د. الهادي عبدالله أبوضفائر

فرحة الانتصار، التي وقف فيها الجيش والقوات المساندة له صامدين كالجبال، مُقدمين الغالي والنفيس، ليس مجرد واجب، بل كعهدٍ خالدٍ لا ينكسر. لم يكن هذا الفداء إلا انعكاساً لروحٍ، لا تعرف الانحناء، وعزيمةٍ تتحدى المستحيل، حيث امتزجت الدماء بالحلم، والتضحية بالمجد. إنها فرحة لم تكن مجرد نشوةٍ لحظية أوفرحة خاطفة، بل كانت ذروة ملحمة إنسانية، تماهت فيها دموع الشعب مع دماء الأبطال، لينسجوا معاً رايةً لا يطويها النسيان.

ففي كل قطرة دمٍ سُكبت، وفي كل صرخة ألمٍ علت، كان هناك وعدٌ يولد، بأن هذا الوطن لن يكون إلا حراً، عزيزاً. أنها ملحمة إنسانية خُطّت بمداد التضحية، حيث التقى الألم بالأمل، والفقد بالمجد.

وسط قرع طبول الفرح، وفي غمرة الزهو بالنصر المستحق، يلوح في الأفق سؤال أشد عمقاً، يتجاوز لحظة النشوة ويخترق حجاب المستقبل: ماذا بعد؟ هل الانتصار خاتمة المسير، أم أنه أول الخُطى على درب لا يقل وعورةً عن دروب القتال؟ وهل النصر مجرد احتفاء بلحظة الفوز، أم يمكن تحويله إلى بذرة تُغرس في تربة المجد، فتنمو وتزدهر، لا لتذبل مع مرور الزمن، ولا لتبهت تحت وطأة الاندثار؟ إن الانتصار ليس راية تُرفع في يوم الفوز ثم تُطوى مع تعاقب الأيام، إن أعظم الانتصارات لا تُقاس فقط بما يُكتسب من أرض أو يُحقق من غايات، بل بما يُترجم إلى وعي حضاري قادر على اجتثاث أسباب الفرقة والشتات. فالشعوب التي لا تعي أن قوتها الحقيقية تكمن في وحدتها، تظل أسيرة دوائر الصراع، تتكرر أخطاؤها بأسماء مختلفة، وتتعثر خطواتها على الطرق ذاتها. أكتوبر، تفتحت فيها أزهار الحرية حينما أعلن الشعب عن رغبته في حياةٍ كريمة، لا يطالها الاستبداد ولا تُغشيها ظلال الفقر. وفي أبريل، ارتسمت ملامح التجدد بجرأة الأمل والإصرار على التغيير، حيث صار الحلم واقعاً يستحق النضال. وفي ديسمبر، ترددت أصداء الثورة لتحكي قصة شجاعة لا تعرف الاستسلام، قصة شعب أضاء درب الحرية بكفاحٍ لا يلين. ولكن، يبقى السؤال: هل لدينا الاستعداد أن نحافظ على النصر؟ هل نحن مستعدون للوقوف أمام اختبار الزمن، وحماية النصر حتى لا يصبح سراباً يذبل مع مرور الأيام؟ هل سنكتفي بظل وهج لحظي، أم سنغرس بذور هذا النصر في تربة الاستمرارية، ليرتقي من مجرد لحظة انتصار إلى مسيرة حضارية تُخلّد في صفحات التاريخ.

حينما يصمت أزير البنادق، هل ذلك إعلاناً للانتصار المطلق، وضماناً لسلام دائم وتعايش بين المكونات، أم أنه بزوغ فجر أشد تعقيداً، معركة إعادة البناء واستعادة التوازن؟. الهزيمة العسكرية، مهما بدت ساحقة، ليست سوى سطر في فصل طويل من التاريخ، فالتحدي كيف نعيد ترميم مجتمع أرهقته الحروب ومزقه خطاب الكراهيه، وأُنهكته دوامة الصراعات؟ إن سقوط الميليشيات لا يعني بالضرورة سقوط الأفكار التي أنجبتها، ولا يمحو الخراب الذي خلّفته في بنية الدولة والمجتمع. فالنسيج الاجتماعي الذي أصابه التمزق لا يلتئم تلقائياً، بل يحتاج إلى وعي عميق وإرادة سياسية صلبة لترميم الهوية الوطنية، وردم الفجوات التي تسللت منها، وبناء أسس لدولة لا تقوم على أنقاض الأزمات، بل تتجذر في العدل والاستقرار. فالانتصار ليس إسقاط كيان مسلح، بل في تأسيس نظام يحول دون ظهور كيان مماثل، وفي بناء وطن محصّن ضد التميز، عصيّ على التصدع، لا تتغذى مؤسساته على الصراعات، بل ترتكز على سيادة القانون، وتُعلي قيم المواطنة، حتى لا تتكرر المأساة في دورة أخرى.

إن سقوط الميليشيا، وإن كان منعطفاً مصيرياً، لا يعني بالضرورة محو الخوف المتجذر في الذاكرة الجمعية، ولا يضمن زوال الكراهية التي تغلغلت في النفوس. فالحرب، بطبيعتها، لا تنتهي بمجرد إسكات البنادق، بل تواصل حضورها في الوعي، تفرز أسئلتها القلقة، وتفرض تحدياتها الأشد تعقيداً: العدالة والمصالحة. وهنا، تُختبر الدولة لا كسلطة قهر، بل كحكومة قادرة على إدارة مرحلة ما بعد الحرب، حتى لا تتحول الهزيمة العسكرية للميليشيا إلى مجرد محطة في دورة أزلية من الفوضى. فالتاريخ يُعلِّمنا أن الفراغ، إن لم يُملأ ببناء راسخ، صار تربة خصبة لولادة أشكال جديدة من العنف، يعيد إنتاج الخراب بأقنعة مغايرة. أخطر ما قد تواجهه أمة خارجة من نفق الاحتراب هو أن تترك جراحها مفتوحة، نهباً لرياح الضعف والانقسام التي تنتظر فرصة جديدة لتقتات عليها. لذلك، فالهدم وحده ليس انتصاراً، ما لم يتبعه بناءٌ راسخٌ يعيد التوازن، ويمنح لكل ذي حقٍ حقه. وكما أن السلاح قد يسكت صوت الفتنة مؤقتاً، فإنه لا يستطيع اقتلاع جذورها إن لم تُجتث معها أسباب الظلم، وإن لم يُسدَّ فراغ العدالة الذي تتسلل منه الفوضى.

المسألة أعمق من مجرد استرداد المدن ورسم الحدود، إنها استعادة الإنسان، وانتشاله من الأنقاض التي شوهت وعيه وأربكت انتماءه. إنها لحظة إعادة تعريف الهوية الوطنية بعيداً عن تشظيات الأيديولوجيا وضجيج الانقسامات، لحظة يُكرَّس فيها سلطة القانون ليعلو فوق همجية السلاح، الانتصار لن يكتمل إلا حين ينعكس في نفوس الأفراد قبل أن يُسجَّل على خرائط الأرض. ومهما بلغت عظمتها، تظل لحظية ما لم تتبعها انتصارات أكثر عمقاً على جبهات الفكر، والاقتصاد، والسياسة. فالحروب قد تهزم الجيوش، لكنها لا تهزم الأفكار، ولا تمحو جذور الصراعات إن لم تُجتث بأدوات أكثر حكمة ورسوخاً. تكتمل الفرحة حين حين يتحول النصر من مجرّد تفوّق عسكري إلى نهضة شاملة، تعيد صياغة الوعي الوطني، وتمنح الشعوب أسباباً حقيقية للسلام والاستقرار. وتنتقل المعركة من ميادين السلاح إلى ساحات الأفكار التي تنبذ الكراهية، وتقتلع جذورها من العقول، وتكسر الدوائر المغلقة التي تعيد إنتاج العنف بأشكال جديدة. إنها لحظة فارقة، يُختبر فيها وعي الأمة وقدرتها على تجاوز الانقسامات، وردم الفجوات، وترميم النسيج الوطني بعيداً عن ثارات الماضي. فإعادة بناء الأوطان لا تُنجز عبر ركام الحروب، بل على أسس العدل والتنمية، لا يكون السلام حقيقياً إلا إذا كان مستداماً، ولا تكون الدولة منيعة إلا إذا كانت عادلة. فالقوة وحدها قد تفرض الاستقرار، لكنها تظل هشّةً إن لم تسندها عدالة حقيقية تحفظ الحقوق وتصون الكرامة. حتى لا تجد الحرب ما تقتات عليه وتعيد انتاج نفسها. فالحروب لا تندلع من فراغ، بل تولد من رحم الظلم، وتتغذّى على الإقصاء والتهميش، وتنمو في بيئة يغيب فيها العدل ويسود فيها الفساد.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: حتى لا

إقرأ أيضاً:

متخصصون في مناقشة "الزمن الأخير": رواية نفسية كاشفة أكثر من كونها اجتماعية

 

استضاف بيت السناري التابع لمكتبة الإسكندرية مساء أمس حفل مناقشة رواية "الزمن الأخير" للكاتبة الصحفية والروائية نوال مصطفى، وذلك في حضور العديد من الشخصيات.

شارك في الندوة كل من، الدكتور هيثم الحاج علي رئيس هيئة الكتاب الأسبق والدكتور منير عتيبة مدير مختبر سرديات الإسكندرية، والشاعرة فاطمة ناعوت، والكاتب السيد شحتة وتناولت الندوة البنية السردية للرواية التي تعتمد على حكايات متوازية ومتقاطعة تنتهي بقصة تعيد طرح سؤال الانغماس في الماضي على حساب معايشة الحاضر. 
وفي كلمته قال الدكتور هيثم الحاج علي:" تبدو العلاقة المعقدة بين الزمان ومروره والمكان واضحة حين تختار شهد بعد طلاقها من زوجها أن تعيش في بيت العائلة بالسيدة زينب، لتتضح رمزية ارتباط المكان بالماضي وبالذاكرة خاصة حين تتحول حياة شهد من الركود إلى الفعل وليصبح المكان القديم جزءا مهما من فعل المقاومة الذي ينتهي بصالون بيت العائلة البوتقة التي تجمع الشباب مع الكبار والتي تضم قلوب الجميع على المحبة والمعرفة بوصفهما الملاذ الأكثر أمانا في عالم يتغير.
وأضاف:" تقوم الرواية ببناء شخصياتها بدقة وشفافية منذ بداية السرد حين تعمد إلى تقنية رواية الأصوات لعرض الشخصيات الأكثر أهمية داخل مجال النص، حيث يتم سرد الوقائع الممثلة لتاريخ الشخصيات في تصاعد درامي منفصل لكل شخصية لكنه متصل في الآن نفسه عبر خيط أحداث يكون الحكاية الإطار – وهي حكاية شهد وأسرتها – في مقابل بناء حكايتين أخريين إحداهما عن الوطن والتاريخ والأخرى حول الذات في صراعها مع الزمن.


فيما قال الدكتور منير عتيبة:" إن هناك سؤال مفصلي يتردد صداه في المخيلة عندما سماع عبارة الزمن الأخير وهو ما الذي سيتبقى في الوجود بعدها وإلى أين سيصير هذا الوجود البشري؟.
وأضاف "عتيبة":" لا يمكن تصور وجود الإنسان بدون زمن لكننا سريعًا نكتشف أن الزمن الأفضل هو ذلك الذي لا نستسلم له مشيرا إلى أن الرواية تناقش أزمة الذاكرة في مفتتحها من خلال حالة القلق التي تعاني منها بطلة العمل "شهد" بسبب إصابة امها بالزهايمر حيث تخشى من لحظة مريرة تتجرع فيها من الكأس نفسه وتنسى فيها كل شيء.

وأكمل:" إن الرواية تتميز بمتعة البساطة في لغة السرد التي تتسم بالسلاسة والمباشرة مع وجود بعد شعري حاضر بقوة، وأن التحدي لا يقف عند حدود الأزمة التي تعيشها البطلة بسبب التحولات التي تجري من حولها والخوف من فقدان الذاكرة لا يقف عند حدود الأشخاص وإنما يمتد إلى تحديات بالجملة تواجه الأوطان.

وأشار "عتيبة" إلى أن نوال مصطفى تطرقت في رواية الزمن الأخير إلى ضرورة إعادة بناء وعي الأجيال الجديدة عبر بيت العائلة والذي اختارت أن تكون السيدة زينب مقرًا له لذا فإن التشابه بين بيت السناري وبيت العائلة لا تخطئه العين.

وأكد عتيبة أن المؤلفة اختارت أن تطعم روايتها بعدد من الرموز التي نعرفها جميعا مثل الشاعر أحمد الشهاوي والدكتور أحمد عكاشة واللذين كنت أتمنى لو أتيحت لهما الظروف التواجد معنا خلال مناقشة هذا العمل المختلف.

وفي ختام حديثه أشار منير عتيبة إلى أن نوال مصطفى نجحت في رواية الزمن الأخير في الابتعاد عن " الكليشيهات" الشائعة خاصة فيما يتصل بالقضايا التي تتماس مع بعض المشكلات التي تعاني منها المرأة في مجتمعاتنا.

من جانبها قالت الكاتبة فاطمة ناعوت أن رواية الزمن الأخير رواية نفسية كاشفة أكثر من كونها عمل اجتماعي حيث تتناول شخصية البطلة شهد التي تشعر في لحظة ما أن الحياة أخذت منها أكثر مما منحتها.

وأضافت "ناعوت" إن شهد تقوم في مرحلة ما عندما تلتقي بطارق الذي تقع في حبه بإعادة رسم حياتها من جديد وتشكيل علاقتها بالآخرين من حولها هي تتمسك بالأمل وطالما أن الحياة لم تنتهي بعد فإن الكثير من الأماني تظل ممكنة.
من جهته قال الكاتب الصحفي والروائي السيد شحتة:" إن هناك سؤالا يجب طرحه قبل تقديم قراءة نقدية لأي عمل أدبي هو لماذا نكتب ولماذا نقرأ؟، وهل دور الأدب أن يتماهى مع الواقع أو أن يجسد حجم تناقضاته الصارخة وربما إعادة تشكيله وفقًا لما نريد أن نراه عليه؟، وربما يفعل هذا كله، نحن داخل النص الأدبي ربما نبعث عن المتعة أو التسلية أو نتلمس لحظة خلاص أو انعتاق من ضغوط شتى فاقت قدرتنا على الاحتمال.

وأضاف:" إن رواية الزمن الأخير واحدة من الأعمال التي يمكن أن نجد بين سطورها أشياء كثيرة فقدت منا في زحام الحياة اليومية كما أنها تعيد فتح الكثير من القضايا الكبرى مثل أسئلة الهوية والذات في مواجهة العالم والعلاقة بين الشرق والغرب.

وأشار "شحتة" إلى أن الرواية تشتبك بجرأة شديدة مع الكثير من القضايا المجتمعية المسكوت عنها والتي يحظر بقوة الأمر الواقع الاقتراب منها مثل حق المرأة في أن تحب وأن تتزوج عندما يصل أبنائها إلى سن الشباب

وأكد أن الرواية تناقش صراع الإنسان في مواجهة الزمن وضرورة الانتقال من مرحلة الانصياع والرضوخ الكامل له إلى ضرورة ترويضه.

واختتم:" إن الفكرة الفلسفية لرواية الزمن الأخير تدور حول ضرورة تحرير الإنسان من سطوة الزمن حتى يصبح حرًا طليقًا.

فيما علقت الكاتبة والراوئية نوال مصطفى بقولها:" لسنا مجرد أرقام والحياة لا يجب أن تتوقف عندما يصل الإنسان لسن معين
وأضافت:" إننا كبشر لسنا مجرد أرقام فلكل واحد منا حياته الخاصة وأحلامه التي يريد تحقيقها وما دام الإنسان قادرًا فيجب أن يعيش الحياة كما يريد أن تكون ولا يستسلم إلى النظرة التي تجعله يقف مستسلمًا للواقع من حوله لمجرد أنه وصل إلى سن معين.
وتابعت " مصطفى":" إنني عندما اتخلى عن موقعي ككاتبة وأقرأ الرواية الآن من موقع القراء فإنني أجدها مشحونة بهموم وقضايا نفسية ومشكلات مازلنا حتى الآن نعاني منها.
وحول اسم بطلة الرواية قالت:" اسم شهد يعبر عن الشخصية المحورية التي أردتها وملامح الجمال التي تميزها وهنا أشدد على أمر بالغ الأهمية وهو أن الجمال تيار يسري من الداخل إلى الخارج فعندما ترى نفسك جميلاً سوف يراك الآخرون بالشكل نفسه. 


وأشارت نوال مصطفى إلى أن الصحافة وفرت لها الفرصة للتعرف على الناس خاصة البسطاء منهم عن قرب ومعايشة الكثير من همومهم ومشكلاتهم وهو ما استفادت منه كثيرًا في أعمالها الروائية وكتاباتها الأدبية.
واختتمت:" إن رواية الزمن الأخير تعرضت للانتقادات من بعض القراء بسبب التحولات التي مرت بها شهد والسبب أن البعض يحاول أن يحاكم الفن بمقاييس قيمية ويتناسى أن الخيانة والطلاق والحب والكراهية كلها أمر واقع.

مقالات مشابهة

  • حارس الكويت: منتخب مصر زعيم إفريقيا وكنا نتمنى تحقيق الانتصار
  • حديث عن قمة المنامة وما بعدها ..الخليج في لحظة إعادة تشكيل دولي وإقليمي ودورة حضارية جديدة
  • وزير الخارجية الإسرائيلي لـ أورتاغوس: نزع سلاح حزب الله شرطٌ لمستقبل لبنان
  • الإطار:لن”ننام الليل” إلا بعد “كشف” الجهة التي قصفت حقل السليمانية الغازي وموضوع تشكيل الحكومة ضمن خارطة المحاصصة
  • هدف قاتل في الدقيقة الأخيرة.. “الفدائي” يفوز على منتخب قطر في افتتاح كأس العرب
  • إسرائيل تقر بقتل طفلين شمال غزة وإكس يكذّب رواية الاحتلال
  • متخصصون في مناقشة "الزمن الأخير": رواية نفسية كاشفة أكثر من كونها اجتماعية
  • رؤية جديدة لمستقبل واعد.. الدبيبة يفتتح مؤتمر «الدبلوماسية الليبية»
  • صناعة الخـوف قراءة في رواية «الرّوع» لـ زهران القاسمي
  • تعرف على الدوائر التي الغيت فيها انتخابات النواب بالمنيا