جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-28@13:36:16 GMT

"السابقون السابقون"

تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT

'السابقون السابقون'

 

 

د. سالم بن عبد الله العامري

في زحام الدُنيا وضجيجها، هناك فئة من البشر لا تشغلهم الأرض عن السماء، ولا تغريهم الدنيا عن المسير إلى الله، هم الذين تسابقوا إلى الطاعات، فسبقوا، وتسارعوا إلى مرضاة الله، فاستحقوا المنزلة العظمى. هؤلاء هم "السابقون السابقون"، الذين ذكرهم الله في محكم كتابه بقوله: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (الواقعة: 10-12).

لكن من هم هؤلاء السابقون؟ وما الذي أهلهم لهذه المرتبة الرفيعة؟ وكيف يُمكن للسائر إلى الله أن يلحق بركبهم؟

إذا تأملنا في معاني هذه الآية، نجد أنَّها لا تقتصر على مجرد السبق الزمني، وإنما تحمل معنى السبق في الدرجة والفضل، فهم الذين تجاوزوا حدود العبادات التقليدية، وساروا إلى الله بروح ملؤها الشوق، وقلوب تضيء بنور اليقين، وأعمال ترتقي بهم إلى معارج القرب. لا تعيقهم المغريات، ولا تثنيهم الصعاب، قلوبهم مُعلقة بالسماء، وأرواحهم متلهفة للقاء ربها، يتسابقون في مضمار العبودية، لا يلتفتون إلى الوراء، ولا يبطئون الخطى.

وقد اختلفت التفاسير في تحديدهم، فمنهم من قال: هم الأنبياء وأولياء الله المقربون، الذين كانت حياتهم كلها لله، فانطبقت عليهم أعلى معاني السبق ومنهم من قال هم الصحابة الذين بادروا إلى الإيمان حين كذّب الناس، وضحّوا حين جبُن الآخرون، وأعطوا حين أمسك غيرهم. ومنهم من قال هم كل عبد أخلص لله، وأقبل عليه بقلب سليم، وانطلق في ميادين الخير لا يبتغي إلّا وجهه الكريم. وما يجمع بينهم جميعًا هو أنهم لم يكن لهم في الدنيا تعلّق يعوقهم عن الله، وإنما كانوا أهل صدقٍ ويقينٍ، سائرين إلى الحق بإخلاص وتجرّد. استقاموا على الطاعة ولم يعرفوا الفتور، وتسابقوا إلى الخيرات كما يتسابق العطشى إلى الماء، قلوبهم بيضاء لم يشب إخلاصهم رياء، ولم يدنس يقينهم شك، فكانوا بحق أهلاً للقرب، ولم يكن سبقهم في العبادة فقط، بل سبقوا في الصبر، والجهاد، والإحسان، واليقين، والصدق؛ فلما كانت همتهم عالية، ومقاماتهم سامية، رفعهم الله إلى منزلة لا تضاهيها منزلة، وجعلهم في "جنات النعيم"، في مقعد صدق، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

ولكي تسير على خُطاهم أيها القارئ العزيز: اجعل قلبك معلقًا بالله دائمًا، ولا تكتفِ بالمألوف من الطاعات، بل زد عليها حبًا وسعيًا. كن سريعًا إلى الخيرات، لا تنتظر، ولا تتردد، فاللحظة التي تضيع قد تكون هي اللحظة الفاصلة بينك وبين مقام السابقين. طهر نيتك، واجعل كل عملك لله، فالسابقون لم يكونوا الأكثر عددًا في العبادات فحسب، بل كانوا الأخلص نيةً والأصدق قلبًا.

لا تنظر إلى من هو دونك؛ بل اجعل أنظارك دائمًا معلقة بمن سبقوك، وأطلق لنفسك العنان للحاق بركبهم؛ فالسابقون السابقون لم يكونوا خارقين؛ بل كانوا بشرًا مثلنا، لكنهم عرفوا قيمة العُمر، فاستثمروه في طاعة الله، وأدركوا أن الحياة الحقيقية ليست هنا، وإنما هناك، حيث القرب والنعيم المقيم؛ هؤلاء السابقون لم يكن سبقهم عشوائيًا، بل كان ثمرة يقينٍ وإخلاص، وجهادٍ متواصل مع النفس، وحرصٍ على اغتنام اللحظات قبل فوات الأوان؛ فالسباق إلى الله لا ينقطع، وأن المقاعد في رحابه لا تُحجز إلا بالجهد، والإخلاص، والتجرد عن كل ما يثقل الروح عن التحليق؛ فكل إنسان لديه فرصة أن يكون من السابقين إذا أخلص لله وسارع في فعل الطاعات، وعمل الخيرات.

في الختام.. يبقى السباق إلى الله أعظم سباق، لا يفوز به إلّا من سَمَتْ همته، وصَفَتْ نيته، وجاهد نفسه في طريق القرب والرضوان؛ فطوبى لمن حمل مشعل السبق، وارتقى في مدارج السائرين إلى رضوان الله، فظفر بالنعيم الذي لا يزول، ولم تشغله الفانية عن الباقية، فحاز رضوان الله قبل أن يُغلق الباب، ويفترق السائرون بين المقربين والمحرومين؛ فلنستلهم من سيرتهم العطرة العزم والمثابرة، ولنحرص على أن نكون من السابقين في أعمال الخير، علّنا نحظى بمكانة عند الله يوم الفصل والحساب؛ فالطريق لا يزال مفتوحًا، والسباق لم ينتهِ، والفرص تُمنح لمن يشاء أن يسابق، فهل نرضى بالدون، وقد دعينا للعلو؟ "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..."نداءٌ لمن أراد أن يكون من الفائزين. جعلنا الله وإياكم من "السابقون السابقون أولئك المقربون".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

ثورة مايو 1969

ثورة مايو 1969
سيظل لاصقا بذاكرتي ماحييت صباح يوم ٢٥ مايو ١٩٦٩ حيث جينا إلى قاعة الطعام ( الصفرة) لشراب شاي الصباح نحن طلاب مدرسة كاب الجداد الوسطى… أخبرنا عمنا الكدادي وهو من العاملين في الصفرة وهو من أبناء الشمالية الذين جاء بهم العمل للجزيرة فاستوطن فيها بأن راديو كابو وهو الآخر عامل في الصفرة من أهالي الكاملين شغال مارشات عسكرية وان هناك بيان هام سوف يذاع بعد قليل… وهذا يعني أن هناك انقلابا.. فذهبنا إلى راديو عمنا كابو وبعد قليل خرج الأساتذة الذين كانوا يسكنون قريبا من الداخلية واثنين منهم كانا يحملان أجهزة راديو فانقسمت المدرسة إلى ثلاثة أكوام كل كوم تحلق حول راديو في انتظار البيان الهام فلم نرجع إلى عنابرنا ولم يرجع الأساتذة إلى بيوتهم ولم يذهب احد في ذلك الصباح إلى الفصول .. وبعد الثامنة اذاع جعفر محمد نميري البيان الأول واعقبه بابكر عوض الله رئيس الوزراء ببيان آخر.. أعلن الرجلان قيام الثورة ونهاية العهد الحزبي

كتلاميذ لم يكن وعينا السياسي مكتملا فلم نسأل عن هوية الانقلاب ولكننا لحظنا أن الفرحة بدأت تظهر على وجه استاذنا عثمان الفال وهو أبناء سنجة وكنا نعرف أنه شيوعي بينما الوجوم أصاب استاذنا عبد الباقي بابكر وهو من الجزيرة وكان من الاخوان المسلمين ولعل السبب يرجع لظهور بابكر عوض الله الذي كان رئيسا للقضاء وقدم استقالته محتجا على حل الحزب الشيوعي معتبرا ذلك انتهاك للدستور

وعند حوالي التاسعة تقريبا أعلن تشكيل مجلس الثورة الذي كان كله عسكريا ما عدا بابكر عوض الله وأعلن أسماء الوزراء فاتضحت هوية الانقلاب للأساتذة فارتجل استاذ عبد الباقي خطبة غاضبة وقال إن هذا الانقلاب سوف يفشل لأن الشعب السوداني المسلم لن يقبل بحكم شيوعي من جانبه صعد استاذ الفال على تلة مجاورة وقال إن هذة هي الثورة التي كان ينتظرها السودان وان المواكب ستكون قد خرجت في الخرطوم تأييدا لها

نحن التلاميذ دخلنا في حيرة من أمرنا وان أظهر بعضنا ميلا للأستاذ عبد الباقي وآخرون للأستاذ الفال والشهادة لله كلا الاستاذين كانا مكان حبنا والحال هكذا ذهبت وانا ومعي شلة من اولاد رابعة إلى ناظر المدرسة الذي كان يجلس بعيدا عن تلك التجمعات وكان ناظر المدرسة هو الشاعر المشهور عوض حسن احمد الذي غني له عبد العزيز محمد داؤد اغنية صغيرتي (أو تذكريني صغيرتي أو ربما لاتذكرين /الخمسة الأعوام قد مرت ومازال الحنين) واشهر بيت فيها (ما زلت أذكر خصلة عربيدة فوق الجبين… ما زلت اقرأ في السطور فاستبين البعض أو لا استبين) واستاذ عوض كان شيوعيا الجناح الثوري التابع للصين… فسالناه عن رأيه في الحاصل وقال لنا الحاصل دا انقلاب عسكري ومافي جيش بيعمل ثورة فالثورة الحقيقية هي التي سيقوم بها هذا الرجل.. أشار إلى مزارع راكبا حماره متجها إلى حواشته كان يمر بنا في تلك اللحظة.. بالطبع لم نستوعب كلام استاذنا عوض استيعابا كاملا فكما وصفه أحدنا (دا كلام كبار كبار).. لقد امضينا سحابة ذلك اليوم ونحن في فناء المدرسة بين الداخليات والفصول والأساتذة والعمال وسطنا فكان يوم اجازة بحكم الأمر الواقع لدرجة ان الفطور قد تأخر في ذلك اليوم… طبعا المدرسة كلها كانت داخلية

أمضى النميري ستة عشر عاما في الحكم تقلب فيها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وتحالف مع الكل ودخل في صدام مع الكل حقق بعض الإنجازات واخفق بعض الإخفاقات وانا هنا الان لست بصدد تقييم فترة مايو فصفحاتها مبذولة للكافة ليحكموا عليها بما يرون ولكن بصدد تذكر ذلك المجتمع الصغير (الحنين) مجتمع المدرسة الوسطى الحكومية والتي كان الدخول إليها أمرا ليس بالسهل فاذكر اننا أمتحنا للدخول إليها فوق الستمائة تلميذ واكاد أجزم أن اكثر من نصفهم كان ناجحا ولكن تمنح فرصة الالتحاق بالمدرسة للأربعين الأوائل فقط وكانوا يقال لهم الفائزين كما غنى صديق أحمد (أن شاء الله يا بسام… تتحقق الأحلام.. وتظهر نتيجة العام…. وتكون من الفائزين)

في المدرسة الوسطى تشكل أدراكنا الأكاديمي ووعينا السياسي.. كان كل اساتذتنا هم أباؤنا بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية نسأل الله الرحمة المغفرة لهم جميعا َ وكذلك لاعمامنا العمال… الآن ونحن في هذة المرحلة من العمر ومن الأوضاع السياسية والاجتماعية يمكننا أن نقول (كانت لنا ايام /ما أحلى ذكراها) لكن لن نقول (ليتنا عدنا أو عادت الايام) لأن ذلك مستحيل فلكل زمان ما يناسبه من معاني ومباني ولكن يحق لنا أن نتساءل لماذا لم نمضي للإمام؟ لماذا تراجعنا إلى أن وصلنا مرحلة السلب والنهب والتشريد والقتل و الانتهاك…
اللهم لا اعتراض على حكمك لكن الجرح كان عميقا والدرس كان قاسيا ومع ذلك دعونا نفكر في يوم باكر

حاشية صغيرة..
هذا المقال مواعيد نشره في هذة الصفحة كان بالأمس لكن سهوت عن ذلك فيبدو أن الزهمرة قد بدأت هو عليكم الله الما بخلينا نخرف شنو؟

عبد اللطيف البوني

حاطب ليل / ٢٥ مايو ٢٠٢٥ /البوني

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • عن الذين خاطروا بأنفسهم وأموالهم فلم يرجعوا من ذلك بشيء
  • الفنانة نعيمة بوحمالة في ذمة الله
  • الإعلام الرقمي.. بين سرعة النشر وغياب الدقة
  • عدسة الجارديان تسلط الضوء على أضرار المدنيين باليمن الذين تحملوا وطأة الضربات الجوية الأمريكية (ترجمة خاصة)
  • ثورة مايو 1969
  • نعي وجيه فاضل
  • ???? تخيل المشهد. الآلاف من الجنجويد الذين عاثوا في السودان قتلا ونهبا واغتصابا يصلون إلى أوروبا!
  • الرميد: عباد "الدوارة" الذين سيذبحون الأضحية يوم العيد تدينهم مغشوش ومرضى يحتاجون إلى علاج
  • بعد وفاة الهويريني.. من هم أبرز المعتقلين الذين قضوا في السجون السعودية؟
  • لقد تم تصفية جلحة ومعظم قادة المسيرية وكل الذين رفضوا الإنسحاب إلى دارفور