جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-20@05:53:27 GMT

"السابقون السابقون"

تاريخ النشر: 24th, March 2025 GMT

'السابقون السابقون'

 

 

د. سالم بن عبد الله العامري

في زحام الدُنيا وضجيجها، هناك فئة من البشر لا تشغلهم الأرض عن السماء، ولا تغريهم الدنيا عن المسير إلى الله، هم الذين تسابقوا إلى الطاعات، فسبقوا، وتسارعوا إلى مرضاة الله، فاستحقوا المنزلة العظمى. هؤلاء هم "السابقون السابقون"، الذين ذكرهم الله في محكم كتابه بقوله: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (الواقعة: 10-12).

لكن من هم هؤلاء السابقون؟ وما الذي أهلهم لهذه المرتبة الرفيعة؟ وكيف يُمكن للسائر إلى الله أن يلحق بركبهم؟

إذا تأملنا في معاني هذه الآية، نجد أنَّها لا تقتصر على مجرد السبق الزمني، وإنما تحمل معنى السبق في الدرجة والفضل، فهم الذين تجاوزوا حدود العبادات التقليدية، وساروا إلى الله بروح ملؤها الشوق، وقلوب تضيء بنور اليقين، وأعمال ترتقي بهم إلى معارج القرب. لا تعيقهم المغريات، ولا تثنيهم الصعاب، قلوبهم مُعلقة بالسماء، وأرواحهم متلهفة للقاء ربها، يتسابقون في مضمار العبودية، لا يلتفتون إلى الوراء، ولا يبطئون الخطى.

وقد اختلفت التفاسير في تحديدهم، فمنهم من قال: هم الأنبياء وأولياء الله المقربون، الذين كانت حياتهم كلها لله، فانطبقت عليهم أعلى معاني السبق ومنهم من قال هم الصحابة الذين بادروا إلى الإيمان حين كذّب الناس، وضحّوا حين جبُن الآخرون، وأعطوا حين أمسك غيرهم. ومنهم من قال هم كل عبد أخلص لله، وأقبل عليه بقلب سليم، وانطلق في ميادين الخير لا يبتغي إلّا وجهه الكريم. وما يجمع بينهم جميعًا هو أنهم لم يكن لهم في الدنيا تعلّق يعوقهم عن الله، وإنما كانوا أهل صدقٍ ويقينٍ، سائرين إلى الحق بإخلاص وتجرّد. استقاموا على الطاعة ولم يعرفوا الفتور، وتسابقوا إلى الخيرات كما يتسابق العطشى إلى الماء، قلوبهم بيضاء لم يشب إخلاصهم رياء، ولم يدنس يقينهم شك، فكانوا بحق أهلاً للقرب، ولم يكن سبقهم في العبادة فقط، بل سبقوا في الصبر، والجهاد، والإحسان، واليقين، والصدق؛ فلما كانت همتهم عالية، ومقاماتهم سامية، رفعهم الله إلى منزلة لا تضاهيها منزلة، وجعلهم في "جنات النعيم"، في مقعد صدق، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

ولكي تسير على خُطاهم أيها القارئ العزيز: اجعل قلبك معلقًا بالله دائمًا، ولا تكتفِ بالمألوف من الطاعات، بل زد عليها حبًا وسعيًا. كن سريعًا إلى الخيرات، لا تنتظر، ولا تتردد، فاللحظة التي تضيع قد تكون هي اللحظة الفاصلة بينك وبين مقام السابقين. طهر نيتك، واجعل كل عملك لله، فالسابقون لم يكونوا الأكثر عددًا في العبادات فحسب، بل كانوا الأخلص نيةً والأصدق قلبًا.

لا تنظر إلى من هو دونك؛ بل اجعل أنظارك دائمًا معلقة بمن سبقوك، وأطلق لنفسك العنان للحاق بركبهم؛ فالسابقون السابقون لم يكونوا خارقين؛ بل كانوا بشرًا مثلنا، لكنهم عرفوا قيمة العُمر، فاستثمروه في طاعة الله، وأدركوا أن الحياة الحقيقية ليست هنا، وإنما هناك، حيث القرب والنعيم المقيم؛ هؤلاء السابقون لم يكن سبقهم عشوائيًا، بل كان ثمرة يقينٍ وإخلاص، وجهادٍ متواصل مع النفس، وحرصٍ على اغتنام اللحظات قبل فوات الأوان؛ فالسباق إلى الله لا ينقطع، وأن المقاعد في رحابه لا تُحجز إلا بالجهد، والإخلاص، والتجرد عن كل ما يثقل الروح عن التحليق؛ فكل إنسان لديه فرصة أن يكون من السابقين إذا أخلص لله وسارع في فعل الطاعات، وعمل الخيرات.

في الختام.. يبقى السباق إلى الله أعظم سباق، لا يفوز به إلّا من سَمَتْ همته، وصَفَتْ نيته، وجاهد نفسه في طريق القرب والرضوان؛ فطوبى لمن حمل مشعل السبق، وارتقى في مدارج السائرين إلى رضوان الله، فظفر بالنعيم الذي لا يزول، ولم تشغله الفانية عن الباقية، فحاز رضوان الله قبل أن يُغلق الباب، ويفترق السائرون بين المقربين والمحرومين؛ فلنستلهم من سيرتهم العطرة العزم والمثابرة، ولنحرص على أن نكون من السابقين في أعمال الخير، علّنا نحظى بمكانة عند الله يوم الفصل والحساب؛ فالطريق لا يزال مفتوحًا، والسباق لم ينتهِ، والفرص تُمنح لمن يشاء أن يسابق، فهل نرضى بالدون، وقد دعينا للعلو؟ "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..."نداءٌ لمن أراد أن يكون من الفائزين. جعلنا الله وإياكم من "السابقون السابقون أولئك المقربون".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

عذرًا سيدتي الزوجة

لقد كان سعيدًا قبل زواجه، ولكنّ بعد الزواج أصبح حزينًا، بل شقيًا محرومًا، فليتَهُ لم يتزوجْ، وما كان له أنْ يتورط … إذْ تبدلت الأحوال، وساءت من حال إلى حال. 
تلكم عباراتٌ يرددها كثير من الشباب، وتلوكها ألسنة أشباه الرجال، بل ويتهمون الزوجة باتهامات مزعومة، ويدعون أنها شيطان رجيم، وما هي بشيطان، وإنما هو ذلك الشيطان الذي نشأ وترعرع في بيئة سيئة.
تلكم عبارات اعتدنا مؤخرًا أنْ نسمعها، وتطوّر الأمر حتى صرنا نشاهدها عبر فيديوهات من هنا وهناك، تارة تسخر من الزوجة، وتارة أخرى تصورها أنها مصدر النكد، وقد تحولت العلاقة بين الزوجين لسخرية واستهزاء، وأضحت مجالا للتندر والاستهبال، ويصدر ذلك  أحيانًا -للأسف- من زوجين بهدف زيادة المشاهدات، وما هي إلا جمع سيئات، فبئس الزوجين هما، وبئس ما يفعلون..
وقد أمضّني كثيرا رؤية بعض الأسر التي لديها شاب سيئ الخلق، مقبل على الزواج، وتبحث هذه الأسر جاهدةً عن زوجة لابنها السيئ، على أن تكون ذات خلق ودين؛ كي يتزوجها، فربما تصلح من حاله، وتعلي من شأنه، لعل الهداية تكون على يديها، وما أرادوا لها إلا أنْ تتورط، فلا حبذا الابن ولا حبذا أسرته!
ويا له من ظلم بيّن، وغش وخداع، بل كذب وتضليل، قد ارتكبه هؤلاء في حق تلك الزوجة، التي ابتليت بحياة بائسة مع ذلك الشقي المأفون، فما ذنبها كي يكون مصيرها مرتبطًا بذلك الشقي؟؟ 
إنّ مثل هذه الزوجة ربما تكون زوجتك، وقد تزعم أنْ ما لا يعجبُك فيها أكثر مما يعجبك، وأنّ ما تكرهه فيها أكثر مما تحبه، وربما تشتكي عدم طاعتها أو انقيادها لك بسهولة، وربما تشتكي إهمالها لك بعد فترة من الزواج، وخصوصا بعد إنجاب أطفال، وربما تشكو كثرة أنينها ودموعها حين تناقشها وتحْتدُّ في جدالها، والأمر قد يطول لدى بعضنا؛ فيعيش حياة بائسة بلا روح ولا شعور، بل يتطور الأمر أحيانًا ويزداد تعقيدًا، وربما يكون الطلاق نهاية حياة آمنة، كانت الزوجة فيها السكن وكانت المودة.
ولذلك علينا أنْ نتعرف إلى طبيعة المرأة كما خلقها الله وهيأها؛ لأننا لو عرفنا ذلك، لما طلبنا منها ما نطلبه من الرجل، بل لرحمناها وأشفقنا عليها أكثر، فهي الأم الحنونة الصابرة، والزوجة المجاهدة معك ومع أولادها، في رعايتهم وتربيتهم، وهي الأخت التي لا تدخرُ جهدا في مساندة أخيها، وهي البنت التي تفيض حنانًا ورقةً على والديها.
على أنّ هناك أمورًا لا يمكن للمرأة أنْ تكون فيها مثل الرجل، وكذلك الرجل لا يمكن أنْ يؤدي دور المرأة في أحيان كثيرة، ليس لعيب في أحدهما، بل هي فطرة الله التي اقتضت أنْ يميز كليهما عن الآخر؛ حتى تستمر الحياة بشكل طبيعي.
على أنني آثرت إلا أنْ أستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن المرأة، هذا الحديث الذي يستخدمه البعض ضد المرأة في سياقات خاصة لمصلحتهم الخاصة، إذ قال – صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمُه كسرته، وإنْ تركته لم يزلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا ".
فالرسول – صلى الله عليه وسلم يخبرنا أنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإنّ هذا العوج من طبيعة المرأة وفطرتها، فإذا أراد الرجل أنْ يقيمه أخفق ولم ينجح مهما فعل، بل ينكسر الضلع. فهكذا أراد الله – سبحانه وتعالى.
وقد يقول قائل هذا دليل مؤكد على نقص في المرأة، ويتخذ ذلك ذريعة على السخرية منها أو الاستهزاء بها، ونسي تمامًا وصية الرسول – صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالنساء خيرا " فهي وصية واجبة على الجميع، فما أكرمهنَ إلا كريم، وما أهانهنَ إلا لئيم.
لقد أراد الله -سبحانه وتعالى اكتمال الحياة بين الرجل والمرأة، ففي المرأة نقص في جانب، ووفرة في جوانب عدة، وكذلك الرجل لديه نقص ولديه وفرة، فما ينقص في المرأة يتوفر في الرجل، والعكس صحيح؛ حتى يتقابلا ويكملا بعضهما، وهكذا..
إنّ كلمة العوج التي أشار إليها رسولنا العظيم في حديثه، تذكرنا بصورة الأم التي ترضع طفلها، فهل ترضعه وهي منتصبة القامة، هل تلبسه ثيابه وهي منتصبة القامة، وكيف تضمه إلى صدرها لترويه طعامًا وحنانًا، وهي منتصبة القامة؟
هذه صور عديدة نستحضرها في أذهاننا، وننحني أمامها؛ لندرك أنّ المرأة إذا خلت من العوج، فإنّ هذه الصور كلها قد تختفي، فهل تخيلنا ما يحدث، وهل تستطيع أيها الرجل أنْ تقوم بما تقوم به الزوجة؟
ولعلنا نلاحظ أنّ جميع الأعمال التي تتطلب من الأم رعاية ابنها، تقوم بها وهي منحنية القامة، وهذا ربما يفسر سر خلقها من ضلع أعوج، والله أعلم.

وإذا بحثنا في معاجمنا العربية وجدنا أنّ كلمة العاطفة ترتبط بالعوج، فأصلها "عَطَف" ومنها اشتق المنعطف، وهو المنحني، وفي لسان العرب: عطفت رأس الخشبة فانعطف، أي حنيته فانحنى. وكلمة الحنان تحمل معنى العاطفة والعوج أيضًا، تقول العرب: "انحنى العود وتحنى: انعطف".
أيُها الزوج النبيل، اعلمْ أنْ الزوجة مثل الطبيعة، فيها الري والنماء والخير، وقد يكون فيها الزلازل والبراكين، فكن صادقًا معها، تكسبْ ثقتها وحبها، وافهمْ احتياجاتها، وكما قالوا: 
"مقبرة المرأة رجل لا يفهم، ومقبرة الرجل امرأة لا ترحم" ولا تنسَ أنْ الصدق أساس لكل الفضائل الإنسانية، وإياك أنْ تقلل من شأنها، واحترمْها دائمًا وإنْ خالفتها في رأيها، وحينئذٍ سوف تغدق عليك عطفها وحنانها، واحذرْ أنْ تظلمها أو أهلهاعند حدوث خلاف معها. قمْ بواجبك دائمًا، وكنْ رجلًا نبيلًا في رضاك وغضبك، وابتسم دوما في وجهها، واصبرْ إنْ لم تعجبك بعض تصرفاتها، فإنْ عاملتها هكذا، فثقْ أنّها سوف تكون كما تريد في رضاها وغضبها.

مقالات مشابهة

  • الحرس الثوري الإيراني: حذرنا حزب الله من البيجر قبل تفجيرها
  • الأطفال الذين يقضون وقتا طويلا أمام الشاشات أكثر عرضة للفشل الدراسي
  • هكذا فعل الغماري وهكذا رحل!
  • “ميك والاس” يشيد بدور اليمن و”أنصار الله” في دعم غزة
  • الدعاء عند سماع الرعد.. ما هو؟
  • كراكتير عمر دفع الله
  • مواقِف لا تنسى
  • عذرًا سيدتي الزوجة
  • القائد الغُمَاري.. رجل بمستوى التحديات
  • وفاة الملازم عبدالله الخضير في حادث سير