الذي تقوده حكومة يمينية متطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو وبدفع مباشر من وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش.
الخطورة لا تكمن فقط في نقل الصلاحيات الإدارية، بل في التداعيات الرمزية والسياسية لهذه الخطوة؛ إذ تمثل إعلانًا ضمنيًا بأن إسرائيل قررت تجاوز سلطة الأوقاف الإسلامية وبلدية الخليل، ومباشرة أعمالها التهويدية من خلال جهة دينية استيطانية لا تعترف أصلًا بهوية المكان وتاريخه الإسلامي.
التطور الجديد يأتي بعد أكثر من ثلاثة عقود على صدور قرار لجنة «شمغار» الإسرائيلية، التي قسمت المسجد الإبراهيمي عقب المجزرة التي نفذها المستوطن باروخ جولدشتاين عام 1994، لتصبح 60% من المساحة خاضعة لليهود، فيما تبقى للمسلمين مساحة محدودة يتحكم بها الاحتلال إداريًا وأمنيًا.
ومع قرار نقل الصلاحيات الجديد، تفتح إسرائيل الباب أمام تغييرات بنيوية في طبيعة الحرم، مثل تركيب نظام إطفاء متطور وكاميرات مراقبة وبناء سقف في ساحة يعقوب، وكلها أعمال تهدف إلى تعزيز الوجود اليهودي في المسجد، تحت ذريعة السلامة أو التنظيم، لكنها في الحقيقة تجسيد فعلي لسياسة فرض الأمر الواقع.
وتزامنًا مع هذا القرار، حذّرت جهات فلسطينية رسمية ودينية من أن يكون هذا التحول مجرد مقدمة لفرض سيطرة مماثلة على المسجد الأقصى المبارك، ضمن سياسة «التهويد أو الأسرلة المتدرج» التي بدأت بهدوء في الحرم الإبراهيمي، لكنها لا تنوي التوقف عنده.
رفض شعبي
في الأسواق القديمة للخليل، وتحت ظلال مآذن المسجد الإبراهيمي، يغلي الغضب الشعبي من القرار، الذي قد يحرم الفلسطينيين من الصلاة في حرم إبراهيم تدريجيًا.
يقول المواطن الخمسيني سعيد الجعبري: «لم نعد نثق بأي وعود دولية. كل يوم نخسر جزءًا من الحرم، واليوم الاحتلال يعلن صراحة أنه لم يعد يعترف بأي صلاحية فلسطينية. هذا احتلال ديني بلباس إداري».
يستذكر الجعبري لحظات الطفولة حين كانت ساحة المسجد مفتوحة للمصلين والزائرين دون حواجز، ويقول: إن الاحتلال منذ مجزرة 1994 يعمل على تقطيع الحرم وتمزيق حضوره الإسلامي، والقرار الأخير جاء ليُكمل هذا المشروع القديم الجديد.
ويضيف بغضب خلال حديثه لـ«عُمان»: «نحن نعيش في الخليل لكننا محرومون من الصلاة بحرية في مسجدنا. كل زاوية فيه مراقبة، وكل خطوة تحتاج لتصريح. والآن، يريدون أن يديروه من كريات أربع، هذه وقاحة ما بعدها وقاحة».
أما ناهد سويطي، وهي معلمة تسكن قرب المسجد، فتقول: «كأن الاحتلال يريد أن يقول لنا: إن صوتنا لم يعد له قيمة، وإن المسجد لم يعد لنا. هذا القرار يدوس على مشاعرنا الدينية والوطنية، ويفتح الباب لمزيد من الاقتحامات والتغييرات».
وتضيف خلال حديثها لـ«عُمان»: إن سكان الخليل اعتادوا العيش في حصار دائم، لكن ما يجري في المسجد الإبراهيمي تجاوز الحصار إلى الاستئصال: «الآن يدير شؤوننا مستوطنون، لا يعترفون بنا أصلًا.. كيف نقبل ذلك؟».
صلاحيات مغتصبة
من جهة رسمية، اعتبر رئيس بلدية الخليل، تيسير أبو سنينة، أن القرار الإسرائيلي «يمثل اعتداءً صارخًا على حقوق المواطنين الفلسطينيين، وعلى الصلاحيات التاريخية لبلدية الخليل ووزارة الأوقاف، التي تمثل الوصاية الدينية على المسجد الإبراهيمي منذ قرون».
وأضاف : إن «نقل الإدارة إلى مجلس مستوطنة كريات أربع هو عدوان على الإرث الإنساني المسجل في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، ويشكّل انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي والمواثيق التي تحفظ للمدنيين حقوقهم في الأماكن المقدسة».
وأشار أبو سنينة إلى أن البلدية كانت على الدوام المسؤولة عن تقديم الخدمات العامة للمنطقة، والإشراف على محيط الحرم، وأن قرار الاحتلال يعني عمليًا تقويض هذا الدور وإفراغه من مضمونه.
وشدّد على أن ما يجري «لا يهدف إلى التنظيم أو الصيانة كما يروّج الاحتلال، بل إلى تثبيت سيطرة استيطانية على مكان إسلامي خالص، وتحويله تدريجيًا إلى كنيس يهودي مغلق أمام المسلمين».
موقف الأوقاف
أما وزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني الدكتور محمد نجم، فقد اعتبر أن الخطوة الإسرائيلية «تندرج ضمن سلسلة من الإجراءات التعسفية التي لا يمكن أن تمنح الاحتلال أي شرعية في الحرم الإبراهيمي».
وقال نجم، في تصريح لـ«عُمان»: إن «الاحتلال يسعى جاهدًا لإلغاء الوجود الإسلامي في الحرم، من خلال التحكم في أوقات الصلاة، ومنع رفع الأذان، وفرض قيود على الحركة، والآن يريد استكمال السيطرة عبر إدارة تابعة للمستوطنين».
وأضاف: إن وزارة الأوقاف لن تتعامل مع هذا القرار، وستواصل أداء دورها التاريخي والديني، وستلجأ إلى كل المحافل الدولية من أجل وقفه.
وأكد نجم أن «تهويد الحرم الإبراهيمي لن يمر، وأنه كما سقطت قرارات أخرى ظالمة بحق مقدساتنا، فإن هذا القرار سيُفشل بإرادة أبناء الخليل وكل أحرار العالم».
شكوى اليونسكو في ظل هذه التهديدات المتزايدة للمسجد الإبراهيمي، أعلنت السلطة الفلسطينية أنها قدّمت شكوى رسمية إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، باعتبار أن المسجد مدرج ضمن قائمة التراث العالمي كممتلك حضاري إنساني.
وأشارت الشكوى إلى أن التغييرات التي تعتزم إسرائيل إجراءها، مثل بناء السقف جديد وتركيب الكاميرات، تُعد تعدّيًا مباشرًا على الطابع المعماري والديني للمكان، ومحاولة لإيجاد واقع جديد لا يعكس الحقيقة التاريخية.
وأكدت السلطة في شكواها أن هذه التدخلات لن تنجح في طمس هوية المسجد، ولن تمنح إسرائيل أحقية في إدارة مكان ليس لها فيه أي جذور شرعية أو دينية.
استهداف مقدسات
من جهته ، يرى الدكتور عبد الله معروف، الباحث المتخصص في شؤون القدس والمسجد الأقصى أن القرار الإسرائيلي بنقل إدارة الحرم الإبراهيمي ليس سوى محطة في مسلسل طويل من السياسات التهويدية التي تستهدف الهوية الدينية الإسلامية في فلسطين.
ويقول معروف : إن «ما يحدث في الخليل هو بالضبط ما تحاول إسرائيل تنفيذه في القدس: فرض السيادة الدينية بالقوة، وتحويل الأماكن الإسلامية إلى رموز يهودية رغمًا عن أصحابها».
ويُذكّر بأن لجنة «شمغار» الإسرائيلية التي قسّمت الحرم بعد مجزرة 1994، كانت أول خطوة لشرعنة الاقتحامات، وأن القرار الجديد يُكمل هذه الخطة، ويمهّد لتجارب مماثلة في المسجد الأقصى.
ويؤكد أن الخطر الحقيقي يتمثل في تمرير هذه القرارات تحت غطاء «الصيانة» أو «الإدارة»، بينما الهدف الحقيقي هو فرض السيطرة الكاملة على أحد أبرز المعالم الإسلامية في فلسطين.
ويختم معروف بأن «الصمت الدولي والعربي، أو الاكتفاء بالشجب، يشجّع الاحتلال على مواصلة خطواته، وأنه إذا لم يتحرك المجتمع الدولي اليوم لحماية الحرم الإبراهيمي، فإن الدور سيأتي على المسجد الأقصى».
مشروع الضم
من جهته، يربط الباحث الفلسطيني في شؤون الاستيطان أحمد حنيطي هذا القرار بما يُعرف بمشروع الضم التدريجي للضفة الغربية، الذي يروّج له وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش.
ويقول حنيطي، في تصريح لجريدة لـ«عُمان»: إن «إسرائيل تحاول اليوم إدارة المناطق الفلسطينية من خلال المستوطنين، وقرار نقل صلاحيات المسجد الإبراهيمي يؤكد هذا التوجه».
ويضيف: إن الهدف ليس فقط السيطرة الدينية، بل أيضًا فرض وقائع سياسية جديدة، بحيث تصبح البلديات الفلسطينية بلا سلطة فعلية، ويتم استبدالها بهياكل استيطانية تُدار من داخل المستوطنات.
ويحذر من أن هذا النمط من الإدارة قد يتم تعميمه لاحقًا على مناطق أخرى مصنفة (ج)، خاصة في شمال الضفة الغربية، ما يعني تقويض كامل لاتفاق أوسلو.
ويختم حنيطي بأن «الرد يجب أن يكون شعبيًا ودوليًا، عبر التحرك القانوني والإعلامي، والضغط لوقف هذا المخطط قبل أن يتحول إلى نموذج يُطبّق في كل مكان».