قراءة أولية للإعلان الدستوري في سوريا الجديدة
تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT
كثيرون هم المتربصون بالدولة السورية الجديدة، لا سيما ممن يأملون في انهيارها وهزيمة مشروعها الوطني والذي يبدو في ظاهره إسلامي لكنه معتدل.
فهناك أنظمة عربية وأخرى إقليمية تخشى المد الإسلامي المزعوم وانتقال العدوى إلى شعوبها التي رأت في التجربة السورية بارقة أمل للتخلص من أنظمة الاستبداد والديكتاتورية وقمع الحريات، وهناك على الضفة الأخرى بقايا النظام السابق الذين نصّبوا أنفسهم مدافعين عن الطائفة العلوية التي أذاقوها خلال 54 سنة من حكم الأب والابن ويلات العداء والخصومة مع باقي الطوائف، وعانت شتى صنوف الاضطهاد والقمع حتى الاعتقال في محاولة منهم لإبقائها كحاضنة تحمي لهم نفوذهم وسطوتهم واستئثارهم بالسلطة التي مضت إلى غير رجعة.
إضافة لهؤلاء، هناك تيارات قومية وماركسية وليبرالية وديمقراطية لا زالت تحمل خصومتها الأيديولوجية والفكرية مع هذه الدولة، وتعمل على شيطنتها، برغم ما أظهرته قيادة هذه الدولة حتى الآن من اعتدال واحتواء لكافة الانتقادات وصيانة واحترام لحقوق كافة المكونات السياسية والمذهبية والطائفية والعرقية التي تشكل النسيج السوري الواحد؛ من خلال عقد مؤتمر الحوار الوطني والذي أتاح لهذه المكونات -وإن جاءت مشاركتها بشكل فردي ودعوتها على عجل- التعبير عن مطالبها وطموحاتها وتطلعاتها، وكان من أبرز مخرجات هذا المؤتمر هو الإعلان الدستوري عبر لجنة شكلها الرئيس الشرع قيل إنها متجانسة عقائديا وفكريا وذات لون واحد، لكنها مستقلة وبعيدة عن أية ضغوطات أو تدخلات.
بعيدا عن الاعتراضات والانتقادات، فإن أي قراءة موضوعية لما جاء في مواد الإعلان الدستوري، نجد أنه يؤسس للشرعية الشعبية الجديدة القائمة على أسس دستورية نابعة من طموحات وأهداف الشعب السوري بكل مكوناته، وتشكل ناظما وإطارا قانونيا لحياتهم المستقبلية والحالية بعيدا عن التغول الأمني والعسكري السلطوي والذي كان آخره في دستور 2012 الذي تم إلغاؤه
بيد أن هذا الإعلان وبمجرد أن وقّعه الرئيس الشرع تعرّض إلى انتقادات من كل حدبٍ وصوب، وتركزت هذه الاعتراضات أولا على تشكيل اللجنة عددا وأفرادا وتجانسا وغيابا نوعيا لتمثيل المرأة. ثانيا، على تسمية الدولة وانتمائها العربي، وكأنها ليست عربية الانتماء منذ الأزل، فلم تعجبهم هويتها "الجمهورية العربية السورية". ثالثا، الاعتراض على طول الفترة الانتقالية التي حددت بخمس سنوات، وكأن البلاد لا تزال معافاة وسليمة من كل دمار وخراب وفساد في كافة القطاعات العسكرية والأمنية والاقتصادية والعلمية والتعليمية والاجتماعية، وكأن البلاد لم تمر بحربٍ مدمرة طيلة أربعة عشر عاما وما سبقها من فساد وخراب امتد لعقود من الزمن. رابعها، غياب التفاصيل لكثيرٍ من مواده وآليات التنفيذ تحديدا فيما يخص العدالة الانتقالية. خامسها، كما جاء في بيان "مجلس سوريا الديمقراطية" الذي يعبر عن رفض الإعلان ويصفه بأنه "يكرس الحكم المركزي ويمنح السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة ويقيد العمل السياسي ويجمد تشكيل الأحزاب، مما يعطل مسار التحول الديمقراطي".
وبعيدا عن الاعتراضات والانتقادات، فإن أي قراءة موضوعية لما جاء في مواد الإعلان الدستوري، نجد أنه يؤسس للشرعية الشعبية الجديدة القائمة على أسس دستورية نابعة من طموحات وأهداف الشعب السوري بكل مكوناته، وتشكل ناظما وإطارا قانونيا لحياتهم المستقبلية والحالية بعيدا عن التغول الأمني والعسكري السلطوي والذي كان آخره في دستور 2012 الذي تم إلغاؤه. ولقد شكل الإعلان الدستوري ضمانة لحرية التعبير والصحافة والمشاركة السياسية للجميع وصون لحقوق المرأة، وأكد على دولة المواطنة والحريات الديمقراطية والوحدة الوطنية والنسيج المجتمعي الواحد، مجرّما الدعوات إلى الانقسام والانفصال والفدرلة، وانتهاك سيادة الدولة بطلب التدخل الأجنبي والاعتماد على قوى خارجية. كما تضمن التأكيد على السلم الأهلي، ووحدة جغرافية الأراضي السورية.
كذلك فصل بين السلطات الثلاث؛ التشريعية والقضائية والتنفيذية، والذي كان غائبا تماما في دستور النظام السابق منذ سيطرة الأسدين على السلطة في سوريا. وبرغم أن الإعلان الدستوري أعطى لرئيس الدولة صلاحيات مثل الإعلان عن حالة الطوارئ، لكنه قيّدها أيضا بموافقة مجلس الأمن القومي ومجلس الشعب، خاصة إذا تطلب الأمر تمديدا لها.
ولقد نص الإعلان على استقلالية القضاء ومنع إنشاء محاكم استثنائية، ولم تعد هناك وصاية ولا سلطات على القضاء إلا سلطة القانون، كما أكد على العدالة الانتقالية التي يتطلع إليها كل السوريون، كمطلبٍ شعبي جاء من مخرجات مؤتمر الحوار الوطني؛ ذلك بما تضمنه هذا الأمر من إلغاء لكل القوانين والأحكام والإجراءات الاستثنائية الصادرة عن النظام البائد وإلغاء محكمة الإرهاب، وإلغاء كل الإجراءات الأمنية المتعلقة بالوثائق المدنية والعقارية، كما تم في هذا السياق تشكيل هيئة العدالة الانتقالية لتحقيق سبل المساءلة وإثبات الحقائق.
ولا بد من الإشارة هنا إلى إن اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع لا يعني أبدا إغفال المصادر الأخرى، وأن اشتراط أن يكون الرئيس مسلما هو أيضا ما جاء في مواد الدساتير السابقة.
ولقد تركزت الانتقادات لهذا الإعلان من جهة الإخوة الأكراد، وما جاء على لسان مظلوم عبدي قائد" قوات سوريا الديمقراطية" يعبر عن هذا الموقف: "إن الإعلان الدستوري يجب أن يكون توافق وطني وليس مشروعا مفروضا من طرف وأحد، وأنه يكرس الحكم المركزي ويمنح السلطة التنفيذية صلاحياتٍ مطلقة ويقيّد العمل السياسي، وغياب الآليات الواضحة للعدالة الانتقالية، ويزيد من تعميق الأزمة الوطنية". ووصفه شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري بأنه "إعلان الديكتاتورية"، وقال أيضا "إن الإدارة الجديدة المؤقتة بعيدة عن تلبية الطلبات الشعبية وأهداف الثورة"، الخطابات البرّاقة والخادعة والفيروسات السياسية العلمانية والقومية والماركسية، ومن "لف لفهم" في خصامها الأيديولوجي التقليدي مع الإسلاميين -سواء كانوا متشددين أو معتدلين- لن تُفلح في تمزيق وحدة النسيج السوري الفسيفسائي الحاضن للقوى التي أسقطت نظام الإبادة والمجازر والإجرام الأسدي المزدوج للأب والابنودعا في الوقت ذاته إلى إعادة صياغة الإعلان الدستوري، فيما رأى آخرون، ان هذا الإعلان سيشكل أساسا لدستورٍ دائمٍ ستعكف على وضعه لجنة سيتم تشكيلها، كما سيشكل هذا الإعلان جدولا زمنيا في الانتقال السياسي من المرحلة المؤقتة الحالية إلى استقرارٍ دائمٍ يوفر حياة آمنة سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية للسوريين بعد حقبة مليئة بالقتل والدمار وقمع الحريات والإرهاب والفساد بكل أشكاله.
ولمواجهة تعاظم التحديات التي تواجه الدولة السورية الجديدة، فإن المطلوب المحافظة على دولة المواطنة والحريات والديمقراطية لكافة مكونات الشعب الواحد، والحفاظ على النسيج المجتمعي الواحد، وهذا يستدعي من القيادة الجديدة فتح حوار هادف وموسع مع كافة الأطياف السورية، والبدء بتشكيل مجلس الشعب بصفته المسؤول عن التشريعات والمصادقة على تشكيلة الحكومة ولجان هيئة العدالة الانتقالية. ولا بد من تمثيل كافة مكونات الشعب السوري والمشاركة الواسعة لهم في الحكومة واللجان ومجلس الشعب، مما يشكل توافقا وطنيا للبدء بعملية البناء وإعادة الأعمار. كما يتطلب العمل على فتح حوار مع الأطراف الإقليمية المجاورة بما يضمن سيادة الدولة ووحدة أراضيها، والعمل على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للدفاع عن أراضي الدولة وسيادتها، والبدء بتصفية القواعد الأجنبية على الأراضي السورية.
إن الخطابات البرّاقة والخادعة والفيروسات السياسية العلمانية والقومية والماركسية، ومن "لف لفهم" في خصامها الأيديولوجي التقليدي مع الإسلاميين -سواء كانوا متشددين أو معتدلين- لن تُفلح في تمزيق وحدة النسيج السوري الفسيفسائي الحاضن للقوى التي أسقطت نظام الإبادة والمجازر والإجرام الأسدي المزدوج للأب والابن، وأن كافة المكونات الدينية والإثنية بما فيهم الدروز والعلويون والكرد سيعيدون تشاركيا بناء سوريا بنظام ديمقراطي بعيد عن المحاصصة الطائفية والمذهبية والمناطقية؛ ضمانا للعدالة والحرية والكرامة لكافة أبنائها بما يضع سوريا في المكانة الحضارية والتاريخية التي تليق بها بين الأمم. هذه هي مسؤولية القيادة الجديدة أمام الشعب والتاريخ، فهل ما جاء في وصف هذا الإعلان من قبل الرئيس الشرع بأنه "بداية تاريخ جديد لسوريا، حيث نستبدل الظلم بالعدل" سيتحقق؟
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الدستوري الشرع سوريا التحديات سوريا تحديات دستور الشرع قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدالة الانتقالیة الإعلان الدستوری هذا الإعلان ما جاء فی
إقرأ أيضاً:
من الدعوة إلى الدولة: قراءة هادئة في مسار الحركة الإسلامية في اليمن.
"عن اليمن بودكاست والحلقة الاستثنائية مع الصحفي والباحث سعيد ثابت"
في زمن تزدحم فيه المنابر بالصخب والادعاء، وتُختزل الحركات الكبرى في سرديات متعجلة، جاءت حلقة “من الإخوان إلى الإصلاح: قصة الحركة الإسلامية في اليمن” التي قدّمها “اليمن بودكاست” وأدارها الإعلامي أسامة عادل، لتقدّم مادة مختلفة في شكلها ومضمونها، وتفتح نافذة موثّقة على واحدة من أكثر التجارب السياسية اليمنية جدلًا وإثارة للتأمل.
لم تكن الحلقة مجرد إضافة أرشيفية إلى محتوى سياسي متكرر، بل بدت وكأنها عمل توثيقي نادر يعيد ترتيب الذاكرة السياسية اليمنية، ويخوض بأسلوب هادئ ومتماسك في ملف غالبًا ما عُولج بخفة أو عدائية أو اختزال.
بعيدًا عن الشعارات الجاهزة والتصنيفات المقولبة، بدا الحوار وكأنه محاولة لاستعادة الفكرة من تحت ركام المعارك، وإعادة قراءتها في سياقها الزمني والاجتماعي، لا من خلال عدسة الاستقطاب الإقليمي أو صراع الهوية السياسية المعاصرة.
ضيف الحلقة الباحث والصحفي المعروف سعيد ثابت سعيد، لم يبدُ كضيف تقليدي يسرد ما حفظه من تواريخ، بل كمراقب عميق حمل ذاكرة جماعية عن الحركة الإسلامية في اليمن، وسعى بلغة هادئة ونبرة متزنة إلى إعادة تركيب تلك الذاكرة دون انفعال أو تبرير، فلم يتحدث كناشط حزبي أو كاتب منحاز، بل كمن عاش تفاصيل المشهد من الداخل، ورصد تحوّلاته عن قرب عبر محطات متعددة.
تناول سعيد ثابت التجربة الإسلامية في اليمن بوصفها مسارًا اجتماعيًا وفكريًا وسياسيًا معقّدًا، له جذوره المحلية وتحوّلاته الخاصة، فبدأ من البدايات الفكرية للحركة، ثم انتقل إلى لحظة التشكل التنظيمي، مرورًا بعقود من الحضور في السلطة والمعارضة معًا، حديثه، الذي امتد لأكثر من ساعتين، لم يكن مجرد عرض زمني للأحداث، بل مراجعة نقدية موثقة تسبر أغوار التجربة، وتضع كل مرحلة في سياقها، لتعيد التذكير بأن الحركات السياسية لا يمكن فهمها خارج بيئتها الأولى وظروف نشأتها
في هذا المقال، سنقترب أكثر من أبرز المحاور التي تناولتها الحلقة، ونفكك بعض ما طرحه سعيد ثابت من رؤى وسرديات، لا بوصفها شهادات عابرة، بل كوثيقة تسهم في بناء سردية يمنية أكثر توازنًا وعمقًا حول مسار لم يُروَ بعد كما يجب.
عودة إلى الجذور: حين كان المشروع يمنيًا بحتًا
من البداية، أعاد سعيد ثابت الحديث إلى نقطة الانطلاق، إلى ما قبل تأسيس حزب الإصلاح، حين لم تكن هناك أحزاب، ولا تعددية سياسية، بل فقط أفكار ومشاريع ورجال يحملون رؤاهم على أكتافهم، ويجوبون بها من عدن إلى صنعاء.
تحدّث عن البدايات الأولى للحركة الإسلامية في اليمن، حين تأثر بعض الطلاب اليمنيين في مصر بأفكار حسن البنا وسيد قطب، لكنهم ، كما أوضح الباحث سعيد ثابت، لم يعودوا إلى اليمن كمنفذين لتعليمات خارجية، بل عادوا بمشروع محلي يرون فيه مخرجًا لبلدهم من الاستبداد والفقر والجهل.
أسماء مثل عبدالمجيد الزنداني وعبده محمد المخلافي، كانت من أوائل من صاغوا هذا الاتجاه في نسخته اليمنية، لم يكونوا يطمحون لتأسيس “فرع” تابع لتنظيم دولي، بل كانوا يريدون أن يبنوا تجربة يمنية ذات خصوصية، ومن هنا جاءت فكرة المعاهد العلمية، التي رأى فيها ثابت أنها لم تكن أداة تجييش، بقدر ما كانت محاولة لبناء جيل جمهوري، متدين، ومحصن فكريًا في وجه الماركسية والطائفية معًا.
هذا التأسيس الذي تم في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي كان نقطة مفصلية، لأنه حدث بإرادة سياسية يمنية، لا بتدخل خارجي ولا تمويل مستورد، وهو ما حاولت الحلقة التأكيد عليه أكثر من مرة: أن الإسلاميين في اليمن لم يكونوا في يوم من الأيام مجرد نسخة محلية عن مشروع خارجي.
حزب الإصلاح.. كيان سياسي أم امتداد تنظيمي؟
في الجزء الأهم من الحلقة، تحدث سعيد ثابت عن نشأة التجمع اليمني للإصلاح بعد الوحدة، وكيف أن تأسيس الحزب لم يكن مجرد إعادة تموضع للإخوان المسلمين، بل كان استجابة طبيعية لتحوّل الدولة إلى العمل الحزبي التعددي.
أشار في حديثه إلى أن الإصلاح ضمّ في تركيبته منذ اللحظة الأولى مشايخ قبائل، وقادة عسكريين، وعلماء دين، وشخصيات اجتماعية، إلى جانب التيار الإسلامي التقليدي، وهذه الهُوية المركبة هي ما جعلته حزبًا سياسيًا بامتياز، يشتبك مع الواقع ويخوض الانتخابات، ويتحالف مع المؤتمر الشعبي، ثم يدخل في “اللقاء المشترك” مع خصومه الأيديولوجيين في مرحلة لاحقة.
لكن، وكما أوضح سعيد ثابت، فإن هذا التماهي مع الدولة "خصوصًا في فترة التحالف مع صالح" كان سيفًا ذا حدين، فقد منح الإصلاح نفوذًا واسعًا، لكنه في الوقت نفسه حمّله تبعات العلاقة بالسلطة، فحين انقلبت السلطة، كان الحزب هو أول من تلقّى الضربة، وأول من اتُّهم بكل شيء.
وهنا كان الطرح النقدي حاضرًا في كلام سعيد، دون مواربة: الإصلاح ارتكب أخطاء، نعم، لكنه لم يكن يومًا مشروعًا انقلابيًا أو عنفيًا، وإذا كان قد ضعف سياسيًا بعد 2015، فليس لأنه انهار تنظيميًا، بل لأن السياق كله تغيّر، وتحول المشهد من العمل السياسي إلى واقع مليء بالسلاح والتحالفات الإقليمية المعقدة.
تفكيك الأكذوبة: الإصلاح ليس مكتب بريد للإخوان
من اللحظات المهمة في الحلقة، تلك التي تناولت فيها النقاشات المتكررة حول اتهام الإصلاح بأنه فرع للإخوان، سعيد ثابت لم ينكر التأثر الفكري، لكنه شدد أن التنظيم لم يكن امتدادًا عضويًا للإخوان، لا تنظيميًا ولا سياسيًا.
بل على العكس، قدّم سردًا دقيقًا لمسارات الاستقلال المبكر، من رفض تأسيس خلايا تابعة، إلى بناء مشروع يمني داخلي، يشتبك مع الواقع المحلي ولا ينتظر التعليمات من الخارج.
قوة هذا الطرح أنه لم يُقدَّم كرد فعل دفاعي، بل كوقائع وسياقات تاريخية، من لقاء الزبيري مع البنا، إلى عودة المخلافي والزنداني إلى اليمن، إلى تأسيس الإصلاح بعد الوحدة، وكل ذلك جرى دون غطاء خارجي ولا وصاية فكرية.
في لحظة الانهيار… من بقي جمهوريًا؟
واحدة من أكثر المحاور إثارة في حديث سعيد كانت عند سؤاله عن موقف الإصلاح من سقوط صنعاء، ودوره بعد 2014. لم يُنكر أن الموقف كان مرتبكًا، لكنّه لفت إلى أن الإصلاح، ورغم الحملة الإعلامية الشرسة ضده، ظلّ الطرف الأكثر وضوحًا في التمسك بالجمهورية.
تحدّث عن ما أسماه “الخذلان المركّب”، حيث تخلّى الحلفاء، وهاجم الخصوم، واصطف بعض شركاء الأمس مع الإمامة الجديدة، أما الإصلاح، فرغم ضعفه وانكشافه، لم يكن جزءًا من الانقلاب، بل وقف في وجهه بقدر ما استطاع، وانخرط في معركة الدفاع عن الدولة من مواقع متفرقة، في السياسة والإعلام والجبهات.
أكثر من مجرد سرد.. الحلقة التي أعادت كتابة الملف
ما يجعل هذه الحلقة استثنائية حقًا، أنها ليست مجرد استرجاع لتاريخ الإسلاميين في اليمن، بل كانت أشبه بمحاولة لتقديم “سيرة وطنية بديلة” تُنصف التيار الإسلامي دون أن تبرّئه، وتنتقده دون أن تُشيطنه، وهو ما نجح فيه سعيد ثابت بامتياز: لم يكن منحازًا، لكنه كان صادقًا. لم يكن مدافعًا، لكنه أنصفها في حديثه فنظر إلى الداخل، وراجع الذات، وتحدث بلغة لا تحرض ولا تبرر، بل تشرح وتفكك.
إدارة الحوار من قبل أسامة عادل أضفت على الحلقة طابعًا احترافيًا هادئًا، فقد غاب صوت المذيع في اللحظة التي يجب أن يغيب فيها، ليعلو صوت الذاكرة والمعلومة والتحليل.
حين يصبح التاريخ ملكًا للجميع.
ختامًا، قد تكون هذه الحلقة أكثر من مجرد توثيق شفهي لمسار تيار سياسي، فالحلقة في جوهرها، تمثل محاولة نادرة لإعادة اليمنيين إلى أرشيفهم المنسي، إلى تاريخ لم يُكتب بيد الغالب وحده، بل بصوت شاهد أراد أن يفهم لا أن يدين، وأن يروي لا أن يوجّه، فليست “قصة الإسلاميين” في هذه الحلقة سوى بوابة لفهم اليمن نفسه، حين كانت الفكرة سلاحًا، والكلمة جبهة، والمشروع الوطني هو المعركة الأهم.
فمن الطليعة إلى الإصلاح، ومن الزبيري الحالم بوطن عادل إلى الزنداني المثير للجدل، ومن المعاهد العلمية في زمن الحمدي إلى دهاليز السياسة في عهد صالح، ومن صناديق الاقتراع إلى جبهات مأرب وتعز، كانت التجربة الإسلامية في اليمن تتحرّك في قلب الأحداث، لا على هامشها، نعم، لم يكن مسارًا مستقيمًا، بل متعرجًا بين الإيمان والفعل، بين التديّن والسياسة، بين المبادرة والخطأ، لكنه كان، وسيبقى، جزءًا لا يمكن فصله من سيرة هذا الوطن الذي لم يكتب تاريخه بعد كما ينبغي.
وإذا كانت كثير من الحلقات الإعلامية تمرّ مرور العابرين، فإن هذه الحلقة ، بما احتوته من رصانة في الطرح وهدوء في النبرة ، قد تبقى عالقة في ذاكرة من سمعها، لا لأنها تبحث عن الإثارة، بل لأنها سعت إلى الفهم، لم تُروَ القصة بلون واحد، بل بأطيافها وحوافها وتناقضاتها، كما تُروى الحكايات التي يُراد لها أن تبقى، خاصةً ونحن في زمن ضياع الحقائق وتزاحم الأصوات المرتبكة، حيث تمزّقت السرديات وتكاثرت محاولات التزوير والتسطيح، بدا الإنصاف لا الولاء، هو السبيل الوحيد لفهم التاريخ، وإعادة بناء الوعي، فالتاريخ لا يُكتب على عجل، ولا يُفهم بالاصطفاف، بل بالاقتراب من الحقيقة كما هي، بظلالها لا بضجيجها.
وهكذا، تصبح هذه الحلقة أكثر من مجرد شهادة.. بل مفتاحًا صغيرًا لبوابة أكبر: بوابة الفهم، التي لا يُفتح المستقبل من دون عبورها، ولا تُصان الذاكرة من دون إنصافها